ولادته :
ولد السيد الشيخ عبد الكريم قدس الله سره بن السيد الشيخ عبد القادر الكسنـزان قدس الله سره سنة (1336هـ) الموافق (1915م) في قرية كربجنه في عائلة دينية ، حيث كان والده شيخ الطريقة والإرشاد ، وعقب والده وأخوه الشيخ حسين قدس الله سره فتربى على يد شيخين جليلين قدست أسرارهم جميعا .
ولقد كان منذ نشأته كريم النفس رقيق القلب إذ يروى عنه انه كان في طفولته يطلب من أبيه ان يعطيه خروفا ليذبحه ويوزعه على أطفال القرية الذين كانوا كلهم أصحابه ولما كان بعض الكبار يتدخل لرده كان والده السيد الشيخ عبد القادر الكسنزان قدس الله سره يقول لهم : ( نفذوا أوامره فأن لهؤلاء الأطفال حقا عليه يراه هو ولا ترونه انتم )، وكان أكثر ما يحب من أطفال القرية الفقراء والمعدمين ويحب خدمتهم وهو لما يزل دون العاشرة من عمره ويقف الى جانبهم ويطعمهم من طعامه وكثيرا ما يؤثرهم على نفسه .
ويراه الناس على قدر كبير من الحكمة بالرغم من صغر سنه فكان يتدخل لحل المنازعات بين أصحابه ويصلح ذاتهم مما كان يجلب انتباه الناظرين إليه يتابعونه وينقلون تصرفاته الى والده الذي كان يرعاه كثيرا ويشجعه .
هكذا كان هذا الغصن اليافع من الشجرة الطيبة تحلق به تلك الروح الملائكية اللطيفة ، وهذه هي بدايته كان يحب ان يكون مثل بقية المريدين في الوقوف بين يدي الشيخ بكل تواضع وأدب حتى أصبحوا هم يقلدون سلوكه ، ولما بلغ أشده مارس التدريب على الفروسية وتحلى بجميع فضائلها فكان يخرج للصيد على جواده وكان في الغالب لا يصحب أحدا لأنه أحب الانفراد والخلوة الى نفسه ، ولقد تمسك تمسكا شديدا بالقرآن العظيم وسنة الرسول الأعظم ﷺ فأحب العبادة والاختلاء ومجاهدة النفس حتى نال درجة عالية من الولاية ،لقد كان السيد الشيخ حسين الكسنـزان قدس الله سره يحبه حبا شديدا لما كان يرى فيه من عظمة وتواضع وقابلية في خدمة الدين الحنيف ، وكان كثيرا ما يصطحبه معه عندما كان يذهب ليلا الى الجبل ليتعبد فيه فيمكث معه أياما وليالي وكان هو الشخص الذي يرافقه في خلوته ويقوم على خدمته حتى أصبح في أواخر أيام الشيخ قدس الله سره الوسيلة التي تربط بين شاه الخلوة المعتكف والمريدين في الخارج فكان يقول له السلطان حسين قدس الله سره أنت مكلف بشؤون المريدين ، وبذلك أجلسه على سجادة المشيخة وهو مازال على قيد الحياة وأمر المريدين بالاتجاه نحو شيخهم الجديد واخبرهم بان جميع أمور الطريقة والإرشاد منوطة بالسيد الشيخ عبد الكريم وأما هو فقد ظل مستمرا على الخلوة والاعتكاف حتى وافاه الأجل وذهب لملاقاة ربه وهكذا استمر المريدون يجتمعون عند الشيخ عبد الكريم قدس الله سره الذي تولى أمرهم وقام بشؤونهم خير قيام .
صفاته :
ان مثالية السيد الشيخ السلطان حسين قدس الله سره ووالده وجده ممثلة في شخصية السيد الشيخ عبد الكريم الكسنـزان قدس الله سره، لقد كان الشيخ عبد الكريم قدس الله سره كما ذكرنا يحب الفروسية وكان كريما وشجاعا قوي البنية شديد المراس عليه علامات الهيبة والوقار والى جانب ذلك كان صبورا لا يحقد ولا يغضب على احد الا في حدود ما شرع الله كما كان صريح البيان ويحب الإيجاز في الحديث إذا تحدث في الله فرح ولان وإذا نصح صرح وهان ومجالسته ترد القلوب بالود الى علام الغيوب ، قوي الإرادة كريم الخلق محب للفقراء إذا جلسوا عنده مازحهم ولاطفهم وتودد إليهم ، يحبهم ويقربهم في مجلسه .
يعطف على الأيتام والأرامل وينفق عليهم بسخاء لا يخاف في الله لومة لائم شديد على الظالمين والمتكبرين فلا يدخل مجلسه من كانت فيه إحدى هاتين الخصلتين خوفا من صراحته الا من تاب وآمن وعمل صالحا ، وقد خطى الخطوات التي خطاها أخوه ووالده وجده من قبل في تدبير شؤون الطريقة والوعظ والإرشاد .
ويهتم كثيرا بتطبيق تعاليمهم بين المريدين لأنه المرجع الأعلى والأصيل للطريقة القادرية الكسنـزانية ، وكان يفرغ العلم الروحي والأحوال على المريدين ما يأخذ المريد بالهمة تدرجا للصفاء الروحي وكثيرا ما كان يوصي بحسن الخلق وقوة العقيدة .
سماحته :
لقد كان يحب التائب ويفرح به ويدعو له ، وهو ذو رأفة بالمريدين يأخذهم باللين والسماحة ويشوقهم الى الله ويطمئنهم به ويُفرح قلوب الفقراء كثيرا ما يسامح المعتدين وإذا ما جاءه شاك صبره .
وقال له : ( ان الله يرانا ويراهم فاصبر واحتسب نسأله الهداية لهم )، فما ان يصل كلامه الى آذان المعتدين والظالمين حتى ترق قلوبهم فتشدهم اليه شدا فنراهم في اليوم التالي قد تابوا وأصلحوا لأنه قدس الله سره عارف بدواء العلل وله في كلامه صولة ، صولة حق فيها رغبة ورهبة يرغبها أهل الحق ويرهبها غير أهله وياله من صوت روحي يدفع الباطل فأذا هو زاهق .
توكله :
كان كثير التوكل على الله فهو لا ييأس ولا يقنط قط وحاشاه من ذلك ، فاذا ما سألته عن شيء .. أي شيء .. ملتمسا منه الدعاء يبادرك قائلا ( على الله … الله كريم ابني )، فتكون عبارته هذه دواء لكل العلل ، كريم في كل شيء شريطة ان لا يؤثر على سلوك المريد ونهجه ، فكان كثير ما يحذر من الدنيا ويصفها بأوصاف ذميمة لأنه لا يرغبها لمريديه .
اعتكافه :
كان يعتكف في غرفة صغيرة مخصصة له فيها حصير يجلس عليه وأمام الحصير رحلة صغيرة يعلوها المصحف الشريف وخلفه على الجدار سيف معلق , وكان يقضي اغلب يومه منفردا يقرأ القرآن ويتلو أوراده الخاصة به ويصلي وكان كثير النوافل حتى انه ليسجد السجدة بعد نافلة المغرب لا يرفع رأسه منها حتى آذان العشاء وتسمع له بكاءا وحنينا ، فهو قليل من الليل ما يهجع وله أدعية خاصة يقرأها ، كثير التوسل الى الله عز وجل ، كثير البكاء قليل الضحك ، وكان يقضي اغلب أيامه صائما ويكتفي أحيانا بشربة ماء ولم يسغ الا النـزر اليسير من الطعام البسيط ولم يكثر من تناول شيء سوى الشاي .
زهده :
كان زاهدا لا يرغب في الدنيا وله أقوال كثيرة في الزهد دائما يحذر من الدنيا ويقول إنها ناعمة الملمس حادة الأسنان ، سامة اللسان وان رأس مالنا فيها ما خلقنا لأجله في الآية الكريمة:وما خلقت الجن والأنس الا ليعبدون.
كما ترى زهده في بساطة ملبسه حيث يرتدي الملابس البسيطة ويرغب الخشنة منها وكانت تمر عليه سنة أو أكثر وتراه في ملبس واحد فهو لا يرغب الجديد ، وينتعل حذاءا خفيفا من القطن مما يلبسه من عُدم من الناس ، ولا يجدد ملابسه حتى ترى عليها أثرا لتهديب خيوطها ، ومن أعظم مآثر زهده انه ما جلس عنده وقام من مجلسه حتى آثر حياة الزهد وفضله على الترف ، فتراه يصبح سخيا زهدا ملتفتا عن الدنيا متجها الى الآخرة داعيا لها محذرا الناس منها ، وهذه بركات مجالسة الزاهدين فمن جلس مع أهل الدنيا قام بحبها ومن جلس مع أهل الآخرة قام بحبها وأرفع الهجرة إليها .
هجرته وإرشاده :
هاجر السيد الشيخ عبد الكريم الكسنـزان قدس الله سره الى قرية (ميرخاو) في إيران فدخل القرية وأقام بها واجتمع حوله آلاف المريدين والمحبين فكرس جهده لإرشاد الخلق ونشر تعاليم الطريقة بين الناس ، وبقي في القرية ما يقارب السنة ثم هاجر بعدها الى (سنندج) وأقام فيها فترة من الزمن ولقن الطريقة خلالها لآلاف من الناس وترك لهم خلفاء وتكايا عديدة وترك لهم تعاليمه السديدة التي لا يزال يتناقلها الأبناء عن الآباء والأحفاد عن الأجداد ، ثم انتقل بعدها الى مدينة مشهد وقابل عدد من رؤساء العشائر ووعظهم وأرشدهم وأصبحوا من أتباعه ومريديه ، واجتمع عنده آلاف من المريدين والمحبين فتزايد عدد أتباعه ومريديه حتى صار تنقله صعبا ومكلفا لأن آلافا يتبعونه حيثما حل وارتحل .
وهكذا تنقل الشيخ قدس الله سره في أنحاء إيران وهو يحمل تعاليمه في الزهد والورع ويرشد المريدين ويسدي النصح لعوام المسلمين ويبني التكايا والمساجد ويصلح بين الناس ، حتى دخل طهران والتقى بعدد كبير من الناس ثم عاد بعد ذلك الى ميرخاو ، وثم الى بنجوين في العراق وأقام في قرية بوبان وبنى تكية وبيتا يسكن فيه مع عياله قريبا من الحدود بين العراق وإيران داعيا الى الخلاص من الدنيا وزخرفتها ناقلا الناس الى الصفاء الروحي والنقاء الجسدي ، ولاقت الطريقة إقبالا واسعا فاستوعبت ملايين المريدين حتى راح سناها الروحي الى بلاد كثيرة أخرى من المعمورة مثل أفغانستان وباكستان والهند وسرى شعاعها الى بعض بلاد أفريقيا مثل زامبيا ففتحت فيها تكايا وقام الخلفاء بالإرشاد .
وأخيرا انتقل السيد الشيخ عبد الكريم قدس الله سره الى قرية كربجنه حيث مقام الآباء والأجداد وأقام فيها فترة من الزمن ثم انتقل بعدها الى مدينة كركوك واستقر فيها بعد جولات عديدة للإرشاد شملت معظم المحافظات العراقية مثل بغداد ونينوى وبابل والنجف الأشرف والانبار وتكريت واربيل والسليمانية وغيرها .
وقد بنى في تلك المحافظات عددا كبيرا من التكايا ، وأثناء وجوده في كركوك جهز حملة للحج انظم لها عدد كبير من الفقراء المريدين قاصدا بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج وزيارة المصطفى ﷺ .
وما زال مرشدا حتى اختاره الله الى جواره عام (1399هـ) فخلف وراءه على سجادة المشيخة ولده السيد الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره .
كراماته :
ان كرامات السيد الشيخ عبد الكريم الكسنـزان قدس الله سره كثيرة جدا لا تعد ولا تحصى لان حياته كانت كلها كرامات لخدمة الاسلام والمسلمين .
ولكن لابد من ذكر بعض منها والتي تحققت على أيدي مريديه بعد طلب الإجازة من سماحته كالقيام بفعاليات خارقة للعادة مثل مسك الأسلاك الكهربائية واكل الأفاعي والعقارب والضرب بالطلق الناري والضرب بالخنجر في الرأس وضرب السيوف والحراب والدخول وسط النار ، بالإضافة الى الكرامات الأخرى التي تحققت بدعائه كالشفاء من السرطان والعقم والشفاء من الصرع وأمراض القلب والكآبة والجنون وغيرها .
ومن كراماته قدس الله سره انه حكم على احد مريديه بالسجن لمدة عشرين سنة في سجن الرمادي ولكثرة التوسل ومن قبل أهله بحضرة الشيخ قدس الله سره أرسل الشيخ رسالة الى احد الخلفاء في الرمادي طالبا منه مساعدة السجين بالخروج من السجن وكانت المفاجأة عندما علم الخليفة ان السجين قضى مدة ثلاث سنوات فقط ولكن إيمانه وعقيدته بهمة الشيخ قدس الله سره دفعته الى الذهاب الى السجن وقدم الى مدير السجن مستفسرا عن المدة التي قضاها السجين المذكور فجاء الجواب بعد التدقيق في سجلات النـزيل تبين انه أنهى محكوميته كاملة وسوف يطلق سراحه غدا وفي اليوم الثاني عاد الخليفة واصطحب معه السجين الى داره . بينما كان حضرة الشيخ عبد الكريم الكسنـزان قدس الله سره خارجا من غرفته دخل الى التكية رجل من الاغوات محمولا على أيدي ذويه حيث قرر الأطباء انه مريض بالسرطان وقد أعجزهم علاجه وحالما رآه حضرة الشيخ عبد الكريم قدس الله سره .
قال : هذا ليس مريضا بالسرطان وإنما هو تأثير سم جرى في جسمه قبل أربعين عاما فأجاب من كان مع المريض بأنه فعلا قد لسعته حية في ذلك الوقت عندها قال الشيخ قدس الله سره أطعموه الحليب وأجلسوه في التكية فأنه مشافى ان شاء الله فما لبث المريض أياما حتى عاد سليما يمشي كأن لم يصبه شيء .
المصدر : الشيخ محمد الكستزان – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية ص356 .