نشأة علم الأحلام في المجتمع الإسلامي
نوفمبر 14, 2022تفسير الأحلام في الطريقة الكسنزانية
نوفمبر 14, 2022
بدا واضحاً من رأي الشيخ قدس الله سره بأن علم الأحلام قريب جداً من علم التصوف عنده ، وذلك لأن علم التصوف حسب ما يعرفه الشيخ محمد قدس الله سره هو : (علم معرفة الله سبحانه وتعالى) فهنا علم بني على معرفة ، أو نتج من معرفة .
والفرق بين الاثنين ان العلم هو نتيجة التفكير العقلي والتجربة في الأمور الحسية الملموسة في المختبرات العلمية . أما المعرفة فهي نتيجة السلوك الصوفي والتجربة الروحية، حيث يصل العبد إلى درجة من الصفاء بحيث يرحمه الله ويهبه من لدنه ما يشاء من علمه ، وهو المشار إليه بقوله تعالى : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَـيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنـــَّا عِلْماً )[1] .
والسبيل للوصول إلى هذا العلم هو التقوى ليس إلا ، يقول تعالى :
( وَاتَّقُـواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّه )[2] . فالعلم الناتج عن هذا الطريق يسمى ( معرفة ) تمييزاً له عن العلم الناتج عن الكسب والتجربة العملية ، و أعمال الفكر والنظر في العلوم التي لا علاقة لها بشكل مباشر مع الله أو العوالم الميتافيزيقية . فعندما يقول الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره ان التصوف هو علم معرفة الله ، أي هو العلم الذي يوصل إلى الله سبحانه وتعالى عن طريق التقوى والسلوك الروحي الذي يكشف للعبد حقائق معروفة لدى الصوفية تجعلهم يتقربون من الله تعالى إلى أدنى درجات القرب والتي يعجز العقل عن إدركها، وهي المتمثلة بالفناء بمحبته سبحانه ، حيث تصبح فيه مدارك العبد وقواه الحسية فانية معدمة ، ولا بقاء إلا لنور الله تعالى فيه ، فوقتها لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يعقل ولا يتحرك ولا يسكن ، بل ولا يبطش إلا بالله جل جلاله ، أو بنور الله على وجه الدقة ، وهذه الحالة ليست بدعاً من القول في الإسلام ، بل لقد أشار إليها حضرة الرسول الأعظم سيدنا محمد ﷺ في الحديث القدسي : (إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنـــْتــُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتـُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه ) [3] .
والمراد بالنوافل هنا السلوك الصوفي المتمثل بالمجاهدات والرياضات والتزام الطاعات المتمثلة بالأذكار والأوراد والأعمال الصالحة كلها في الدين والدنيا .
المهم أن العبد إذا وصل إلى هذه المرتبة من الفناء في محبة الحق سبحانه ، فعندها لا يعود يرى الأمور ببصره ورأيه ، بل بنور الله تعالى ، ونور الله تعالى
لا تحده الحدود ، ولا تحصره الحجب ، بل هو محيط بالأشياء ، ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) [4] ، ومن خلال هذا النور وبواسطته فقط يستطيع معرفة الله سبحانه وتعالى ، فالحق كما يقول الصوفية لا يعرف إلا بنفسه ، وهو معنى : « اعرف الله بالله » .
إذاً يمكن القول إن التصوف هو العلم الذي يوصلك إلى المعرفة ، والمعرفة توصلك إلى العلم . وأياً كان الأمر فهذا العلم كما يصفه حضرة الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره هو « تجربة روحية لا تخضع إلى العقل المنطقي ، وفيها تتحد الذات والموضوع ، وتقوم فيها البوادر واللوائح واللوامع مقام التصورات والأحكام والقضايا العقلية ، إذ المعرفة فيها معاشة لا متأملة ، ويغمر صاحبها شعور عارم بقوة تضطرم فيه وتغمره كفيض من النور الباهر ، أو يغوص فيها كالأمواج العميقة ، ويبدو له أيضاً ان قوى عالية غزته وشاعت في كيانه الروحي ، وما هذا إلا نفحات روحية علوية ، ولهذا يشعر السالك بإثراء في كيانه الروحي ، وتحرر في أفكاره وخواطره وهيجان لطاقات كامنة تغور في أعماق نفسه »[5] .
ان هذا النص يمكن ان يعد جامعاً مانعاً لكل ما يتعلق بالتجربة والمعرفة الصوفية ، فنظرة سريعة إلى مفرداته تكشف الأبعاد الخاصة التي يتبناها القوم .
التجربة الروحية خارج حدود العقل المنطقي .. لماذا ؟
لأنها تتعامل بشيء ومع شيء أوسع من العقل ألا وهو الروح الذي يمد العقل نفسه بالطاقة على الحياة والإدراك .
هذه التجربة تتوحد فيها الروح الإنسانية مع الروح الكلية التي تنتظم الوجود ، ففيها تتحد عند العبد معانيه الذاتية مع المعاني الموضوعية ، وهذا الإتحاد المعنوي يكسب العبد المعرفة بالحقائق الكونية ، على اختلاف السالكين ، فمنهم من يعرف هذه الحقائق قبل الوصول إلى حقائق الحق ، ومنهم من يعرفها بعد الوصول .
وكما أن للقضايا العقلية تصورات وأحكام وموازين خاصة ، فإن لهذه التجربة التي هي خارج حدود العقل موازينها الخاصة بها وهي المشار إليها بالبوادر واللوائح واللوامع ، وهي مصطلحات شرحها الصوفية وكشفوا عن ماهيتها بلغة العقل كي يستوعبها غيرهم ، والمهم ان هذه الأمور تقوم في التجربة الصوفية مقام البراهين والأحكام في الأبحاث العقلية .
والعبارة الأهم في هذا النص هي ان المعرفة في هذه التجربة معاشة وليست متأملة ، إذ التأمل والتفكر من وسائل وطرق العقل في المعرفة ، وهذه التجربة لا تعتمد معرفتها على التأمل العقلي بل على الذوبان في المحسوس أو المطلوب معرفته.
فإذا حصل الذوبان والاندماج – الروحي وليس الجسدي أو المادي – بالمطلوب والمقصود والموجود وهو نور الله سبحانه وتعالى .. ما الذي يحصل ..؟؟ .
تغمر ذلك العبد مشاعر عارمة خارجة عن المشاعر البشرية المألوفة لأنها من فيوضات الأنوار الإلهية . فوقتها وحين تتلاشى مشاعره في تلك الفيوضات المطلقة فان مشاعره وأحاسيسه تتحرر من قيودها الموروثة وتسمو بالكمال الرباني، وبدل ان يكون العبد ذا خُلق إنساني محدود ، يصبح ذا خلق قرآني رباني مطلق ، ذا خلق عظيم .
حين تتلاشى المشاعر والأحاسيس الإنسانية بالنفحات العلوية الربانية ، تتحرر من أنانيتها وخواطرها النفسية ، ووساوسها الشيطانية ، وتنكشف عنها تلك الأغطية والحجب الظلمانية ، فتظهر طاقاتها الكامنة التي جمع فيها الحق سبحانه كل علومه ومعارفه وزرعها في ذاته ، تلك العلوم التي وهبها الله تعالى لأبي الإنسانية آدم عليه السلام ونص عليها بقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلـَّهَا) [6] ، فذاك العلم عند الصوفية ،
هو من جنس هذا العلم الذي يصلون إليه بواسطة الله تعالى مباشرة وليس من خلال العقل والتجربة المختبرية.
وليس في كل ذلك امتهان للعقل والعلم النظري او التجريبي أو كما يسمى الكسبي ، وهو غير منكر عند الصوفية أبداً ، ولكن كما ان للعين دورها ووظيفتها في الحياة وهو يختلف عن دور الإذن ووظيفتها وكلاهما مهم للإنسان ، فإن للعلم بواسطة العقل والعلم بواسطة المعرفة دورهما في الحياة وكلاهما مهم ولا تناقض ، فلكل منهما شأن يغني عن الآخر .
تفسير الأحلام .. ومعرفة النفس
لقد أسهبنا قليلاً في التعرض لمعنى المعرفة عند الصوفية لأننا وجدنا أن هذه المعرفة هي المفتاح لفهم علم الأحلام وتفسيرها عند الشيخ محمد الكسنـزان قدي الله سره .
كيف .. ؟!!
في هذا العصر صنف العلماء ، علم الأحلام ضمن قائمة ( علم النفس ) ، وأخذوا يدرسون هذا العلم ، ويجرون التجارب والاختبارات لمعرفة حقائقه وكل ما يتعلق به ، عسى ان يصلوا إلى فك ألغازه ، وحل طلاسمه ، فإلى ماذا وصلوا .. ؟
مدارس متعددة ، ونظريات متضاربة ، وآراء متعارضة ، ووقف العلم والعقل والتجربة عاجزاً أمام هذه الحالة الإنسانية التي لا تفرق بين جاهل وعالم ، أو صالح
و طالح ، أو كبير و صغير … الخ .
الواقع ان التجارب والاختبارات في هذا المجال ، تجعل نظريات العلم أقرب إلى النظريات الفلسفية منها إلى النظريات العلمية ، لأن النتائج المستقاة من هذه التجارب تبنى بشكل أساسي على التصور والظن وليس على أمور حسية ملموسة .
ومن جهة ثانية ليس في التشريع الإسلامي ما ينص على ان الرمز الفلاني في الرؤيا يدل على كذا ، فلو رجعنا إلى أكثر من اشتهر بهذا العلم وهو ابن سيرين مثلاً لوجدنا ان ما من ضابط أو قاعدة محددة يتقيد بها المفسر في تعبير الرؤيا ، ومن ذلك ما يحكى أن رجلاً جاء إلى ابن سيرين يخبره عن حلم رآه حيث كان فيه يؤذن ، فقال ابن سيرين له : ( تقطع يدك ) ، وجاء إليه آخر يخبره عن حلم يماثل حلم الأول تماماً فقال له ابن سيرين : ( تحج ) .
وقد دهش الحاضرون لهذا التناقض بين التفسيرين مع ان الحلم واحد ، وسألوا ابن سيرين عنه ، فأجابهم بما معناه : إن الأول رجل تبدو عليه سيماء الشر ، والأذان الذي قام به في النوم يدل على انه سارق ، وسوف تقطع يده وذلك بدليل قوله تعالى : ( أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) [7] . أما الرجل الثاني فتبدو عليه سيماء الخير ، وآذانه يدل على انه سوف يحج بيت الله الحرام بدليل قوله تعالى: ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَج ) [8] .
فكان الأمر كما عبر عنه ابن سيرين في الحالين [9] .
ولو تأملنا هذه الحكاية لوجدنا أنها تدل على أمرين :
1. لا يوجد نص حتمي قاطع في تفسير الرؤيا عن رجال الدين ، كما هو الشأن في الحلال والحرام .
2. لا يوجد قاعدة محددة أو ضابط في التفسير فالأمر متروك لفراسة المفسر ومدى ربطه بين ما يرى ويسمع من الرائي وبين النص الديني أو العرف الاجتماعي.
بمعنى ان تفسير الأحلام ليس من العلوم الشرعية المقيدة بموازين أهل العلم الشرعي كموازين علم الفقه أو علم الحديث أو غيرها من العلوم الإسلامية .
لقد اعتمد ابن سيرين على نوع من المعرفة بنفسي الرجلين وعلى أساسهما فسر. وبناءاً على هذه المعرفة (الفراسة) وظف النصوص الدينية في خدمة المعرفة ، وليس العكس ، وهذا مهم جداً في ان تفسير الأحلام لا يعتمد على النص بقدر ما يعتمد النص على المفسر والتفسير .
الأمر هنا يشبه ما يقوم به العلماء المهتمين بالإعجاز العلمي للقرآن ، فهم لا يستنبطون الظاهرة الكونية من القرآن الكريم قبل حصولها ، بل ينتظرون العلماء حتى يكتشفوا شيئاً، ويأخذون ذلك الاكتشاف وينظرون في القرآن فيجدون ما يدل عليه أو يشير اليه فيقولون قد ذكر هذا في كتابنا قبل قرون .
إنهم يطوعون النص لصالح الاكتشاف العلمي الذي قد يدحض بعد حين ، ووقتها يجدون في القرآن ما يؤيد هذا الدحض ويدعم الاكتشاف الجديد .
مفسري الأحلام التقليديين ، يسيرون على هذا المنوال ، فهم لا يقرؤون في القرآن ويعرفون التفسير ، بل يسمعون من الرائي ويفسرون بحسب ما يرون ثم يلتمسوا ما يؤكده في الكتاب أو الحديث أو الخبر أو الأثر أو المثل .. الخ .
وهذا يعني أن تفسير الأحلام لا يعتمد على دليل علمي أو دليل شرعي بقدر ما يعتمد على دليل معرفي بحسب ما يرى الصوفية .
والمراد بالدليل المعرفي هنا هو الطريق إلى معرفة العبد لنفسه ، فهذه المعرفة توصله إلى معرفة التفسير أو التأويل المناسب لحلمه أو رؤياه ، بعيداً عن المنطق العلمي أو العقلي .
كيف ذلك .. ؟
هناك عوامل في العالم الكوني تؤثر في النفس البشرية ، وتنسخ فيها انطباعاتها ومؤثراتها ، وهذه الانطباعات الكونية المؤثرة في النفس ، تجد مدى أوسع للظهور حال النوم ، وظهورها في عالم النوم تحكمه قوانين خاصة ، وهي قوانين خارجة تماماً عن القوانين الكونية التي استنتجها علماء الطبيعة أو الفيزياء لحد الآن .
وكما أن من يعرف أو يكتشف قوانين الطبيعة يستطيع على أساسها تفسير الظواهر الكونية ، فإن من يكتشف قوانين النفس يستطيع ان يفسر الأحلام .
ولكن ليس الأمر على هذا الإطلاق كما يرى الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره ، فلكل نفس قوانين خاصة بها ، ولهذا يصعب بل يستحيل وضع جدول أو معجم لحل رموز الرؤيا للجميع ، لأن ما ينطبق على فرد يختلف عنه للفرد الآخر بسبب اختلاف القوانين أو الأحوال النفسية لكل فرد من الأفراد .
إن معرفة الشخص لنفسه – عند الشيخ محمد الكسنـزان – هي السبيل الأمثل لحل رموز عالم الأحلام بشكل يقيني لذلك الشخص ، لأن هذه المعرفة تعني إطلاع ذلك الشخص على خفايا نفسه وعلاقة تلك الخفايا بالعالم الكوني ، وبالتالي يستطيع معرفة معنى ما يرى في المنام . فقد يرى احدهم رؤيا نتيجة تأثره بحادثة معينة فيفسرها بما يتناسب وتلك الحادثة ، وربما يرى مثلها في وقت لاحق فيفسرها بغير التفسير الأول لأنه يكون عارفاً بنفسه أن حاله أثناء هذه الرؤيا غير حاله في الرؤيا الأولى .
وهنا ينبغي التذكير ان الطريق إلى معرفة النفس هو نفس الطريق إلى معرفة الله سبحانه وتعالى ، ولقد اشتهر بين الصوفية الحديث القائل ( مَنْ عَرفَ نفسهُ فقد عَرفَ ربهُ )[10] فطريق المعرفة واحد ، ونتائج المعرفة – بالنسبة للعبد – واحدة أيضاً .
الهوامش:
[1]- الكهف : 65.
[2] – البقرة : 282 .
[3] – أخرجه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، في كتاب الرقاق – حديث رقم 6021 .
[4] – النور : 35 .
[5] – السيد الشيخ محمد الكسنـزان – الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية – ص 82 .
[6] – البقرة : 31 .
[7] – يوسف : 70 .
[8] – الحج : 27 .
[9] – ابن سيرين – تفسير المنامات الكبير – ص 8 .
[10] – أنظر : كشف الخفاء – ج 2 ص262 – حديث رقم 2532 .
المصدر : من كتاب الرؤى والاحلام في المنظور الصوفي – أ.د. الشيخ نهرو الشيخ محمد الكسنزان الحسيني .
|