مما تقدم تبين ان مبدأ الشيخ محمد الكسنـزان في هذه المسألة هو أنه لكل إنسان أو مريد طريقته الشخصية في التفسير أو التأويل من خلال تجربته الخاصة في معرفة نفسه . ولا يستطيع أحد ان يفسر حلم غيره على وجه اليقين إلا إن كان يعرف ذلك الشخص كما يعرف نفسه . ولما كان العلاقة التي تربط الشيخ بالمريدين علاقة روحية، وليست مجرد علاقة ظاهرية كالموجودة بين التلميذ والمعلم في المدرسة . ولما كان الشيخ هو المربي الروحي للمريد ، وهو الذي يساعد المريد على معرفته بنفسه . فإن الشيخ يستطيع تفسير رؤى مريديه بدون أي تفاصيل أو معلومات عن حياتهم أو ما أثر فيهم قديماً أو حديثاً . السر في ذلك يرجع إلى خاصية ( المعرفة ) التي تلغي الثنائيات من الناحية الروحية ، وصولا إلى الوحدة ، فخلال رحلة المريد وسفره إلى الله تعالى ينبغي عليه ان يعبر قنطرتين أو جسرين في الطريقة الكسنـزانية للوصول إلى معرفة الله تعالى : الأولى : قنطرة الشيخ ، فعليه أن يفنى في محبة شيخه ، الفاني في محبة الرسول . الثانية : ان يفنى في محبة الرسول الأعظم الفاني في الله تعالى . ومعنى فناء المريد في محبة شيخه ، هو ان تتلاشى وتذوب إرادته وأحاسيسه ومشاعره في إرادة شيخه وأحاسيسه ومشاعره ، لكي يتنور باطن المريد بما تنور به الشيخ من الرسول الأعظم . وهذا التنوير يكشف للشيخ قبل المريد حقيقة نفس المريد وكل قوانينها الخفية ، فإن سأل المريد شيخه عن رؤيا رآها علم الشيخ من فوره معناها وتفسيرها أو تأويلها في حق المريد . وإن تحقق المريد بمعرفة نفسه ، تمكن من معرفة ما يعرفه الشيخ منه ، ووقتها يجئ تفسيره مطابق لتفسير الشيخ . إذاً المعرفة عند الصوفية هي السبيل اليقيني لحل شفرات عالم الأحلام ، ولكي يستطيع كائناً من يكون ان يفسر جميع أحلامه على وجه الدقة يحتاج إلى طريقة صوفية توصله إلى المعرفة الكاملة بنفسه وبربه ، وبالتالي بكل ما سوى ذلك ، فمن عرف الخالق لا يمتنع عليه معرفة المخلوق سواء أكان رؤيا أو غيرها .قواعد التفسير الشخصي للأحلام بالرغم من ذلك فأن الشيخ محمد الكسنـزان ينصح ببعض الأمور التي تساعد الإنسان على تعلم الطريقة التي يستطيع بواسطتها تفسير حلمه بنفسه ، ومنها : أولاً : الخطوة الأولى التي ينصح بها السيد الشيخ محمد الكسنـزان كل مسلم ليتعلم كيف يفسر أحلامه ، هو أخذه الطريقة وسلوكه فيها ، فالطريقة تساعده على الوصول إلى معرفة نفسه حق المعرفة في أقصر وقت ممكن ، وهذه المعرفة كفيلة بفك رموز التأويل التي تربط حياته الشخصية الذاتية ، بالمحيط الخارجي الذي يعيش فيه . والواقع إن الدراسات والأبحاث في هذا المجال أثبتت ان الصوفية هم أكثر الفئات التي تكلمت عن العلاقة بين الإنسان والعالم ، حتى أطلقوا على الإنسان مصطلح ( الكون الصغير) وعلى العالم ( الكون الكبير ) ، وقابلوا بينهما مقابلة تأويلية ، متمثلين في ذلك : وكان لكل شيخ أو عارف نظرية أو رأي خاص به في هذه المقابلة وما تشير إليه رموز الإنسان في العالم الكبير ، أو بالعكس . فلو أخذنا مثلاً آراء الشيخ الأكبر ابن عربي لوجدنا انها تدور في هذا الشأن بإقامة علاقة بين الإنسان والعالم تقوم على نوع من التماثل كما تقوم على نوع من الاختلاف ، فحقائق العالم عنده توجد بكاملها في الإنسان ، والفارق أنها في الإنسان في حالة اجتماع بينما هي في العالم في حالة افتراق وتشتت [1] . إن السلوك الصوفي يُدخل الإنسان في تجربة معرفية تتجاوز به كل الحجب الفاصلة بين عالمي اليقظة والنوم ، المتمثلة بسلسلة الاحتمالات الكثيرة لتعبير الرؤيا ، كالحيرة بين الرؤيا الصادقة والحلم وأضغاث الأحلام ، وكالحيرة في كيفية التفسير ، هل بتصديقها ، أي بحملها على ظاهرها دون تأويل كما فعل نبي الله إبراهيم وصدق رؤياه وأراد ذبح ابنه إسماعيل ، أو بتأويلها إلى المقاصد المترتبة عليها … فالتجربة الصوفية ، هي مرحلة التدريب المعرفي عند الصوفي لكي يتعلم على يد شيخه كيف يميز بين هذه وتلك ، وكيف يختار أو كيف يعرف . ثانياً : ينبغي معرفة أن الانطباع الأول بعد الاستيقاظ مباشرة فهو الأقرب إلى معنى الحلم أو الرؤيا . لماذا ..؟ لأن الصور التي يراها النائم عبارة عن أغطية ( حجب ) على المعاني التي تختفي ورائها ، فأين صورة اللبن في الحلم من معنى العلم في الحس والتي أولها حضرة الرسول الأعظم به ؟!! وبالتالي فالصور في الحلم عبارة عن رموز ، وهي تحتاج إلى التأويل ، لأن التأويل – كما يرى ابن عربي – هو عبارة عن قوة إلهية يهبها الله للعارفين ، يصبحون بها قادرين على عبور الصورة – الحلمية – إلى معناها الباطن وصولاً إلى العلم الصحيح [2] . أي ان التأويل هو إرجاع الصورة إلى معناها أو حقيقتها التي شوهتها الصورة في الحلم أو غطتها . فبدل ان يدرك الإنسان في النوم المعنى المقصود ، تنطوي تلك المعاني وتتماهى ضمن سلسلة صورية قد تكون متسلسلة الأحداث أو مشتتة أو متفرقة .. ولأن لحظة الإستيقاظ الأولى تكون أقرب ما يكون من حالة المعنى التي كان يشعر بها الإنسان وقت النوم ، فإن صرف الذهن إلى المعنى المراد بهذه الرؤيا بعد الإستيقاظ مباشرة هو الأقرب إلى معرفة التأويل الحقيقي لتلك الرؤيا ، بصرف النظر عن التشكيلة الصورية التي كان يراها ، لأن الصور أغطية يتعلق بها العقل ، بينما المعاني وهي المقصود الحقيقي قابعة وراء تلك الصور. بعبارة أخرى ، ينبغي استغلال اللحظة الأولى من الاستيقاظ من النوم لأنها أقرب إلى المعنى منها إلى الصورة ، والمعنى هنا هو المقصود الحقيقي من الرؤيا وليس الصورة . لنضرب مثل : عبّر نبي الله يوسف عن البقرات العجاف بسنين القحط في رؤيا الملك . أي ان المعنى الذي كان يحضر الفرعون في حال نومه هو سنين القحط والعوز ، وقد تشفر أو تترجم بصورة البقرات .. لماذا ؟ لأنه يجب ان يتشفر المعنى بصورة معينة ، اذ ان الإنسان في اليقظة لا يرى إلا صور ولا يعقل المعاني إلا من خلال الصور ، ولما كان في نومه يفارق سلطان العقل مؤقتاً ، يستعير الخيال صوراً مألوفة ليضمنها تلك المعاني ، سواء أكانت تلك الصور قريبة من المعنى أو بعيدة عنه . أي انه لا ضابط للخيال في حالة النوم بصور معينة للمعاني كما هو الحال عليه في حالة اليقظة والتي يتحكم فيها العقل ، فالعقل في اليقظة لا يسمح للفكر ان يفهم أي معنى إلا من خلال صورة معينة ، ولهذا يعد إدراك العلوم الغيبية خارج حدود العقل الذي قد يصدق بوجودها معتمداً على الأدلة والبراهين العقلية أو الشرعية . ولكنه لا يستطيع ان يضبطها بهيئة أو صورة ، وبالتالي تبقى الأمور الغيبية معاني مطلقة في قياس العقل . فمثلاً ، قد يصدق العقل بوجود عالم الجن أو الملائكة ولكنه لا يستطيع تصورها ، فهذه العوالم تبقى معنوية وتسمى غيبية بالنسبة إليه . ولكن لماذا تشفرت سنين القحط بصورة البقرات العجاف دون غيرها من الصور ؟ وهل هي قاعدة ثابتة ينبغي ان يفهم فيها معنى البقرة بهذا المعنى كلما وردت في رؤيا احدهم ؟ . معلوم ان المستوى الفكري والمعاشي والاجتماعي الذي كان الإنسان يحيا به في تلك الحقبة البعيدة من الزمن ، كان يعتمد على مفردات الزراعة والمواشي والصيد والغزو وأمور بسيطة تتناسب وطبيعة حياتهم آنذاك ، ويبدو ان البقر كان يمثل ثروة اقتصادية كبيرة بالنسبة لهم ، حتى ان خيال الفرعون استجلب تلك الصورة ليطابقها مع معنى الحياة الاقتصادية كلها وما سيحصل فيها . ولو فرضنا جدلاً أن هذه الرؤيا وقعت لحاكم في عصر الثورة الصناعية لما كان عقله يستجلب صورة البقرة العجفاء ، ولربما كان رأى آلات مفككة مبعثرة أو ما شابه . ما نود قوله هو أن المؤثرات البيئية المحيطة في الإنسان وما تطبعه في نفسه من صور يعايشها يتم استغلالها من قبل خيال النائم ليضمنها المعاني التي تحضر النائم في وقت الحلم . ومن هنا نفهم ان لا قاعدة ثابتة في تفسير الأحلام ، ولهذا فان النصوص الدينية الواردة فيها ، ينبغي أن لا تفهم بحرفيتها بل بدلالاتها ومقاصدها . وهذا الفهم يتناسب تماماً مع القواعد التي قال بها الشيخ محمد الكسنـزان . إذًا يؤخذ بالانطباع الأول ، ليس لأن الصورة تدل على شيء ، بل لأن الإنسان وقتها يكون أقرب ما يكون من عالم المعاني . وهنا ينبغي التفريق بين الإدراك بواسطة الإحساس ، والإدراك بواسطة العقل . فهناك فرق بين ان تدرك شيئاً وبعدها تحس فيه ، كمن يرى صورة جميلة جداً ، ثم يحس بالارتياح أو الانشراح لها ، وبين ان تحس بالشئ ثم تدركه ، كمن يوخز بإبرة مثلاً على حين غرة دون ان يعلم ، ففي هذا الحالة يشعر بألم الوخز أولاً وبعدها يعقل بماذا وخز ، أبأبرة أم مسمار ام زجاجة ..والحالة التي ينُصح بها لتساعد على معرفة التفسير للحلم، هي الثانية ، أي التي يعتمد فيها على الإحساس الأول بالمعنى ، قبل تذكر كافة تفاصيل الرؤيا ومفرداتها . وحتى بعد التذكر ، لو استطاع الإنسان تذكر إحساسه الأول لكان اقرب كثيراً إلى المعنى الحقيقي من محاولة معرفتها عن طريق فك رموزها الصورية . وللوصول إلى هذه المقدرة يحتاج الإنسان إلى ان يتمرس على معرفة نفسه وانطباعاتها قبل النوم وبعد الاستيقاظ ، بل وفي كل حالة من حالاته الحياتية ، وهو احد أساسيات السلوك في الطرق الصوفية ، التي تنمي في الإنسان حس مراقبة النفس ومتابعتها في كل شاردة وواردة ، وأحياناً في كل لمحة ونفس . ثالثاً : إذا غاب الانطباع الأول ، فينبغي أن لا يتم التركيز على المفردات الصورية للرؤيا ، أو كل أجزائها وتفاصيلها . فهذه الطريقة في التعامل مع الحلم تزيد من احتجاب المعاني خلف أستار الصور . فينبغي هنا تنشيط التعامل مع الإحساس وليس مع العقل ، وذلك بتذكر تفاصيل الرؤيا ومراقبة ما ينتابنا من مشاعر ، فهذه المشاعر هي المفاتيح الحقيقية لأدراك المعاني . لنضرب مثل : ترى ما هي صورة الجوع أو الخوف ؟ طبعاً ليس هناك صورة لذات الجوع أو الخوف ، لأن هذين الأمرين من عالم المعاني وليس من عالم الحس ، ولكن ربما تكون هناك مئات الصور التي تعبر عن هذين المعنيين ، فرجل يمسك بطنه ويتلوى يمكن ان تكون صورة عاكسة لحالة الجوع ، وحيوان يندفع بكل سرعته نحو فريسته ، قد تعطي معنى الجوع عند ذلك الحيوان ، ورجل على حافة جبل أو مرتفع تعطي انطباع للخوف من السقوط .. الخ . المهم أن هذه الصور قد تعطي دلالات لحالات معينة ، ولكن هل هذه قاعدة مطردة يستطيع المرء الاعتماد عليها في معرفة أجزاء من حلمه أو رؤيته ؟ الحقيقة إنها ليست كذلك ، والدليل ان كثيراً من الرؤى تفسر بنقيضها أو عكسها ، فقد يرى النائم نفسه ميتاً فتؤول له بطول العمر . وقد يرى الاثنان صور متقاربة فتؤول لأحدهما تأويلا يختلف عن الآخر . إذاً الصورة الظاهرة في الرؤيا ، لا تدل بالضرورة على معنى يطابق أو يقارب معانيها كصوره ، وإلا لأولنا صور اللبن بالقوة أو بالحاجة إلى الشراب ، أو إلى الماشية ، أو إلى كل ما له صلة من قريب أو بعيد باللبن ، ولكن ان تؤول بالعلم ، فذلك ما لا يمكن تفسيره بالمنطق العقلي . ولهذا ، فمحاولة الاقتراب من عالم المعاني بالإحساس والشعور هو الأقرب لتفسير الحلم . وهذه المحاولة تقتضي من الرائي ان لا يركز على الصورة بقدر ما يركز على إحساسه وما ينتابه من شعور ومعرفة عند مروره بلقطات أو مقاطع تلك الرؤية . فما يدركه وقتها من استبشار بخير أو تخوف من شر سواء أكان بعينه أو بشكل عام ، هو ما استشعرته روحه من عالم الغيب عند مفارقتها الجزئية لبدنه أثناء النوم . أما اذا تذكر المشهد ومر عليه إحساسه مرور الكرام فلم ينتابه شيء ، أي شيء فمعنى ذلك ان هذا المشهد ، بل هذا الحلم كله ، هو من أضغاث الأحلام مهما كان ، وكيف كان . وما هي أضغاث الأحلام ؟ كيف تحدث ؟ ولِمَ ؟ هي عبارة عن صور ناتجة عن تخبطات في مشاعر النفس الإنسانية ، فهي كما يقال ، ليس لها أصل ولا فصل ، كمن يثرثر في الكلام بلا معنى أو قصد ، وقد تكون تلك الثرثرة بكلام منمق منسق وهو الصورة الحلمية المرتبة ، وقد يكون الكلام مبعثر غير مترابط وهو كالحلم المشتت . وأما أسباب حصولها فكثيرة ، منها تشتت الإنسان في حياته بين متطلبات أو مشاعر كثيرة ، ومنها عدم استشعار الروح بشيء ذي معنى أو بال من العالم الذي تواجهه في النوم . ومنها تحصل نتيجة ضغوط نفسية ، ومنها تحصل نتيجة إفرازات طبيعية لمؤثرات الواقع التي يعيش فيه الإنسان . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش: [1] – نصر حامد أبو زيد – فلسفة التأويل – ص 159 . [2] – المصدر السابق – ص 227 .
|