إن تعبير الرؤى من الأمور الدقيقة التي تحتاج إلى وجود ملكة وموهبة ، وقوة نفس لدى المعبر ، ونوع من الإلهام والفراسة ، ولا يحصل التمكن في التعبير بمجرد التعلم والقراءة، وحفظ ما يوجد في الكتب ، ولهذا لم يتأهل لتعبير الرؤى على امتداد القرون إلا النوادر من الناس ، بخلاف العلوم والمعارف الأخرى التي تدرك بالتعلم والأخذ من الكتب .
قال القرافي : « اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته ، وتشعبت تخصيصاته ، وتنوعت تعريفاته ، بحيث صار الإنسان لا يقدر أن يعتمد فيه على مجرد المنقولات ، لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين ، بخلاف تفسير القرآن العظيم ، والتحدث في الفقه والكتاب والسنة وغير ذلك من العلوم ، فإن ضوابطها إما محصورة أو قريبة من الحصر »[1] .
وقال : « وعلم المنامات منتشر انتشاراً شديداً لا يدخل تحت ضبط ، فلا جرم احتاج الناظر فيه مع ضوابطه وقرائنه إلى قوة من قوى النفوس المعينة على الفراسة ، والإطلاع على المغيبات بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء لا يكاد يخطئ بسبب ما يخلقه الله – تعالى – في تلك النفوس من القوة المعينة على تقريب الغيب ، أو تحققه كما قيل في ابن عباس رضي الله عنهما : إنه كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق ، إشارة إلى قوة أودعه الله إياها ، فرأى بما أودعه الله – تعالى – في نفسه من الصفاء والشفوف والرقة واللطافة ، فمن الناس من هو كذلك ، وقد يكون ذلك عاما في جميع الأنواع ، وقد يهبه الله تعالى ذلك باعتبار المنامات فقط … فمن لم تحصل له قوة نفس عسر عليه تعاطي علم التعبير , ولا ينبغي لك أن تطمع في أن يحصل لك بالتعلم والقراءة وحفظ الكتب إذا لم تكن لك قوة نفس فلا تجد ذلك أبدا , ومتى كانت لك هذه القوة حصل ذلك بأيسر سعي وأدنى ضبط ، فاعلم هذه الدقيقة فقد خفيت على كثير من الناس»[2] .
ولقد ذكر الأئمة أصولاً وضوابط لتعبير الرؤى والمنامات ، وهي موجودة في مظانها من كتب أهل العلم ، ولكن إنما يستفيد منها من يتوفر لديه الاستعداد والموهبة لتعبير الرؤى ، والمتأمل في الواقع يجد أن هذا المجال قد اقتحمه من لا يحسنه ، وخاض فيه من لا علم عنده ، حتى أصبح تعبير الرؤى مهنة من لا مهنة له مع بالغ الأسف . فإذا كان هناك من يؤول الرؤيا أو يفسرها ، فأنه احد اثنين :
أما ان يؤول على سبيل الظن ، بلا أساس علمي أو ديني ثابت حيث لم تحدد الشريعة تفاسير ثابتة لرموز الرؤى .
وأما ان يؤول على سبيل اليقين الناتج من التنبؤ بذلك التفسير عن طريق الكشف الصوفي ، ذلك الكشف الذي يستمد فيه العارف معرفته التفسيرية أو التأويلية في اليقظة من نفس المصدر الذي يستمد غيره منه في النوم .
الأحلام .. والتنبؤ بالمستقبل
في جانب آخر من هذا العلم ، هل تستطيع الأحلام التنبؤ بالمستقبل ؟
وما مدى صحة ذلك أو مصداقيته ؟
الواقع ان هناك كثيراً من الباحثين قد شغلوا بأمر تنبؤات الأحلام ، وهم قد انقسموا في تعليلها إلى فريقين :
الفريق الأول : وهو الذي يشمل جمهرة الباحثين في الأحلام من علماء النفس الذين ذهبوا إلى تعليل تنبؤات الأحلام بما يسمى بالمصادفة أو عامل الاتفاق ، ومن هؤلاء الدكتور ( ملاك جرجيس ) الأخصائي المصري في علم النفس والذي ذهب إلى القول : « ان نسبة الأحلام التي لا تتحقق عند الناس أكثر بكثير من نسبة الأحلام التي تتحقق ، وليس هناك أي أساس علمي يمكن للفرد العادي ان يعتمد عليه لتفسير أحلامه … والحد الذي يتحقق يكون عادة نتيجة المصادفة أو لتوقع صاحبه حدوث ما حدث ، ولو بأسلوب غير واع ، وليس في ذلك شيء من التنبؤ كما يظن كثير من الناس خطأ .
فالشخص الذي يوقظ مخاوفه وقلقه النفسي على موضوع ما متخوفاً في يقظته من حدوثه قد يحلم أحلاماً مفعمة بهذه الأحاديث ذاتها ، وقد تشاء المصادفة ان يتحقق جزء مما حلم به ، أو حتى يتحقق الحلم كله ، لا بسبب الحلم لكن لأن ما توقعه هو خاتمة منطقية للظروف المحيطة به ، وليس أدل على صحة هذا الرأي من ان اغلب الأحلام لا تتحقق سواء أكانت أحلاماً تدل على شر أو على خير »[3] .
هذا التعليل المقبول لدى كثير من علماء النفس ، ولكن هناك الفريق الثاني : من الباحثين الذين لا يقبلون به ، لأنه إن صح التعليل بالمصادفة في كثير من الأحلام فإن هناك أحلاماً لا يمكن تعليلها بذلك ، لأسباب عديدة منها :
1. هناك أحلام تنبؤية تفصيلية ، وتحدث بدقة متناهية، يصعب تصور اجتماع تفاصيلها بطريق المصادفة .
2. ان بعض أحلام التنبؤ تتكرر أحيانا كأنها إنذار من مصدر خفي ، ومن النادر ان يتكرر الإنذار خلال فترة طويلة من الزمن ، ومثل هذه الأحلام يصعب تعليلها بعامل المصادفة ، فالمعروف عن المصادفة انها لا تتكرر على نمط واحد الا في حالات نادرة جداً.
معنى هذا كله ان بعض تنبؤات الأحلام تدل على وجود حاسة سادسة خارقة في الإنسان تستطيع ان تخترق حجاب الزمن وتستشف ما يكمن وراءه من حوادث مقبلة [4].
ان أصحاب هذه النظرية يقولون بأن للزمان بعداً رابعاً ممتداً في الفضاء ، من المعقول اذن ان نتصور مقدرة خفية في الإنسان تمكنه من التحليق في أحلامه فوق هذا البعد بحيث يتطلع بها إلى ما يحتوي عليه الزمن من أحداث آتية قليلاً أو كثيراً.
ومن الممكن تشبيه ذلك براكب الطائرة ، فهو بارتفاعه فوق نهر من الأنهار مثلاً يستطيع ان ينظر فيه إلى بعض النقاط البعيدة التي يعجز راكب الزورق عن رؤيتها ، ومعنى ذلك ان راكب الطائرة قد يكتشف أشياء في النهر هي مما يعدها راكب الزورق من أحداث المستقبل التي سوف يراها بعد الوصول إليها .
والحقيقة ان هذا الفريق هو الأقرب إلى رأي الشيخ محمد الكسنـزان في هذه المسألة ، اذ يقول : « لحظة الخلق لحظة العدم » وهي عبارة لها ما لها في الفهم الصوفي ، ومعناها ان اللحظة التي خلق الله سبحانه وتعالى بها السماوات والأرض والوجود بشكل عام ، هي نفسها لحظة العدم ، لتنـزه الحق تعالى عن الزمان ، وتعلق الزمان بعالم الموجودات ، ومعنى ذلك إن المستقبل مخلوق سلفاً ، كما ان الماضي لم يعدم ، أي لا يزال باقياً في عالم الخلق . يقول تعالى مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [5] .
أي ان الزمن المقبل بجميع أحداثه موجود أمامنا كوجود الماضي وراءنا ، ولأن الأحلام غير مقيدة بعالم الحس فهي قادرة على ان تستشرف على المستقبل كما تستشرف على الماضي .
الأحلام بهذا المعنى عبارة عن خليط بين رؤى الماضي ورؤى المستقبل ، ولهذا تأتي في العادة مشوشة حيث يصعب على الإنسان ان يميز فيها بين الرؤى التي تنبعث من الحوادث الماضية وتلك التي تنبعث من الحوادث المقبلة [6] .
التنبؤ وإشكالية القضاء والقدر
ان القول بأن كل شيء خلق دفعة واحدة ، وإننا نسير على ما خطط لنا سلفاً ، وان لا محيص عما قضى الله وقدر ، تضعنا أمام إشكالية ( الجبر ) الذي يكون فيه الإنسان مجبور ومستسلم في أعماله لما قدر له ولا خيار له فيه . وهذا الرأي غير مقبول تماماً من قبل من يقولون بحرية الإرادة البشرية ، وقدرة الإنسان على صنع مصيره حاضراً ومستقبلاً بنفسه .
والحقيقة ان للشيخ محمد الكسنـزان في هذا الموضوع رأياً فريداً ونادراً تجلى فيما يلي :
يرى الشيخ : ان الله سبحانه وتعالى جعل كل شيء بمقدار ، فلا يوجد ممكن غير مقدر، وقد أعطى سبحانه وتعالى الاختيار بيد الإنسان ، فإذا اختار أمراً جرى عليه القضاء بنتائجه المقدرة أصلا ، فمن يختار أمراً يترتب على أمر مسبق . فعلى سبيل المثال : شخص كتب عليه انه إذا فعل اليوم كذا فإنه يمو