أ.د. ضاري مظهر – جامعة بابل
اللون البرتقالي والشهوة المزدوجة
هو مزيج اللون الأصفر والأحمر ، وهما من الألوان الحارة ، فجاء اللون البرتقالي حاراً كذلك ، وسميت بالألوان الحارة لأنها الأقرب إلى ألوان اللهب الناري أو إشعاع الشمس ، ومن اجل أن نقف على مدلولات اللون البرتقالي ، لابد لنا أولاً أن نعرض لمدلولات اللونين الأصفر والأحمر من منظور المتصوفة .
الأصفر:اللوم ، ,الفكر والعجب والاعتراض على الخلق والرياء الخفي ، وحب الشهوة .
الأحمر:السخاوة ،والقناعة والعلم والتواضع والصبر والتحلم وتحمل الأذى ، والعفو عن الناس ، كما أن من صفاته الشوق والهيمان والبكاء والقلق والإعراض عن الناس والاشتغال بالحق .
البرتقالي من خلال ما تقدم له توسط بين اللونين فتكون دلالاته لها وجهين وجه يقابل بها اللون الأصفر ووجه يقابل به اللون الأحمر ، وهذا يعني أن دلالة البرتقالي دلالة برزخية جامعة بين أدنى دلالات اللون الأحمر وما ستؤول إليه أمر دلالات اللون الأصفر من زوال وفناء .
اللوم أو ما يسمى تأنيب الضمير هو من طبيعة وأوصاف النفس اللوامة ( الأصفر ) ومنه اكتسبت تسميتها ،والصبر والتحلم هما من صفات النفس الملهمة ( الأحمر ) والوسط الجامع بينهما توجه مسار الشهوة إلى المعطيات الروحية والعلوم الإلهية (البرتقالي ) فيكون البرتقالي هو عين التخلص من التعلقات باللذات غير المشروعة بالإضافة إلى التخلص من التعلق والميل إلى جهة المرتبة المادية المشروعة ، وهذا يشكل أول بوادي الاستعداد والتقبل للفيض الإلهي.
فالشهوة هنا تأخذ منحى آخر غير المنحى المادي ، والشعور والميل للون البرتقالي هو في حقيقته ميل روحي ، غير أن المقام يفسر هذا الميل تبعاً لحصيلته المعرفية ، فمن كان مقامه متوغل في الجانب الروحي فإن الميل الذي يشبع حاجاته هو استنزال المعاني الروحية والعلوم اللدنية ، ومن كان مقامه مع المراتب الوجودية المادية فإن ميله وشهوته تتجه إلى تلك المراتب وتقف معها ، فالبرتقالي يثير الشهوة دون أن يتدخل في تسييرها ، لأن التسيير من مهام المقام .
وبما أن اللون البرتقالي هو عبارة عن الأصفر الذي حظي بسخاوة اللون الأحمر ، لأن عملية تنزل اللون الأحمر عن مرتبته (النفس الملهمة ) والاعتناء بغيره ممن هو دون المرتبة (النفس اللوامة ) يعتبر سخاءاً ورحمةً وكرماً ، كما أن عملية تنزل الأحمر تمثل امتداد الرحمة الإلهية المضاعفة والمجزية لرقي وإقبال العبد تجاه الحق , كما جاء في الحديث القدسي : ( إذا تقرب إلي العبد شبراً تقربت إليه ذراعاً وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً وإذا أتى مشياً أتيته هرولة .) رواه البخاري عن أنس وأبي هريرة .
وهذا يعني أن النفس الأمارة بالسوء (ذات اللون الأزرق )حين عزمت على التقرب فكان لها الارتقاء إلى مرتبة النفس اللوامة (ذات اللون الأصفر ) فكانت مكافئة الحق لها جذبها إلى عالم المعاني (عالم الأنوار والروح ) الذي يبدأ (باللون البرتقالي ).
واللون البرتقالي يمثل هنا بداية العناية، وبنفس الوقت بداية الاستعداد لقبول الفيض النوراني فكلما يقبل حقيقة من الحق تعالى كلما ترقى إلى مرتبة أعلى (البرتقالي المحمر ) وهكذا وصولاً إلى استعداد قبول فيض الإلهام بشكل مستمر وهو ما يسمى مرتبة النفس الملهمة( اللون الأحمر) .
إن لدلالة الشهوة في اللون البرتقالي وجوهٍ عديدة ، فالوجه النازل باتجاه الأصفر (النفس اللوامة) فيه نزعة وميل باتجاه ملذات الحياة الدنيا لا سيما المادية منها ،والوجه الصاعد باتجاه الأحمر (النفس الملهمة ) فيه نزعة وميل باتجاه اللذات المعنوية والروحية والكشف عن المعاني النورانية ،أما الوجه الثابت بين بين ،( في البرتقالي )فإن برزخيته تعطيه درجات متفاوته ومتباينة من الميول والدرجات ما لا يمكن عدها أو حصرها ، صعوداً وهبوطاً .
غير أن الشهوة الصاعدة والتي وجدت استقراراً لها في (الأحمر ) أي :النفس الملهمة لم يستهويها الاستقرار بشكلٍ مستمر ، فبعد أن يتضح لها جدل الفجور والتقوى من خلال علم الفرقان الممنوح لها كما جاء في الآية الكريمة :وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (الشمس:7، 8 ) فيكون توجه الشهوة فيها( بعد أن تتخلص من الفجور بحضور العلم )، متجهاً إلى مسار التقوى الصاعد ، والقاطع للمراتب العلا كالإحسان والصديقية ومراتب الرضا وصولاً إلى الكمال بالله تعالى .
لأن الصوفية في توجهاتها لن تجد لها مستقراً سوى الفناء في الله تعالى ، فالسير لديهم متواصل والسعي باتجاه الأفضل حاصل ،وكلما استهوتهم مرتبة أعلى عملوا من اجل الوصول إليها وحين يتم لهم ذلك ، دعتهم مرتبة أعلى منها وهكذا لا قرار ولا استقرار لهم إلا في المطلق ، وهناك تنتهي الألوان فلا يبقى إلا نور واجدها .
إن من بعض برزخيات البرتقالي كون له وجهين، وجهٌ يقابل توجه الأصفر في اعتراضه على الخلق ، ووجه يقابل الأحمر الذي يدعو إلى الإعراض عن الخلق ، الأحمر تخلي والأصفر وقوف مع مرتبة من مراتب الوجود ، ويبدو أن لجاذبية اللون البرتقالي الأثر الكبير في انجذاب صاحب صفات النفس اللوامة باتجاهه ومن ثم إلى مرتبة النفس الملهمة ( الأحمر ).
إن عملية اللوم على ارتكاب الخطأ لا يكفي ما لم يكن هناك إقلاع وتخلي كامل عن الخطأ ، وهذا لا يتم إلا من خلال انتهاج طريق الصبر والتروي أمام المغريات الهابطة ،ومرتبة البرتقالي تمثل أول بوادر الصبر الذي يغري بظفر معرفي وروحي ومذاقات وجدانية ومعنوية أفضل بكثير من المذاقات المادية ، فالبرتقالي هنا يُوعدنا ويحيلنا بنفس الوقت إلى ما تنطوي عليه مرتبة النفس الملهمة ،والبرتقالي هنا أقرب ما يكون صفةً من نهاية الظل ، فهو من جانب يمثل نهاية الضوء وفي نفس الوقت بداية الظل ، كذلك الحال مع البرتقالي فهو من جانب يمثل نهاية الأصفر ومن جانبٍ آخر يمثل بداية الأحمر .
إن الأساس الذي يستند عليه الرياء الخفي هو الجهل بجهة الحق تعالى ،فلولا ظلمة الجهل لما مال المرء إلى كفة رضا الناس ولم يشغله رضا الحق تعالى ، ولعل من أبرز صفات النفس الأمارة ( الأصفر ) الرياء الخفي ، ومعلوم ما للرياء من وجه يمتد باتجاه رضا الخلق واستمالة إعجابهم ، هنا تدخل العناية الإلهية وتمتد يد الرحمة لتذيق صاحب هذه المرتبة (النفس اللوامة ) مذاقات رضا الحق من باب وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ(لأعراف: من الآية156) فلما ذاقت ترقت فتخلت عن ريائها الخفي فتقدمت لطلب تعليم الحق لها فكانت الاستجابة من باب وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(البقرة: من الآية282) فكان لأول دخولها عالم الإلهام لابد لها أن ترتدي حلة البرتقالي وتأخذ حصتها منه بالتدريب والإعداد والاعتناء ، لتكون مهيأة إلى مرتبة أعلى (البرتقالي المحمر )ومن ثم ( الأكثر احمراراً ) حتى تتحد في مرتبة اللون الأحمر وتتماهى فيه ، وحين يتم لها ذلك فإنها تنشغل بالحق عن الخلق ، وعندما تصبح صفتها بهذا الوصف ، فإن الحق تعالى يكافئها بما تستحق ، ويعطيها بما تتسع قابليتها ،يقول تعالى :وَنَفْسٍ وَمَا سَواها * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (الشمس:7 ،8 ) فذاقت وعرفت وبكت ندماً لما ارتكبت من حماقات الفجور ، وهامت شوقاً إلى الحق تعالى .
لصفة العجب في النفس اللوامة وجوه كثيرة ، منها وجه تجد من قبله الحسد ، وآخر تجد من قبله الدهشة الممزوجة بالحيرة ، ووجه تجد من قبله حب الذات أو النفس ( النرجسية ) ووجه تجد من قبله حافزاً يدفعك باتجاه البحث والمعرفة، وهذا الوجه هو الذي يستحق محبة وعناية الحق به فيجذبه إليه عبر الترقي في المقامات والمراتب فلابد له أن يمر بمرتبة التوسط ( البرتقالي ) ومن ثم يتصاعد إلى مرتبة الأحمر ومن بعد إلى المراتب الأخرى .
من هنا يتضح أن اللون البرتقالي يغري بالشهوة ويحيل بإغرائه إلى طرفي نقيض ومنه تنطلق إشارتين واحدة إلى المحدود والأخرى إلى المطلق ، يحلينا إليها بحيادية تامة ، من غير ، غير أن توسطه ما بين الأصفر والأحمر فإن كفة الأحمر أكثر من كفة الأصفر وعليه فإن العاطفة تنقاد إليه .