أ.د . ضاري مظهر – جامعة بابل
الأسود والسيادة لغةً :
( سودهُ قومه بالتشديد ،وهو أسود من فلان ،أي أجل منه ، وتقول سيد قومه إذا أردت الحال ،فأن أردت الاستقبال قلت سائدُ قومه ) (الرازي ، 1981 ،ص 93 )
أهتم العرب في كيمياء اللون وقد قسموا الألوان إلى قسمين منها من هو بسيط , كاللون الأبيض والأسود وما عدا هذين اللونين فمركب منهما على قدر أجزائها .(فارس ،1952 ،ص38).
وجعلوا للون الأسود دلائل ومعاني ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بحياتهم الاجتماعية ، وبالتأكيد فإن استعاراتهم الرمزية لم تكن لتأتي من قبيل الصدفة أو مبتورة الجذور ، بل تستند بشكلٍ أو بآخر إلى الطبيعة ومعطياتها ، كما أنها تستند من جانبٍ آخر لانفعالات النفس والعقائد الدينية .
ويبدو أن العرب قد استعارت معنى السيادة من سيادة اللون الأسود على باقي الألوان ، ذلك لعدم ظهور هوية أي لون إذا مازج واختلط مع اللون الأسود ، إلا اللون الأبيض فإنه يغير من درجة السواد إلى درجات الكحلي والرصاصي بحسب كمية اللون الأبيض المضاف إلى الأسود ، فتنتفي هوية كلا الطرفين ،فلم يعد هناك أسود ،ولا ابيض .
اللون الأسود إذا ما نظرنا إليه حقيقةً فإنه حاصل تحصيل مزج الألوان الأساسية (الأصفر والأزرق والأحمر )كذلك الحال مع تحليل الضوء الأبيض ، فإنه يتحلل إلى سبعة ألوان تسمى ألوان الطيف الشمسي ،ثلاثة ألوان رئيسية (الأزرق والأحمر والأصفر ) وما ينجم عن تجاورهما من الألوان الوسيطة كالأخضر والبرتقالي البنفسجي فإذا اجتمعت هذه الألوان المضيئة بعضها فوق بعض تكون اللون الأسود.
يقول تعالى :يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (آل عمران:106).
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ(الزمر:60). وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ(النحل:58).
يرى البروسوي في تأويله للآية:يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهأن اسوداد الوجه كناية عن كمون الخوف فتبدل لونه وتبدلت صورته وقد تكون هذه الصفة حقيقة يوسم بها أهل الباطل .( البروسوي، 1990 ،ص 264 ) دلالة اللون الأسود هنا للخوف وسمة من سمات أهل الباطل ,أما بخصوص ما ذهب إليه البروسوي من أنها كناية عن كمون الخوف فإن الباحث لا يرى في هذا كنايةً ، لتأكيد خطاب الحق تعالى بأنها سمة الكافرين في الكثير من الآيات، كما ويعتقد الباحث أن اللون الأسود الذي تصطبغ به وجوه الكافرين هو ليس من جنس النور بل صبغة حقيقية متأصلة في الوجه يظهرها الحق تعالى عليهم من باب الخزي ، لاحتجابهم بالسوى عن الحق .
ويرى أبن عربي إن هذه الصفة تلازم من توجه قلبه بمجاراة واتباع النفس التي تطلب حظوظها في تحصيل لذاتها وشهواتها فتكون بذلك بعيدة عن جهة النور الحقية ، فتكون تابعة لهواها في تحصيل لذاتها (وذلك إنما يكون باتباع السبل المتفرقة الشيطانية فأما الذين اسودت وجوههم فيقال لهمأكفرتم بعد إيمانكم أي: احتجبتم عن نور الحق بصفات النفس الظلمانية وسكنتم في ظلماتها بعد هدايتكم ،وتنوركم بنور الاستعداد وصفاء الفطرة وهداية العقل فذوقوا عذاب الحرمان باحتجابكم عن الحق .(بن عربي ،ج1 ،1978 ،ص 209 ) .
ويبدو من خلال التأويلين أن السواد هو الاحتجاب ،أي: سيادة الحجب الظلمانية على غيرها من الألوان فجعلتها تصطبغ بصبغتها فانمحت بذلك هوياتها فلم يبق إلا الحجب ، فيظهر صاحب هذه الحجب بسمته السيادية التي اكتسبها في الحياة الدنيا والتي تعلن عن هويتها السوداء ، دلالة على أن صاحبها ساد بجهالته على نفسه ولن يسمح بنمو أية ولادة للنور في كيانه ، أما في حال كونها باديةً على الوجه لا على غيره من أجزاء الجسم ،لكون أن الوجه هو الأقرب إلى القلب والعقل والحواس ، وبسبب عدم استثمار هذه اللطائف بشكلٍ صحيح وسليم وكما ينبغي فإن الحق يجعل لها وسماً يخزي صاحبها به ليشهدهُ جميع الناس، يقول تعالى :لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(لأعراف: من الآية179) .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة:164) فلأن المرء لم يحسن استخدام عقله وحسه وقلبه بشكلٍ صحيح ، فإنه بذلك يستحق هذه العقوبة الإلهية .
ويذهب البروسوي مذهباً آخر في تأويله لنفس الآية فيرى ، أن صفة السواد التي تعم وجوه المكذبين ذلك لما ينالهم من شدة الوقفة كما أن تلون الوجه يكون يوم القيامة بلون القلب ، والقلوب التي ابتعدت عن الحق لابد لها أن تسود بالاتجاه المعاكس .(نفسه ،ج3 ،ص 397 ).
فالسواد هو علامة المحجوب كما يرى أبن عربي ، والمحجوب هو الذي يحتجب بما سوى الله تعالى سواء كان هذا السوى مادياً أو روحياً..ويجوز عليه ما يمتنع عليه من الصفات لاحتجابه بالمواد (وجوههم مسودة ) بارتكاب الهيئات الظلمانية ورسوخ الرذائل النفسانية في ذواتهم (أليس في جهنم )الطبيعة الهيولانية(مثوى للكافرين ) الذين احتجبوا بصفات نفوسهم المستولية عليهم (نفسه ،ج2 ،ص348 ).
فاللون الأسود اتخذ نفس الدلالة في تأويلي أبن عربي والبروسوي ، باعتباره حجاب الظلمة التي تسيطر على قلوب الكافرين وتجري نفس الدلالة على الآيات الأخرى .
يقول تعالى :وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ(البقرة: من الآية187) .أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (فاطر:27).
يحلينا البروسوي في تأويله للآية الأولى إلى ما جاء في ظاهر الشرع وتحديداته ويرى أن الخيط الأبيض هو البداية الأولى لسطوع الفجر ،في الوقت التي تبدأ فيها بعض الأشياء بظهور ملامحها وسط الظلام ، في حين تخفي ملامح الأشياء الأخرى وتتماهى في الظلام .(نفسه ،ج3 ، ص 145 ).
في حين يرى أبن عربي أن هذه الآية يراد بها الأرزاق الروحانية للسالكين ، أي :حصة السالك من المعارف الذوقية والمشارب العرفانية حال حضور اللوامع (الواردات الإلهية ) التي بواسطتها يتم التغلب على خيط سواد الغفلة وظلمتها .(بن عربي ،ج1 ،ص 116 ).
فتكون دلالة اللون الأسود هي الغفلة والظلمة ، ذلك لأن شدة الظلام تحجب الناظر عن النظر في ملاحظة الأشياء ،وبالتالي يجهل حقائقها ومعانيها .
دلالة السواد في الحجر الأسود :
ورد في الخبر عن النبي إنه قال عن الحجر الأسود :اكثروا استلام هذا الحجر فإنكم توشكون أن تفقدوه بينما الناس يطوفون فيه ذات ليلة إذا اصبحوا وقد فقدوه، إن الله عز وجل لا يترك شيئاً من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة . (الأزرقي ،1979 ،ص 342 ،343 ) .
وقال وهو يحدث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خلال رفقتها معه إلى البيت الحرام : لولا طبع على هذا الحجر، يا عائشة من أرجاس الجاهلية وأنجاسها إذاً لاستشفي به من كل عاهة وإذا لألفي اليوم كهيئته يوم أنزل الله عز وجل وليعيدنه إلى ما خلقه أول مرة ، وإنه لياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة ، ولكن الله غيرهُ بمعصية العاصين وستر زينته عن الظلمة والآثمة لأنه لا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شيء كان بدؤه من الجنة (الأزرقي ، ص 323 ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلاً عن الترمذي وابن عباس : (نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم ) (بن عربي ،ج1 ،1997 ،ص 890 ).
ظهرت سيادة آدم عليه السلام على الأرض جراء خطيئته ، كما يرى أبن عربي ،وبهذا الفعل تحقق قضاء الله تعالى وإرادته في جعل خليفةً له في الأرض كما نصت عليه الآية :وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (البقرة:30) .
فآدم لولا خطيئته ( ما ظهرت سيادته في الدنيا فهي التي سودته وأورثته الاجتباء ، فما خرج من الجنة بخطيئته إلا لتظهر سيادته ) (بن عربي ،نفسه ،ص 890 ) والحجر كذلك هو الآخر حين خرج من الجنة بالأمر الإلهي كان أشد بياضاً من اللبن كما ورد في الخبر ، وعندما وضع في الكعبة ونتيجة للملامسة وتقبيل الناس له والخاصية التي وضعها تعالى به من كونهِ قابل أن تتعلق به أرجاس وخطايا بني آدم ،فهو على هذا الحال حين يقتضي الحق تعالى رجوعهِ إلى الجنة فإنه يسود ويتميز على أمثاله من الحجر ، فتكون له السيادة هناك ، فسوادهُ يمنحه السيادة والقرب من الله تعالى ، فتظهر (عليه خلعة التقريب الإلهي فأنزله الله تعالى منزلة اليمين الإلهي التي خمر الله بها طينة آدم حين خلقه ،فسودته خطايا بني آدم ،أي : صيرته سيداً بتقبيلهم إياه ، فلم يكن من الألوان من يدل على السيادة إلا اللون الأسود ، فكساه الله لون السواد ) (بن عربي ، نفسه ،ص 890 ).
لقد اكتسب اللون الأسود على وفق التأويل الصوفي للحجر الأسود ، دلالة السيادة ، كما اكتسب آدم السيادة للأرض بعد سواد خطيئته ، إلا أن التوجه قد اختلف في مكان السيادة ، فالحجر الأسود يكون مكان سيادته على أمثاله في الجنة ، في حين أن سيادة آدم جرت على الأرض .
اللون الأسود ومراتب النفس :
يقع تسلسل نور اللون الأسود لمراتب النفس في المرتبة السادسة ، وهي مرتبة النفس المرضية ، إذ بعد أن تقطع النفس مراتب الرقي لتحصيل كمالها من خلال الطاعات ونوافل العبادات ، فتبدأ أولاً بمغادرة مرتبة النفس الأمارة بالسوء ذات النور الأزرق ومن ثم مرتبة النفس اللوامة ذات النور الأصفر ، من بعد ذلك مرتبة النفس الملهمة ذات النور الأحمر ومع مواصلة العبادة والنوافل ترقى إلى مرتبة النفس المطمئنة ، ذات النور الأبيض ومن ثم ترقى إلى مرتبة النفس الراضية ذات النور الأخضر فتصل بعد هذا إلى مرتبة النفس المرضية ذات النور الأسود ، فيحصل لها التقريب الإلهي والاعتناء فتفنى في الله وتكتمل به تعالى وهي آخر المراتب وتسمى مرتبة النفس الكاملة التي لا لون لنورها .
ويبدو أن هناك مماثلة من حيث السيادة بين الحجر الأسود والعبد الذي يبلغ مرتبة النفس المرضية ، ذلك لأن الحجر الأسود كما قلنا بلغ مرتبة السيادة بفتوته ، كونه تحمل خطايا بني آدم ، وعند عودته إلى اصله في الجنة تكون له السيادة على جميع الحجر هناك ، كذلك العبد المطيع فإنه يبلغ مرتبة السيادة عند وصوله إلى مرتبة النفس المرضية ذات النور الأسود فيسود بذلك على كونه الصغير ،إذ بات من المعلوم أن الإنسان كون صغير انطوى فيه العالم الأكبر , فهو مختصر شريف جامع لكل مراتب الكون الوجودية ، لأن حقائقه تقابل جميع الحقائق الوجودية كثيفها ولطيفها ، فهو حين يصل مرتبة النفس المرضية ذات النور الأسود فإن تلك إشارة على بلوغه مرتبة السيادة على نفسه ، وبالعكس من هذا فإن الإنسان الذي يخضع للنفس الشهوانية ويلبي مطالبها فإنه يكون عبداً للشهوة لسيادتها عليه عند ذاك تكون علامته يوم القيامة (اسوداد الوجه ) فيلقى في جهنم لتتولى تطهيره من دنس التعلقات حتى يعود كالدرة الصافية .
ومما يذكر عن جهنم أن لونها أسود ، وهي لا ترى فيها ضياء اللهب كما هي عليه الحال في نار الدنيا ، لأن الضياء فيها خاصية تستأنس لها الذات الإنسانية إلا وهي خاصية النور ، في حين أن صفة جهنم هي الظلام الدامس وإنه لو أُخرج منها قدر معين ، وفرق جرمه في الهواء حتى يصير في تفريقه مثل الدخان فإنه لا يظهر فيه الضياء والاشتعال .. ولو جمعت نار بقدر الدنيا ، وضمت بعضها إلى بعض وجمعت جمعاً شديداً حتى صارت مثل الصندوق فإنها ترجع سواداً محضاً وظلاماً خالصاً .(الدباغ ،1988 ،ص 377 ).
ويبدو أن لسواد نار جهنم سلطان على سواد المجرمين من سكنتها فهي تفعل فيهم فعل الجلي للحديد الصدأ ، يبقى حالها معهم إلا ما شاء الله ، وجهنم بهذا الوصف يكون لها السيادة على المجرمين طالما بقي منهم بقية .
أما النفس المرضية ذات اللون الأسود فإن سيادتها تظهر كذلك في الجنة ،يقول تعالى : وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(فصلت: من الآية31) فإن صاحب الجنة كالملك الذي لا يعوزه شيء كلما أراد شيء وجده حاضراً كمثل لمح البصر ، وهذه عين السيادة .
وتتصف مرتبة النفس المرضية ذات النور الأسود بجملة صفات كما يراها الكيلاني منها ، حسن الخلق ،وترك ما سوى الله ، واللطف بالخلق ، والتقرب إلى الله تعالى ، والتفكر في عظمته ، والرضا بما قسم تعالى .( الكيلاني ،1988 ،ص 38 ).
ولو تأملنا هذه الصفات لوجدناها تتصف بالسيادة ، ذلك لأن حسن الخلق هو السيادة على سوء الخلق ،وترك ما سوى الله هو سيادة الإرادة بالله على إمكانية الترك ، واللطف بالخلق هو عين السيادة الصفة الغضبية في النفس التي تميل إلى جهة الانتقام والبطش ، والتقرب إلى الله هي سيادة الروح على النفس الحيوانية التي ترغب في إشباع ملذاتها وأهوائها بشكل غير مشروع ، والتفكر في العظمة هو سيادة الروح على الجهل وعدم التفكر ، والرضا هو السيادة على الشره وعدم القناعة .
من هنا يتضح أن اللون الأسود له دلالة البعد السلبي إذا سادت النفس الأمارة بالسوء وأمعنت في ضلالتها واحتجبت بجهلها وسادت في هواها ولذاتها وإمعانها في الكفر ،ولم يعد فيها مجال لظهور أي لون من النور ، تماماً كالليل البهيم الذي يحجب نور الأشياء فلا يبدو معه لون من الألوان ، يقول تعالى :جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً(الفرقان: من الآية47) واللباس هو الستر الذي يحجب عورة الإنسان ، ولم يكن الليل لباساً لولا سواده ، لأن النور يعطي الحقائق حقها واستحقاقها .
من دلالات اللون الأسود كذلك هو البعد ، كما يرى أبن عربي ،فالضلال في الطبيعة فيها ضرب إلى العتمة والسواد وهي إشارة إلى ما فيها من الخفاء لبعد المناسبة بينها وبين أشخاص من هي ظل له ؟ .. وإن كان الشخص أبيض فظله بهذه المثابة ، إلا ترى الجبال إذا بعدت عن بصر الناظر تظهر سوداء وقد تكون في أعيانها على غير ما يدركها الحس من اللونية وليس ثم علةٍ إلا البعد. (بن عربي ،1989 ،ص 102 )
البعدُ والسيادة للون الأسود أخذت مجالاً واسعاً في مجال التطبيق حتى في المناسبات الاجتماعية ،فلباس الأسود دلالة على سيادة الحزن على أي شيءٍ آخر في مناسبات الوفيات ،كما أن هناك طبقة من النبلاء تصر على لبس الأسود في المناسبات والاحتفالات الخاصة لتدل بذلك على رفعتها وسيادتها على الطبقات التي تحتها من المجتمع ودلالة على علو مرتبتهم وسمو شرفهم في المجتمع .
_____________
المراجع:
1-القرآن الكريم
2-الأزرقي ، أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد ، أخبار مكة وما ورد بها من آثار ,ج1 ،تحقيق رشدي صالح ،دار الثقافة لبنان :1979.
3-بن عربي، محي الدين ، الفتوحات المكية ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت: 1999 .
4-بن عربي، محي الدين ، فصوص الحكم ، تحقيق أبو العلا عفيفي ، مطبعة الديواني ،بغداد :1989 .
5-بن عربي، محي الدين،تفسير القرآن ،تحقيق مصطفى غالب ، دار الأندلس ، بيروت :1978 .
6-البروسوي ،إسماعيل حقي ،تنوير الأذهان في تفسير روح البيان ، ج1 ،تحقيق محمد على الصابوني ، الدار الوطنية ، بغداد :1990 .
7-الكيلاني ، عبد القادر ،الفيوضات الربانية ، المكتبة الوطنية ، بغداد :1988 .
8-الدباغ عبد العزيز ،الإبريز ،تحقيق أحمد بن المبارك ،المكتبة الوطنية ،بغداد :1991 .
9-فارس، بشر ، سر الزخرفة الإسلامية،مطبعة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية ،القاهرة :1952
10-الرازي ، محمد بن أبي بكر بن عبد لقادر ,مختار الصحاح ،دار الكاتب العربي ،بيروت:1981 .