الطريقة كمفهوم
لو اردنا ان نبحث عن مفهوم ( الطريقة ) في القرآن الكريم من حيث الجوهر الحقيقي لها والأركان المكونة لها وليس من حيث الاسم اللفظي الذي اشتهرت به فيما بعد ، لوجدنا ان عددا كبيرا من آيات الذكر الحكيم دالة عليها ، موضحة لأركانها ، مبينه لجوانبها ، مشيرة لدقائقها ورقائقها .. فعلى سبيل المثال ، اشتهر أهل الطريقة بحبهم الكبير للذكر الكثير ، وتعاهدهم لحلقات الذكر ، وتواصيهم بالأوراد والتسابيح آناء الليل وأطراف النهار ، حتى وصفه حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره : بأنه جلاء رمد العقول ، وروح جنان الرحمة ، تهب نسيمه على مشام أرواح الذاكرين ، فتهتز من نشواته أعطاف الأرواح في أقفاص الأشباح (1) ، وصفه حضرة الشيخ احمد الرفاعي الكبير بأنه ويقول : نور القلب (2) . فهذا الركن الأساسي عند اهل الطريقة ذكره القرآن الكريم في اكثر من ( 270 ) آية كريمه ، منها قوله تعالى : ( الَّذينَ آمَنوا وَتَطْمَئِنُّ قُلوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلوبُ )(3) وقوله تعالى الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم (4).
ومن أركان الطريقة الأساسية السعي نحو محبة الله ورسوله ، وهذا الركن ذكر في ( 83 ) آية من آيات القرآن الكريم ، منها قوله تعالى : (فسَوْفَ يَأْتي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلى الْكافِرينَ )(5) ، وهي من اهم غايات الطريقة واهل الطريقة ، وبهذا تكون الطريقة مذكورة ضمنا في هذه الآيات الكريمة . ومن أساسيات الطريقة التعمق في العبادة ، ومعنى التعمق بحسب ما يوضحه الشيخ محمد
الكسنـزان : هو ان لا يقف المسلم عند حدود الفرائض بل يجعل همه في النوافل وفي زيادة الطاعات والقربات ، ولاشك ان من آيات القرآن الكريم التي تحث على الزيادة في العبادة من حيث الصلاة والصوم وقراءة القرآن الكريم وغيرها مما يصعب حصره هنا ، ويكفي في الإشارة اليه قوله تعالى : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا )(6).
ومما تكاد تنفرد به الطريقة هو تركيزها على الأخلاق والفضائل والآداب التي تسعى إلى تقويمها في النفس الإنسانية ، ولا شك ان وصف الحق تعالى للرسول الأكرم ﷺ بأنه على خلق عظيم في قوله سبحانه : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ )(7) فيه الكفاية للدلالة على عظمة وأهمية التحقق بهذا الركن .
وفي مجال المعاملات مع الخلق ، يركز اهل الطريقة على الصدق في القول مع الناس والإخلاص في العمل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد او اللسان او القلب ، والابتعاد عن الامراض الاجتماعية من غيبة ونميمة وحسد وتجسس وغيرها ، وكل هذه المسائل مما ثبت نزله في القرآن الكريم .
وهناك ركن الجهاد بقسميه الأصغر والأكبر ، وهما مما ميز اهل الطريقة عن غيرهم خلال التاريخ الإسلامي الطويل ، والقرآن الكريم حافل بالآيات الكريمة التي تحث عليهما .
واذا اتجهنا نحو العرفانيات والمسائل الكشفية نجد ان العلوم اللدنية والإلهامية حاضرة في نصوص قرآنية كثيرة ، أوضحها قصة النبي موسىعليه السلام والعبد الصالح ، الذي وصفه تعالى بقوله : ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا )(8). فهذا الجانب من الطريقة له حضوره في القرآن الكريم .
وهكذا بقية أركان وفروع الطريقة ، جميعها لها أصولها في القرآن الكريم تصريحا او تلويحا ، وهذا يؤكد ما نذهب اليه من ان الطريقة تشمل كافة مرافق الحياة الدينية والدنيوية ، فهي ليست سوى اتخاذ أسلوب مأذون في التطبيق لأحكام الدين وأركانه .
الطريقة كلفظ
اما اذا أردنا البحث عن اسم الطريقة ودلاله هذا اللفظ في القرآن الكريم ، فسنجد ما يوضحه ويبين المقصد منه في عدة آيات كريمه .. فلنتأمل معا : حين نقرأ الآيات الكريمة مثل قوله تعالى : ( وَأَلَّوِ اسْتَقاموا عَلى الطَّريقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) ([9]) ، نجد ان الحق تعالى يتحدث عن أمر معين اسمه ( الطريقة ) ينبغي علينا ان نستقيم عليه ، ولكنه سبحانه وتعالى لم يوضح بالضبط ما هو المقصود من لفظ الطريقة ، أي لم يحدد ملامح هذا اللفظ القرآني بشكل مباشر ، حاله في ذلك كحال لفظة الصلاة
مثلا ، فحين امر بها تعالى لم يحدد عدد ركعاتها وباقي تفاصيلها ، وهنا يرجع المسلمين إلى حضرة الرسول الأعظم ليبين لهم تفاصيل الأمر الإلهي ، او يلجئون إلى فهم القرآن بالقرآن ، وقد اشتهر بين العلماء عبارة ان القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا .
كيف ..؟
مثلا حين نقرأ قوله تعالى : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ )(10) ونريد ان نعرف من هؤلاء الذين انعم الله تعالى عليهم ، نجد آية كريمة أخرى تقول : ( فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا )(11) فهذه الآية الكريمة تذكر ان الذين انعم الله تعالى عليهم هم الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، وهي تفسر الآية الأولى ، بمعنى ان الله تعالى يأمرنا في الآية الأولى ان نطلب صراط المذكورين في الآية الثانية ، وكأنه يأمرنا ان نطلب صراط الأنبياء والصديقين .. الخ . فهذا معنى تفسير القرآن بالقرآن . وفي آية الطريقة ، لما رأينا ان كلمة الطريقة لم تتضح معالمها في القرآن الكريم ، وقد جاءت مرتبطة
بمفهوم ( الاستقامة ) علمنا ان تفسير الاستقامة يفسر لنا مراد الحق تعالى بلفظ الطريقة في القرآن الكريم .
الطريقة والاستقامة
الاستقامة في اللغة هي الاعتدال ، يقال : استقام الإنسان ، أي اعتدل في سلوكه وكانت أخلاقه فاضلة (12) .
والاستقامة بالمعنى الشرعي هي تحقيق الموازنة بين الإيمان والعمل ، فعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ بَعْدَكَ ، قَالَ : ( قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ )(13). فهذا الحديث – كما يقول علماء الحديث – من جوامع الكلم ، اذ جمع فيه النبي الإسلام كله بكلمتين .. ( قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ) – العقيدة – ( ثُمَّ اسْتَقِمْ ) – العمل – .
( آمَنْتُ بِاللَّهِ ) ، المنطلق النظري ، ( ثُمَّ اسْتَقِمْ ) ، التطبيق العملي .
( قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ) الفكر، ( ثُمَّ اسْتَقِمْ ) في السلوك ، فالإسلام اعتقادٌ وعمل ، منطلقٌ نظري وتطبيقٌ عملي ، فهمٌ وسلوك . وهو تصديق لقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )(14).
ولكن هل الإيمان قول ؟
جاء عن رسول الله ﷺ انه من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة .
قيل : يا رسول الله وما حقها ؟
قال : أن تحجزه عن محارم الله (15).
فإذا قلت : لا إله إلا الله مخلصا ، وإخلاصها هو أن تحجزك عن محارم الله ، أي ان تأتمر بالمعروف وتنتهي عن المنكر ، فقد آمنت واستقمت .
ان كل ما في الإسلام من سعادة ، كل ما في الإسلام من طمأنينة، كل ما في الإسلام من توازن ، كل ما في الإسلام من اعتدال ، كل ما في الإسلام من ثقة، لا تقطفها إلا بهاتين الكلمتين قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ . فلو حصل خلل في العمل فهذا يعني ان هناك ، ولو أن هناك خللٌ في العقيدة لا بد ان يتبعه خللٌ في العمل ، هذا الترابط الدقيق بين ما تعتقد ، وما تفعل ، بين المنطلق النظري والتطبيق العملي ، بين الاعتقاد وبين العمل ، بين ما يستقر في قلبك وبين ما تفعله في يديك ، هو القاعدة الرابطة بين الإيمان والعمل والصالح .
الاستقامة اذا هي تطبيق أركان الدين الإسلامي تطبيقاً كاملاً ، الاستقامة أن تقوم على الأمر والنهي ، ولا تروغ عنه روغان الثعلب كما قال سيدنا
عمر( 16)، وعلى العكس من ذلك تماما فالاستقامة هي الخط المستقيم كما رسمها رسول الله ﷺ حين « خط خطاً ، وخط عن جنبتي ذلك الخط خطوطاً ، فكان ذلك الخط شرعه ومنهاجه الذي بعث به . وقيل له : قل لأمتك تسلك عليه ولا تعدل عنه ، وكانت تلك الخطوط شرائع الأنبياء التي تقدمته والنواميس الحكيمة الموضوعة ، ثم وضع يـده على الخـط ، وتلا : وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما (17) فأضافه إليه ولم يقل صراط الله … هذا معنى الاستقامة المتعلقة بالنجاة »(18) .
يلاحظ من هذا النص كيف أن الاستقامة هي السير على الصراط المحمدي للوصول إلى النجاة بالنفس في الدنيا الآخرة ، وهذا الصراط امرنا الله تعالى ان نسأله اياه في كل صلاة نؤديها وذلك بتلاوتنا ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ )(19) من فاتحة الكتاب ، فما هو الصراط ؟
روى عن الضحاك (20) ، عن عبد الله بن عبـاس رضي الله عنه قال : قال جبريـل لمحمد : « قل يا محمد اهدنا الصراط المستقيم » ، أي : ألهمنا الطريق الهادي(21). فهو الطريق الهادي إلى دين الله ، كما رواه ابن عباس رضي الله عنه ، وبه قال مجاهد (22).
ان الترابط والتلازم بين الصراط وهو الطريق وبين الاستقامة ، يفسر لنا قوله تعالى : ( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا )(23) أي لو ساروا على الطريقة المستقيمة التي خطها رسول الله ﷺ لنفسه وأمته ، لوصلوا إلى مراتب القرب التي توصل لها تلك الطريق .
روي عن رسول الله ﷺ انه قال : فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته (24) فالصراط هو قنطرة على النار يعبر عليها الناس يوم الحساب ، وهو عند الشيخ محمد الكسنـزان نتيجة لازمة لمقدمة سابقة ، فالصراط المستقيم عنده موجود في الدنيا ومن لم يستطع العبور عليه هنا لا يستطيع العبور عليه هناك .. كيف ؟
لما كانت الطريقة عند الشيخ محمد الكسنـزان هي التطبيق الحرفي والروحي للشريعة الإسلامية بجميع أركانها وفروعها ، فهي عنده تمنع المريد من الحرام وتربي نفسه على النفور منه ، بل ومن مجرد التفكير فيه ، ولا تقف عند هذا الحد بل تربيه على الابتعاد عن الشبهات التي يشك بها او يرتاب فيها فتنمي عنده مشاعر الورع ، وتقوي عنده خاصية التقوى ، فاذا التزم المريد بمنهج الطريقة فانه سيكون ابعد الناس عن المحرمات والشبهات ، وبالتالي ابعد الناس عن الوقوع من الصراط في النار يوم القيامة ، ولهذا يؤكد الشيخ محمد الكسنـزان على ان كل حرام في الدنيا هو في حقيقته نار في الآخرة ، مستشهدا بقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا )(25) أي من يظلم في الدنيا يجازى بالنار في الآخرة ، والسير على منهج الطريقة بالنسبة للمريد في الدنيا يماثل السير على الصراط في الآخرة ، وكلما التزم واستقام ، كلما كان عبوره على الصراط أسهل وأسرع في الدنيا قبل الآخرة . فالطريقة عند الشيخ محمد الكسنـزان : هي الصراط المستقيم الذي يعبر عليه المريد في الحياة الدنيا فلا تمسه النار يوم الحساب ، لكونها وكما جاء تعريفها في كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية طريق القرآن الكريم ، ونهج الرسول الأعظم ﷺ وأهل بيته الأطهار وصحابته الكرام ، أي الطريق المستقيم الذي ذكره الله تعالى في أول سورة في القرآن فقال سبحانه : ( اهْدِنا الصِّراطَ الْمُسْتَقيمَ . صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )(26) ، أي : طريق الحق والهداية ، طريق الله الذي نعم وفاز في الدنيا والآخرة من استقام عليه (27).
——————————–
لهوامش:
[1] – مخطوطة بهجة الأسرار ومعدن الأنوار – الشيخ علي بن يوسف الشطنوفي –مخطوطة مكتبة الأوقاف العامة – بغداد – برقم ( 4790 ) – ص 105 ( بتصرف ) .
[2] – المصدر نفسه – ص 149 .
[3] – الرعد : 28 .
[4] – آل عمران : 191 .
[5] – المائدة : 54 .
[6] – الإسراء : 19 .
[7] – طه : 4 .
[8] – الكهف : 65 .
[9] – الجن : 16 .
[10] – الفاتحة : 7 .
[11] – النساء : 69 .
[12] – المعجم العربي الأساسي – ص 1016 .
[13] – شرح سنن ابن ماجه – جلال الدين السيوطي – قديمي كتب خانه – كراتشي – ج1 ص 276 .
[14] – الأحقاف : 13 .
[15] – مجمع الزوائد – علي بن ابي بكر الهيثمي – ج1 ص 18 .
[16] – تفسير الطبري – دار الفكر – بيروت – 1405 هـ – ج24 ص 115 .
[17] – الأنعام : 153 .
[18] – الفتوحات المكية – الشيخ ابن عربي – دار صادر – بيروت – ج 2 ص 217 .
[19] – الفاتحة : 6 .
[20] – الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبو القاسم ، ويقال: أبو محمد، الخراساني.
وهو تابعي جليل ، روى عن أنس، وابن عمر، وأبي هريرة، وجماعة من التابعين. وكان الضحاك إماماً في التفسير، قال الثوري : خذوا التفسير عن أربعة : مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك ، وقال الإمام أحمد: هو ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات ، توفي سنة 100 هجرية .
[21] – جامع البيان في تفسير القرآن – محمد بن جرير الطبري – دار الفكر – بيروت – 1405 هـ – ج1 ص 72 .
[22] – زاد المسير في علم التفسير – ابن الجوزي – القاهرة – 1960- ج1 ص 9.
[23] – الجن : 16 .
[24] – صحيح البخاري – ج1 ص 278 .
[25] – النساء : 10 .
[26] – الفاتحة : 6-7 .
[27] – الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية – الشيخ محمد الكسنـزان – ص 73 .