إزدهار الشذر
فضيلة السخاء
إعلم أن المال إن كان مفقوداً فينبغي أن يكون حال العبد القناعة ، وإن كان موجوداً فالإيثار والسخاء والتباعد عن البخل (1) ، قال :السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدلية إلى الارض ، فمن أخذ منها غصناً قاده ذلك الغصن إلى الجنة . والشح شجرة في النار فمن كان شحيحاً أخذ بغصن من أغصانها فلم يتركـه ذلـك الغصـن حتـى يدخلـه النـار .
وقال ) : قال جبرائيل قال الله تعالى : إن هذا دين إرتضيته لنفسي ، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه ما استطعتم وفي رواية فأكرموه بهما ما صحبتموه.
وقال :ما جبل الله ولياً إلا على السخاء وحسن الخلق . وعن جابر قال : قيل يا رسول الله أي الإيمان أفضل قال الصبر والسماحة .
عن عائشة : إن إبن ألزبير بعث إليها مالاً في غرارتين ثمانين الفاً ومائة ألف ، فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس ، فلما أمست قالت : يا جارية هلمي فطوري ، فجائتها بخبز وزيت ، فقالت لها : أم درة ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه ، فقالت : لو ذكرتيني لفعلت .
وأعلم أن أرفع الدرجات في السخاء الإيثار ، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه والسخاء هو الجود بما فضل عنك وقد أثنى الرب سبحانه وتعالى على الصحابة فقال : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (2) .
وقال عيسى :أيما رجل إشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له .
وحكي أنه نزل برسول الله ضيف ، فلم يجد عند أهله شيئاً فدخل عليه رجل من الأنصاروحمله إلى أهله ، فوضع بين يديه الطعام ، وأمر أمرأته باطفاء السراج وجعل يمد يده في الطعام كأنه يأكل ولا يأكل حتى أكل الضيف الطعام ، فلما أصبح قال له رسول الله :لقد عجـب الله مـن صنيعكم إلـى ضيفكـم فنزلت هذه الآية الكريمة : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ(3) .
يقول الإمام علي بن أبي طالب :
السخاء : ترك الامتنان عند العطاء (4) .
ويقول: السخاء : هو ماكان ابتداء ، فأما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم (5) .
يقول الإمام جعفر الصادق :
السخاء : هو من أخلاق الأنبياء ، وهو عماد الدين ، ولا يكون مؤمناً إلا سخى ، ولا يكون سخياً إلا ذا يقين وهمة عالية ، لأن السخاء شعاع نور اليقين . من عرف هان عليه ما بذل (6) .
ويقول الشيخ معروف الكرخي : السخاء : إيثار ما يحتاج إليه عند الإعسار(7) .
ويقول الشيخ ابو عبد الرحمن السلمي :
قال بعضهم السخاء : هو المبادرة إلى العطية قبل السؤال(8) .
ويقول الإمام القشيري :
عند القوم ، السخاء : هو الرتبة الاولى ، والجود هو بعده ثم الإيثار . فمن أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء ، ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئاً فهو صاحب جود ، والذي قاس الضرر وآثر غيره بالبلغة ( فإنه ) صاحب إيثار(9) .
ويقول الشيخ أبو سعيد الخراز : غاية السخاء : بذل النفس والمال والـروح للخلـق على غايـة الحيـاء(10) .
ويقول الشيخ الأكبر ابن عربي :
عطاء السخاء : فهو العطاء على قدر الحاجة ، وذلك عطاء الحكمة ، فهو من إسمه الحكيم. فسخاء الحق: قول موسى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (11) . . .
وأما سخاء العبد : فإعطاؤه كل ذي حق حقه وإنصافه ، فلنفسه عليه حق ، ولأهله عليه حق ، ولعينه عليه حق ، ولزوره عليه حق (12) .
ويقول الشيخ عبد الغني النابلسي :
السخاء درجة في الجنة وأغصانها في الدنيا ، فمن أخذ بغصن منها قادته اليها . والشح شجرة في النار وأغصانها في الدنيا . فمن أخذ بغصن منها قادته اليها . وقلب المؤمن جنته ، والسخاء شجرته وأغصانها ممتدة في جوارحه ، فلا تزال جوارحه مبسوطة في الخير ، مقبوضة عن الشر ، وذلك خلق رباني ، فإن يدي الرحمن مبسوطتان ينفق بهما ( في ) الليل والنهار. (13)
ويقول الشيخ ذو النون المصري :
بينما أنا أسير في جبل إنطاكية إذا أنا بجارية . . . قالت : أي شيء السخاء ؟ قلت : البذل والعطاء ؟ قالت : هذا سخاء في الدنيا ، فما السخاء في الدين ؟
قلت : المسارعة إلى طاعة رب العالمين .
قالت : فإذا سارعت إلى طاعة المولى فهو أن يطلع على قلبك وإنت لاتريد منه شيئاً ، ويحك ياذو النون إني أريد أن أطلب منه شيئاً منذ عشرين سنة فأستحي منه مخافة أن أكون كأجير السوء إذا عمل طلب الأجرة ، ولكن أعمل تعظيماً لهيبته وعز جلاله (14) .
ويقول الشيخ عبد الغني النابلسي :
حكي أن صوفياً دخل بلدة فوجد أهلها كلهم أغنياء . فقال لهم : كنت أعهدكم أن الغالب منكم فقراء .
فقالوا له : إن الشيخ فلان أغنانا .
فقال : ذاك رجل فقير فكيف أغناكم ؟
فقالوا : علمنا السخاء والكرم ، فعطف بعضنا على بعض فصرنا كلنا أغنياء (15) .
ويقول الشيخ إسماعيل حقي البروسوي :
حكي أن إمرأة قالت لجماعة ما السخاء عندكم ؟
قالوا : بذل المال .
قالت : هو سخاء أهل الدنيا والعوام ، فما سخاء الخواص ؟
قالوا : بذل الجهود في الطاعة .
قالت : ترجون الثواب ؟
قالوا : نعم .
قالت : تأخذون العشرة بواحد لقوله تعالى : مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا (16) فأين السخاء ؟
قالوا : فما عندك ؟
قالت : العمل لله لا للجنة ولا للنار ولا للثواب وخوف العقاب ، وذلك لا يمكن إلا بالتجريد والتفريد والوصول إلى حقيقة الوجود(17) .
في ذم البخل
قال الله تعالى : وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (18) .
وقال الله تعالى : وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (19) .
وقال : إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن يسفكوا دماءهم فاستحلوا محارمهم . وقال عيسى لا يدخل الجنة بخيل ولا خب ولا خائن ولا سيء الملكة .
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله : خصلتان لاتجتمعان في المؤمن البخل وسوء الخلق (20 ) .
ويقول علي بن أبي طلب : البخـل : جامع لمساوي العيـوب ، وهو زمام يقـاد بـه إلى كــل سـوء ( 21 ) .
ويقول الشيخ الإمام القشيري : البخل رؤية قدر الأشياء (22) . ويقول أيضا : حد البخل – على لسان العلم – منع الواجب . وبخل كل أحد على مايليق بحاله ، وكل من آثر شيئاً من دون رضاء ربه فقد إتصف ببخله ، فمن يبخل بماله تزل عنه البركة حتى يئول إلى وارث أو يزول بحارث ، ومن يبخل بنفسه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحة حتى لايستمتع بحياته ، والذي يبخل بروحه عنه يعاقب بالخذلان حتى تكون حياته سبباً لشقائه (23 ) .
ويقول الشيخ محمد بن الفضل البلخي : البخيل من يلتذ بالإمساك كما يلتذ السخي بالبذل ( 24 ) .
يقول : الشيخ الأكبر ابن عربي في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ يَبْخَلُتونَ وَيَأْمُـرُونَ النَّـاسَ بِالْبُخْـلِ (25 ) أولاً بإمساك كمالاتهم وعلومهم في مكامن قرائحهم ومطامير غرائزهم لا يظهرونها بالعمل فيها بوقتها ، ثم بالإمتناع عن توفير حقوق ذوي الحقوق عليهم ، لا يبذلون صفاتهم وذواتهم بالفناء في الله لمحبتهم لها ، ولا ينفقون أموال علومهم ، وأخلاقهم وكمالاتهم على . . . المستحقين (26) .
إعلم أن البخل سببه حب المال ، ولحب المال سببان (27) :
أحدهما : حب ألشهوات ولا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل ، فانه لو قدر بقاء نفسه يوماً أو شهراً . فلربما سمحت نفسه باخراج المال ، ولعل ولده يقوم مقام طول الأمل فيمسك ما جاء لأجلهم ، ولذلك قال عيسى : الولد مبخلة مجبنة مجهلة وإذا أضيف إلى ذلك خوف الفقر ، وقلة الثقة بمجيء الرزق قوي البخل لا محالة .
والسبب الثاني : أن يحب عين المال فيعلم أنه قط لا يحتاج إليه ، وهو شيخ ولا ولد له ولكنه يحب المال لعينه وهذا مرض في القلب مزمن ، والعياذ بالله . وهو كمن عشق شخصاً ثم أحب رسوله ونسبه ، إذ المقصود من الدنانير والدراهم الوصول إلى الأغراض ، وهذا قد نسي المقصود وعشق الوسيلة والواسطة . فمن رأى بينه وبين الحجر فرقا ً إلا من حيث كونه وسيلة إلى الحاجات فقد جهل .
وأعلم أن علاج البخل تقليل الشهوة ، وكثرة ذكر الموت والتأمل في موت الأقران ، وزيارة القبور ، وتأمل ما فيها من الديدان والتفكر في تلك الأحوال ويعالج التفات القلب إلى الولد ، بأن خالقه خلق معه الرزق ، فكم من ولد ورث ولم يكن ذلك رزقه ، وكم من ولد لم يرث ورزقه الله تعالى أموالاً . وإن ولده إن كان صالحاً فالله تعالى يتولى الصالحين . وإن كان فاسقاً فلا كثر الله في المسلمين أمثاله فانه يستعين بماله على المعاصي .
ومن المنافع التأمل في ذم الناس للبخلاء ونفرة ألطباع عنهم ومدحهم للأسخياء ورغبتهم فيهم وقال تعالى : الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء(28) .
_______________________________
الهوامش :
1ـ مختصر أحياء علوم الدين – للشيخ الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي – ص188-189 .
2ـ سورة الحشر 9 .
3ـ سورة الحشر 9.
4ـ الشيخ ابو عبد الرحمن السلمي – المقدمة في التصوف وحقيقته – ص44 .
5ـ الشيخ محمد عبده – نهج البلاغة – ج4 ص14.
6ـ عادل خير الدين – العالم الفكري للإمام جعفر الصادق – ص235 .
7ـ الشيخ ابو عبد الرحمن السلمي – طبقات الصوفيه – ص 88 .
8ـ الشيخ ابو عبد الرحمن السلمي- المقدمة في التصوف – ص 44 .
9ـ الإمام القشيري – الرسالة القشيرية – ص192 .
10ـ المصدر نفسه اعلاه – ص45 .
11ـ سورة طه 50 .
12ـ الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج2 ص179 .
13ـ الشيخ عبد الغني النابلسي– مخطوطة اعذب المشارب في السلوك والمناقب– ص88-89 .
14ـ الشيخ عبد الله اليافعي – نشر المحاسن الغالية – ص232 .
15ـ الشيخ عبد الغني النابلسي – مخطوطة أعذب المشارب في السلوك والمناقب – ص137 .
16ـ سورة الأنعام 160 .
17ـ الشيخ إسماعيل حقي البروسوي – تفسير روح البيان – ج2 ص115 .
18ـ سورة الحشر 9 .
19ـ سورة آل عمران 180 .
20ـ سنن الترمذي ج4 ص343 .
21ـ الشيخ محمد عبدة – نهج البلاغة – ج4 ص90 .
22ـ الإمام القشيري – تفسير لطائف الإشارات –ج6 ص112 .
23ـ تفس المصدر ج2 ص48 .
24ـ الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي – حقائق التفسير – ص1411 .
25ـ سورة النساء 37 .
26ـ الشيخ ابن عربي – تفسير القرآن الكريم – ج1 ص258 .
27ـ مختصر أحياء علوم الدين – للشيخ الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي – ص190 .
28ـ سورة البقرة 268 .