يقول الدكتور أحمد الشرباصي :
في اللغة
يذكر ابن فارس أن مادة ( الأمانة ) لها أصلان متقاربان :
أولهما : الأمانة التي ضد الخيانة ، ومعناه سكون القلب .
والآخر : التصديق .
والمعنيان متدانيان ، وأصل الأمن هو طمأنينة النفس وزوال الخوف ، ونلاحظ أن هناك ثلاث ألفاظ من مادة ( أ م ن ) وبينهما علاقة أو رابطة ، وهذه الكلمات هي : ( الأمن ، والأمانة ، والإيمان ) والمعنى المشترك بينهما هو الاطمئنان ؛ لأن الأمانة تدل على الثقة ، والثقة اطمئنان ، والأمن عدم الخوف ، وعدم الخوف اطمئنان ، والإيمان تصديق وإذعان ، وفيها استقرار واطمئنان .
الأمانة بالمعنى الأخلاقي :
والأمانة بمعناها الأخلاقي شعور بالتبعة، واحتكام إلى الضمير اليقظ والنهوض الرعاية لكل ما في عهدة الإنسان من شيء حسي أو معنوي ، وكأن الحديث النبوي يرمز إلى هذا المعنى حين يقول : كلكم راع ، وكل راع مسؤول عن رعيته (1)
الامانة في القرآن الكريم :
ولقد تحدث القرآن الكريم عن فضيلة ( الأمانة ) في أكثر من موطن منوها بشأنها حاثاً على صيانتها ومن الآيات المجيدة التي جاء ذكر الأمانة قول الله تعالى في سورة الأحزاب : {إِنّا عَرَضْنا الْأَمانَةَ عَلى السماوات والْأَرْضِ والْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَها الإنسان إِنَّهُ كانَ ظَلوماً جَهولاً } (2) .
ولقد ذكر الأصفهاني في كتابه المفردات أن معنى الأمانة هنا فيه أقوال ، هي :
التوحيد أو العدالة أو حروف التهجي ، أو العقل ، ثم مال إلى اختيار معنى العقل ؛ لأنه في رأيه يشمل الأقوال السابقة ، فقال عنه وهو صحيح ، فإن العقل هو بحصوله تتحصل معرفة التوحيد ، وتجري العدالة ، وتعلم حروف التهجي بل لحصوله تعلم كل ما في طوق البشر تعلمه ، وفعل ما في طوقهم من الجميل فعله وبه فضل الله الإنسان على كثير من خلقه .
ولكن الأقرب القبول في معنى الأمانة هو أنه يراد بها : التكاليف والحقوق المرعية التي أودعها الله المكلفين ، وائتمنهم عليها ، وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد ، وأمرهم بمراعاتها وأدائها والمحافظة عليها ، من غير إخلال بشيء من حقوقها .
ولقد ذكر المفسرون أقوالاً كثيرة بالمراد ، فقيل : أن الأمانة هي المحافظة على
الصلوات ، وأداة الزكاة ، والصوم ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً .
وقيل : إنها أمانات الناس ، أي ودائعهم التي يودعونها عند غيرهم .
وقيل : إنها الأمانة في الحديث وعدم الزيادة عليه .
وقيل : إنها صيانة المرأة لعرضها .
وقيل : إنها الاغتسال من الجنابة .
وقيل : أنها صيانة الإنسان لدم غيره وعدم الاعتداء عليه .
وهذه الأقوال كلها وأمثالها لا تخرج عن كونها ضرب أمثلة و أنواع لصور من الأمانة الكثيرة الصور والأنواع ، والذي يطمئن إليه القلب هو أن المراد بالأمانة : الطاعة ، والتكاليف ، والفرائض التي افترضها الله على عباده ، وهي كل أمور الدين بما فيه من واجبات وحدود ، ولذلك استحسن الإمام الطبري أن المراد بالأمانة في هذا الموضع : هو جميع الأمانات في الدين ، وكذلك جميع الأمانات التي تكون بين الناس ؛ لأن الآية الكريمة لم تخصص نوعاً من أنواع الأمانة ، فكان التعميم أولى وأحسن .
ويقول الحق تبارك وتعالى في سورة النساء : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدّوا الْأَماناتِ إلى أَهْلِها) (3) ولا تؤدى الأمانات إلى أهلها على وجهها إلا من المتصفين بفضيلة الأمانة حتى يرعوا حقوق الناس حق رعايتها .
أمانة الرسول الأعظم ﷺ :
وقد روي في سبب نـزول هذه الآية أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم حينما فتح مكة دعا عثمان بن طلحة ، وكان بيده مفاتيح الكعبة ، فلما جاء عثمان قال له النبي ﷺ: {أرني المفتاح } يعني مفتاح الكعبة .
فلما مد عثمان يده بالمفتاح ، قال العباس بن عبد المطلب : يا رسول الله ، بأبي أنت و أمي اجمعه لي مع السقاية ، فقبض عثمان يده بالمفتاح خوفاً أن ينـتزع منه .
فقال النبي ﷺ : {هات المفتاح يا عثمان}، فأعطاه قائلاً : هاك أمانة الله .
فقام النبي ﷺ وفتح الكعبة وطهرها ، وطاف بالبيت ثم عاد فرد المفتاح إلى عثمان ، وتلا قول ربه تبارك وتعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدّوا الْأَماناتِ إلى أَهْلِها }(4) … (5) .
ويقول الله تعالى في سورة البقرة : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}(6) ، أي : إن وثق بعضكم ببعض فليحفظ الموثوق به أمانته ، والمؤتمن عليه ها هنا عام يشمل الوديعة وغيرها ، فعلى المؤتمن أن يؤدي الأمانة إلى من ائتمنه ، وليتق الله ربه ولا يتخون من الأمانة شيئاً ؛ لأنه لا حجة على ذلك الشيء ولا شهيد ، فإن الله رب العالمين هو خير الشاهدين ، فهو أولى بأن يتقى ويطاع …
ولقد كان سيدنا محمد ﷺ مثلاً أعلى في فضيلة الأمانة حتى لقبه الناس منذ فتوته بلقب الصادق الأمين ومن الأدلة على ذلك أنهم جعلوه حكماً بينهم عند النـزاع على وضع الحجر الأسود ، وقالوا عندما رأوه هذا هو الأمين لقد رضيناه حكماً بيننا …
ومن هنا كان رسول الله ﷺ يستعيذ من الخيانة وهي ضد الأمانة ويتحدث عنها كأنها سبع كاسر أو شر مستطير ، فيقول لربه : أعوذ بك من الخيانة ، فإنها بئس البطانة (7).
أمانة جبريل عليه السلام :
مما يدل على جلالة ومكانة الأمانة أن القرآن الكريم وصف سفير الرحمن جبريل بأنه أمين ، فقال في سورة الشعراء : { نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الْأَمينُ }(8) ، أي : المؤتمن عن وحي
الله ، لا يزيد فيه ولا ينقص منه . وكذلك قال عن جبريل في سورة التكوير : إ{ِنَّهُ لَقَوْلُ رَسولٍ كَريمٍ . ذي قُوَّةٍ عِنْدَ ذي الْعَرْشِ مَكينٍ . مُطاعٍ ثَمَّ أَمينٍ }(9) .
أمانة نوح عليه السلام :
وأشار القرآن الكريم أكثر من مرة أن رسل الله ( عليهم الصلاة والسلام ) يتصفون بصفة الأمانة ، ففي سورة الشعراء نرى أن نوحاً قد قال لقومه : { إِنّي لَكُمْ رَسولٌ أَمينٌ }(10) ، أي : إني رسول من الله إليكم ، أمين فيما بعثني به ، أبلغكم رسالات ربي و لا أزيد فيها ولا أنقص منها ، ونوح هو أول رسول أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض بعدما عبد الناس الأصنام .
أمانة هود وصالح ولوط وشعيب ( عليهم السلام ) :
وكذلك قال كل من هود وصالح ولوط وشعيب ( عليهم السلام ) : {إِنّي لَكُمْ رَسولٌ أَمينٌ }(11) .
أمانة موسى :
كما نرى في سورة الشعراء وأشار القرآن إلى أمانة موسى عليه السلام منذ شبابه فجاء في سورة القصص على لسان إبنة شعيب : {قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمينُ} (12) وقولها القوي ؛ لأنه كان فيما يروى يحمل الصخرة لا يطيق حملها جمع من الرجال ، وقولها الأمين ؛ لأنه كان ذا أمانة .
أمانة يوسف عليه السلام:
وأشار القرآن إلى أمانة يوسف حيث جاء فيه على لسان العزيز ليوسف : {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكينٌ أَمينٌ } (13) .
أمانة مكة المكرمة :
وقد أقسم القرآن الكريم بمكة في سورة التين فقال : { وَهَذا الْبَلَدِ الْأَمينِ }(14) ، أي: أنه بلد يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه أو أن أهله آمنون .
أمانة المؤمنين :
ووصف الله تبارك وتعالى المؤمنين ، فقال فيما وصفهم به : {والَّذينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعونَ }(15) ، أي : إذا ائتمنوا لم يخونوا الأمانة ، بل أدوها إلى أهلها مهما كانت ، كما أنهم يحفظون أمانتهم في دينهم واعتقادهم وقولهم وعملهم وسلوكهم مع الناس .
الأمانة في السنة المطهرة :
ولقد جاءت السنة النبوية المطهرة من بعد القرآن المجيد ، فعنيت بفضيلة الأمانة ورفعت من شأنها فقال الرسول ﷺ : {الأمانة غنى} (16) ، أي : هي سبب الغنى لأن الإنسان إذا عرفه الناس بالأمانة أقبلوا على معاملته ، وأحبوه فيصير ذلك سبب غناه .
وخاطب الرسول ﷺ كل مسلم فقال له : {أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة في طعمة }(17) .
فانظر كيف جعل فضيلة الأمانة طليعة لتلك الفضائل الأربع ، وطلب النبي ﷺ من كل مسلم بأن يرعى الأمانة ويستمسك بها مع الناس جميعاً ، فقال : { أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك} (18) .
أمانة المجلس :
وأرشدت السنة المطهرة إلى أحوال ومواطن تحتاج إلى أمانة لتصونها وتحصنها ، فقال الحديث : {المجالس بالأمانة }(19) . وفي هذا حث على صيانة ما يجري في المجالس من أحاديث أو أسرار ، فكأن ذلك أمانة عن من سمعه أو رآه .
أمانة الاستشارة :
وجاء الحديث : {المستشار مؤتمن }(20) أي أمين على المشورة أو النصيحة ، فإن كان يعرف وجه الصواب فيما يستشار فيه ، ذكره دون خداع أو تمويه ، وإن كان لا يعرف أحاله على من يعرف واعتذر ، ولو أنه عرف وجه الصواب في النصيحة وأخفاه وذكر سواه كان خائناً والله لا يحب الخائنين ، ويؤكد هذا قول النبي ﷺ: {من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه} (21) .
أمانة الأذان :
وجاء الحديث : { المؤذن مؤتمن} (22) أي يثق به الناس ، ويتخذونه ضابطاً لهم ، وحافظاً عليهم في مواعيد صلاتهم وصيامهم ، فيجب عليه أن يضبط هذه المواعيد والمواقيت .
التحذير من ترك أو تضييع الأمانة :
وتحذر السنة المطهرة المسلم تحذيراً بليغاً رادعاً أن يضيع الأمانة أو يتنكر لها ، فيقول الحديث : { لا إيمان لمن لا أمانة له }(23) ، ولقد مر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على رجل يبيع براً ( قمحاً ) فوضع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يده داخل القمح فوجد بللا . فقال : ما هذا يا صاحب الطعام ؟
فأجابه : أصابته السماء يا رسول الله .
فاستنكر النبي ﷺ تصرفه ، وعابه عليه وقال له : {أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ؟ من غشنا ليس منا }(24) .
وجاء الحديث القائل : { إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة } .
قيل : كيف إضاعتها يا رسول الله ؟ .
قال : {إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة }(25) . وفي هذا تحذير وتخويف من تضيع الأمانة ، وإشعار بأنها حين تضيع تختل الأمور ويفسد العالم .
ولقد صور الرسول ﷺ ضياع الأمانة معولاً من معاول التقويض لهذه الحياة ، وعلامة على قرب قيام الساعة فجعل ضياع الأمانة علامة من علامات القيامة ، فذكر بين أشراطها أن يتخذ الناس الأمانة مغنما ، أي يضيعونها في سبيل شهواتهم وأهوائهم ، فيرى من كانت في يده أمانة خيانتها غنيمة قد حصل عليها . ويقول حديث آخر : { لا تـزال أمتي على الفطرة ما لم يتخذوا الأمانة مغنماً والزكاة مغرماً }(26) . وكيف يبقى على الفطرة من يتنكر لفضيلة الأمانة ، والرسول ﷺ قد جعل الخيانة إحدى صفات المنافق الأثيم ، فقال عنه : {إذا أؤتمن خان} (27) .
أمانة العبد مع الرب :
وهناك كثير من الناس إذا سمعوا كلمة الأمانة تصوروها مقصورة على الوديعة التي تودع عند الناس ، كالنقود والحلي وما شابه ذلك ، مع أن مدلول الأمانة في المفاهيم الإسلامية يشمل ألواناً كثيرة ، فأمانة العبد مع ربه تتحقق بحفظ ما أمر الله بحفظه ، وبأداء واجباته والابتعاد عن منهياته .
أمانة العلم :
وأمانة العلم تتحقق بنشره وتفهيمه للناس .
أمانة الإنسان مع الناس :
وأمانة الإنسان مع الناس تتحقق برد ودائعهم إليهم ، وحفظ حقوقهم وصيانة أعراضهم وحفظ أسرارهم والبعد عن غشهم والاعتداء عليهم .
أمانة الحكام :
وأمانة الحكام مع المحكمين تتحقق بالعدل بينهم ، والحرص على مصالحهم والسهر من أجلهم .
أمانة الإنسان مع نفسه :
وأمانة الإنسان مع نفسه تتحقق باختياره الأصلح له في الدين والدنيا .
أمانة الحياة الزوجية :
وأمانة الحياة الزوجية تتحقق بكتمان أسرارها ، وعدم الحديث عن دخائلها ، والحديث يقول : {إن شر الناس منـزلة عند الله يوم القيامة ، الرجل يفضي إلى امرأته ، وتفضي إليه ثم ينشر سرها }(28) .
الأمانة في التجارة :
والأمانة في التجارة تتحقق بما أشار إليه رسول الله ﷺ حين قال : { إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يطروا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا} (29) .
الأمانة في الكيل والميزان :
والأمانة في الكيل والميزان تتحقق بالضبط والعدل والابتعاد عن الإنقاص أو الزيادة ، وبذلك ينجو الإنسان من تهديد القرآن الشديد حين يقول : {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفينَ . الَّذينَ إِذا اكْتالوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفونَ . وَإِذا كالوهُمْ أو وَزَنوهُمْ يُخْسِرونَ . أَلا يَظُنُّ أولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعوثونَ . لِيَوْمٍ عَظيمٍ . يَوْمَ يَقومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمينَ }(30) .
أمانة الحديث :
وأمانة حديث السر تتحقق بكتمانه وعدم ذكره لغير صاحبه ، والرسول ﷺ يقول : { إذا حدث رجل رجلاً بحديث ثم التفت فهي أمانة }(31) .
ويقول : { إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك }(32) .
حكاية : بين الأمانة والخيانة :
لقد حدث في أثناء غزوة الأحزاب أن غدر يهود بني قريضة بالرسول ﷺ والمسلمين ونقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي وانضموا إلى المشركين في وقت شديد عصيب وشاءت عناية الله قهر حملة الأحزاب ، وتوجه الرسول ﷺ بعدها إلى تأديب الغدرة الفجرة من بني قريضة . وتمكن منهم بعد حصار طال وامتد ، وطلب هؤلاء من الرسول ﷺ أن يبعث لهم بالصحابي أبي لبابة ، وكان حليفاً لهم في الجاهلية ، وكان له بينهم مال وعقار ، فحسبوا أنه سيكون سبب تخفيف عنهم ، ولما وصلهم أبو لبابة أخذوا يسألونه : أيسلمون وينـزلون على حكم النبي ؟ .
فقال لهم : نعم .
ثم بدرت منه بادرة غير مقصودة ، فأشار بيده إلى حلقه إشارة يفهم منها أن مصيرهم هو القتل ، ولعله كان قد عرف ذلك من الرسول أو استنتجه ، وهو قصاص عادل من غير شك . وما كاد أبو لبابه يأتي بهذه الإشارة حتى تنبه إلى نفسه في خوف وجزع ، وأحس وكأنه خان أمانة الله ورسوله ، في هذه الإشارة ؛ لأنه كشف شيئاً كان يجب عليه – ولو في اعتقاده – أن يخفيه فعصره الألم والحزن وقال : ( فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أنى خنت الله ورسوله ) .
وظهر الندم على وجهه ، فقال له بعض اليهود : مالك يا أبا لبابة ؟
فأجاب : لقد خنت الله ورسوله .
وعاد مسرعاً إلى المدينة ، والدمع يسيل من عينيه ، وما زال مسرعاً في مشيته حتى دخل المسجد ، وربط نفسه في أحد أعمدته في سلسلة ثقيلة . وقال : والله لا أذوق طعاماً أو شراباً حتى أموت أو يتوب الله علي مما صنعت . وأخذ على نفسه العهد الوثيق ألا يدخل أرض بني قريظة ما دام حياً ، مع أنه كان له فيها مال وعقار .
وبلغت القصة مسمع رسول الله ﷺ فقال : {أما لو جاءني لاستغفرت له وأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه }(33) . وجاء الوحي من عند الله مؤدباً ومعلماً ، فقال : { يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَخونوا اللَّهَ والرَّسولَ وَتَخونوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمونَ }(34) .
وظل أبو لبابة مربوطاً في المسجد عشرين يوماً لا تفك قيوده إلا لأداء الصلاة ثم يعود إلى القيد من جديد حتى نـزلت مغفرة الله تعالى له على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأقبل جبريل يخبر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بأن الله قد تاب على أبي لبابه بعد هذا الندم ، وبعد هذا التطهير ، وجاء قوله عز من قائل : {وآخَرونَ اعْتَرَفوا بِذُنوبِهِمْ خَلَطوا عَمَلاً صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً عَسى اللَّهُ أَنْ يَتوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ }(35) .
وانتهت البشرى إلى مسامع أبي لبابة ، فطار لها فرحاً وسعد بها كثيراً ، ولكنه ظل في قيده فأبى ذلك ، وقال : والله لا يفكني من قيدي إلا رسول الله ﷺ ، وكأنه يريد بذلك أن يوثق توبته ، وأن يكون فك الرسول ﷺ لقيده تأكيداً لغفران الله له وعفوه عنه ومحيت الهفوة من سجل أبي لبابه ، بفضل الله ورحمته ، وواصل حياته مجاهداً مستقيماً على
الطريق ، وفياً بعهده ، لا يخون ولا يهون »(36) .
____________
الهوامش :
(1) – صحيح البخاري ج: 1 ص: 304 .
(2) – الأحزاب : 72 .
(3) – النساء : 58 .
(4) – النساء : 58 .
(5) – تفسير ابن كثير ج: 1 ص: 517 .
(6) – البقرة : 283 .
(7) – سنن النسائي ج 8 ص 263 برقم 5469 .
(8) – الشعراء : 193 .
(9) – التكوير : 19 – 21 .
(10) – الشعراء : 107 .
(11) – الشعراء : 107 .
(12) – القصص : 26 .
(13) – يوسف : 54 .
(14) – التين : 3 .
(15) – المؤمنون : 8 .
(16) – مسند الشهاب ج: 1 ص: 44 .
(17) – مسند أحمد ج : 2 ص : 177 .
(18) – سنن الترمذي ج : 3 ص : 564 .
(19) – الفردوس بمأثور الخطاب ج : 4 ص : 215 – انظر فهرس الأحاديث .
(20) – المستدرك على الصحيحين ج 4 ص 145 .
(21) – المصدر نفسه ج: 1 ص: 184 .
(22) – مسند أحمد ج: 2 ص: 377 .
(23) – موارد الظمآن ج: 1 ص: 41 .
(24) – المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم ج: 1 ص: 175، للمزيد انظر فهرس الاحاديث .
(25) – صحيح البخاري ج: 1 ص: 33 ، للمزيد انظر فهرس الأحاديث .
(26) – الاستيعاب ج: 4 ص: 1616برقم 2880 ، للمزيد انظر فهرس الأحاديث .
(27) – وورد في جامع التحصيل ج: 1 ص: 306 برقم 938 .
(28) – صحيح مسلم ج: 2 ص: 1060 .
(29) – الترغيب والترهيب ج: 2 ص: 366 .
(30) – المطففين : 1 – 6 .
(31) – سنن الترمذي ج: 4 ص: 341 .
(32) – العلل المتناهية ج: 2 ص: 592 برقم 973 .
(33) – شرح الزرقاني ج: 3 ص: 90 – انظر فهرس الأحاديث .
(34) – الأنفال : 27 .
(35) – التوبة : 102 .
(36) – د . أحمد الشرباصي – موسوعة أخلاق القرآن – ج 2ص 15 – 32 ( بتصرف ) .