الخليفة الأستاذ محمد هادي شهاب الكسنزاني/ماجستير / العقائد الاسلامية
خَشْيَة السَمَوات وَالأَرْضْ
{وَقَالُوا اتخذَ الرحمنُ وَلَدَاً لَقَد جِئتُم شَيئاً إدّاً تَكَادُ السَمَوَات يَتَفَطّرنَ مِنْه وَتنْشَقُ الأرضُ وَتَخِـرُّ الجِبَـالُ هَـدّاً } [سُوْرَةُ مريم : 89-91] .
لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى وذكر خلقه من مريم بلا أب شرع في مقام الإنكار على من زعم أنّ له ولداً تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً فقال :وَقَالُوا اِتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً لَقَـد جِئتُـم أي في قولكم هذا ( شيئاً إدّاً ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك :ـ أي عظيماً .
تكادُ السَمَوات يتفطرنَ مِنهُ وَتَنشَقُ الأرضُ وَتَخِرُّ الجِبالُ هَدّاً أنِ دعوا للرَّحمنِ وَلدَاً
أي يكاد يكون لك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظاماً للرب وإجلالا لأنهنّ مخلوقات ومؤسسات على توحيده وانه لا اله إلا هو . وقال الضحاك : تكاد السموات يتفطرن منه أي يتشقَّقْنَ فرقاً من عظمة الله ، أي من مهابته والخوف من غضبه تعالى .
روي أنَّ رَجُلاً مِنَ أهل الشام فِي مَسجِد مِنى قال : بَلَغَنِي أنَّ اللهَ لَمّا خَلَقَ الأرضَ وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة – أو قال : كان لهم فيها منفعة ولم تزل الأرض والشجر بذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة ، قولهم إتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً فلما تكلَّمُوا بِهَا إقشعرَّت الأرضُ وشَاكَ الشَّجَرُ (1) .
كل هذه الخشية والقشعريرة وخوف الإجلال لله سبحانه وتعالى عن السموات والأرض وهن جمادات فما بالك في العاقل الذي ضيع كل هذا !
خَشْيَةُ الجَبَلْ
يَلْحَظُ الكثيرُ مِنَّا في الوَاقِعِ عَدَمِ التأثُّرِ والخُشُوعِ فِي الصَلوات وَعَدَمِ التَّدَبُّرِ فِي آياتِ الله الَّتِي لَو أُنْزِلَت عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، وكذلك التأثر الوقتي من رؤيتنا للحوادث والوفيات ومن ثم يعود الواحد منا لمعصية الله، ولا شك أن هذا كله راجع إلى قسوة القلب فبسبب الإدمان على الذنوب والمعاصي يحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً ، والله جل وعلا يقول :ـ ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أو أشَدُّ قَسْوَةً وإنَّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإنَّ مِنها لما يشَّقَّق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله وما الله بغافلٍ عَمَّا يَعْمَلُونْ [سُوْرَةُ البَقَرَة : 74 ] فصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه آيات الله ولا تُؤَثِّرُ فِيهِ المواعظ ولا الحوادث .
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذاَ القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْيَةِ الله [ الحشر : 21 ] فالجبلُ مِنْ أقْسَى ما يَكون والحِجَارةُ التي مِنْها تَتَكَوّن الجبال هي مضربُ المَثَلِ في القَسَاوَةِ. وَلو نَزلَ هَذا القرآن على جَبلٍ لرأيت هَذا الجبلَ خاشعاً متصدعاً من خشية الله ( خاشِعاً ) أي ذَليلاً ومِن شِدة خَشيته لله تعالى يكونُ مُتَصدعاً يَتَفَلَطُ وَيَتَفَتق وهو ينزل على قلوبنا – إلا أن يشاء اللهُ – تضمر وَتقْسُو لا تتَفتّح ولا تَتَقبَل . فالذين آمنوا إذا نزلت عليهم الآيات ، زادتهم إيماناً ، والذين في قلوبِهم مرضٌ تزيدهم رِجساً إلى رجسهم ، والعياذ بالله ! ومعنى ذلك أنَّ قلوبهم تتصلب وتقسو اكثر وتزداد رِجْسَاً إلى رِجْسِهَا ، نعوذ بالله سبحانه وتعالى مـن ذلك .
قال النبيُّ صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في أُحُد :ـ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ (2) . وفي هذا دليلٌ عَلَى أَنَّ لِلجَبَلِ إِحْسَاسَاً ، لإنَّهُ يَخْشَع وَيَتَصَدَّعْ (3) . قال الزَمَخْشَري في هذا المثل العظيم : ( الغرضُ مِن هذا كُله تَوبيخُ الإنْسانِ عَلَى قَسوة قلبه وتخشُّعه عِند تِلاوة القرآنِ وَتَدَبُّرِ قَوَارِعِهِ وَزَوَاجِرِهِ ) (4) .
_______________
الهوامش :
(1) تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير / 3: 139 .
(2) رواه البخاري في صحيحه / 3: 1058 ، برقم 2732 باب فضل الخدمة في الغزو .
(3) العقيدة الواسطية ، لابن تيميه / 1: 438 .
(4) الكشاف / 4: 86 .
المصدر : مشاركة من الكاتب