الشيخ عبد الكريم الجيلي
اعلم أيدك الله بروح منه أن الحرف عبارة عن تعينك في العلم الإلهي ولهذا سميت الموجودات باعتبار تعينها في علم الله حروفاً عاليات لأن الحرف أصل الكلمة والصورة العلمية أصل التكوين ومن ثم يشتمل الموجودات العلمية كلمات الله وكل موجود كلمة باعتبار ظهوره وحرفاً باعتبار بطونه فنسبة العلم الإلهي بالموجودات إليها نسبة الكتاب إلى المكتوبات ونسبة الذات الإلهية إلى العلم نسبة الدواة إلى الحرف ولله المثل الأعلى وان شئت قلت نسبة الذات الإلهية إلى الموجودات نسبة البحر إلى الأمواج فكل موجة منفصلة عن الأخرى باعتبار أنها غيرها وهي عين الأخرى باعتبار ان البحر عين الجميع وهي أعني الموجة عين البحر باعتبار تعينها وتسمى باسم مخصوص ونعت خاص مغاير لصفات البحر في الشمول والإحاطة التي هي للبحر دون كل موجة ولا شك أنها أيضا عينها باعتبار الأصالة والحقيقة فهذه الأمواج هي الحروف العاليات التي هي عبارة عن تعين الحق تصور معلوماته في علمه إذ ليس علمه محلاً لغيره فلا يوجد في علمه إلا عينه .
فهذا الاعتبار ليس الوجود إلا عينه وإذا قد علمت ان نسبة الأعيان الثابتة من الأشخاص الموجودة نسبة المعاني من الألفاظ تظهر لك تسمية الأعيان بالحروف العاليات وتسمية الموجودات بالكلمات فحققت ان نسبة إيجاد الحق للموجودات على صور أعيانها الثابتة في علمه كنسبة إظهار الإنسان للكلمة على حسب ما يرده من المعنى الثابت في قلبه .
فالأمر المقتضي للتكلم مثال الشأن الإلهي المقتضي لإيجاد ذلك المخلوق وتخصيص الكلمة لذلك محل المعنى على وضع مخصوص من التفصيل والإجمال أو الصريح أو الكتابة أو غير ذلك من أقسام أنواع الكلام هو مثال إبرازه من أفراد الموجودات على ما هو عليه ذلك الوجود من الصورة والحد والكمال والنقص والظهور والخفاء إلى غير ذلك من أحوال الموجودات وهيأتها وأما الإرادة التي هي للمتكلم من إخراج تلك الكلمة هي مثال الإرادة الإلهية الموجهة لإبراز ذلك العين الثابتة في العلم إلى العالم الكوني وأما إلا هو الخارجة من الفم بالحرف إلى مخارجه فهو مثال القدرة المتعلقة بإيجاد ذلك الموجود وأما ضم الحرف مع الحرف حتى يصير الجملة كلمة فذلك قوله تعالى للشيء المعين في العلم كن فيكون ذلك الشيء بواسطة الإرادة والقدرة فلهذه الاعتبارات سميت الموجودات كلمات الله والكلام صفة المتكلم والصفة ليست عين الذات باعتبار ولا هي غير عين الذات باعتبار ولما كان الحق متجلياً في موجوداته بالذات وما هو إلا لظهور الوحدة المطلقة في الكثرة الاعتبارية جعل الألف الإنساني بارزاً في أعيان بقية الحروف التي هي عبارة عن سائر المخلوقات والعوالم كلها علويها وسفليها كما أن الألف بارزاً في أعيان الحروف الرقمية فما تم حرف إلا والألف عينه باطناً وظاهراً أما من حيث الباطن فإن كل حرف لا بد من وجود الألف في بسائط أو بسائط بسائطه هذا لا يختل أبداً فقرب ذلك الحرف من مقام المرتبة الإلهية بقدر ما يتكرر وجود الألف فيه وفي بسائطه ولا تكرار بل بتعدد تجليات الألف بمعنى حكمه فبهذا الاعتبار نقول ان الباء أشرف من الجيم لأن الألف موجود في بسائطه أي الباء فنقول في تهجيه باء وألف والألف ظاهره فيه أشد من ظهورها في الجيم فإن الألف إنما هو موجود في بسائط بسائط الجيم فنقول فيه جيم وباء وميم والياء من بسائطها الألف وهي من بسائط الجيم فالباء بهذا الاعتبار واسطة الألف والجيم وهكذا اعتبار جميع الحروف . . . وقد تبين لك مما وردناه ان الألف بارز في الحروف من حيث باطنها وسوف أبين ظهور الألف فيها من حيث ظاهراً واعلم ان كل الحروف ألفات فالباء الموجودة ألف مبسوطة والجيم ألف معوج الوسط محني الطرفين والدال ألف محني الطرفين وهكذا اعتبار كل حرف من الحروف فما ثم إلا الألف الظاهر في المراتب بأعيان الحروف فلهذا كان الألف مظهر الأحدية والأحدية عبارة عن تجلي ذاتي تضمحل فيه كل كثرة وجودية كانت كأعيان الممكنات أو حكمية كالأسماء والصفات فلا يبقى فيه ظهور الشيء بوجه من الوجوه بل هي عبارة عن حضرة سقوط الاعتبار في طرفة الذات المطلقة على ما هو عليه بحكم الإطلاق والصرافة في جميع الوجود فالحروف مضمحلة في عين الألف فإذا برز حرف من الحروف بطن الألف فيه كما يقنت الأحدية في كثرة الموجودات فليس إلا ظهور الكثرة ببطون الأحدية أو ظهور الأحدية ببطون الكثرة فكان المحل العمائي عبارة عن ظهور الأحدية وبطون الكثرة وكان المحل الوجودي عبارة عن ظهور الكثرة وبطون الأحدية ولا بد من الدور ليرجع الأمر كأوله فالأول هو عبارة عن الأحدية ولذلك قال المحققون ان الألف للذات أي مظهرها ولما كان الإنسان عين الذات جامعاً لجميع الكمالات وكانت حقيقة الإنسانية حوت تعدي صفات الحق وصفات الخلق على التمام والكمال قلنا لك ان الألف وقد بينا في كتاب قطب العجائب وفلك القرائب كيفية مناسبة الإنسان حقيقة حقيقة من حقائق الوجود حقياً كان أو خلقياً فالإنسان من حيث الجملة هو التجلي الذاتي كما ان الألف من حيث الجملة هو تجلي النقطة لما تقدم ذكره فتجلي الحق في الألف تجلي ذاتي فالإنسان بين سائر الحروف كالذات بالنسبة إلى الصفات فإذا فهمت فاعلم انك الأصل وأنت الكل وفيك الصلف فإياك ان تغفل عن ذلك فما وسع الحق شيء إلا أنت ولا محل الأمانة الإلهية شيء من الموجودات غيرك فقد قال لك ما وسعتني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن وقد قال إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا يعني لما جهل مقدار نفسه ظلماً وانزلها منزلة دون ما هي له عندنا لأن قدره عندنا عظيم إذ هو الذات للصفات والأصل للوجود والألف للحروف .
___________
المصدر :-
الشيخ عبد الكريم الجيلي – مخطوطة حقيقة الحقائق – دار المخطوطات العراقية برقم 35767 – ورقة 35أ – 37ب .