قصي همرور
لعلها من دقائق الحقائق المعرفية التى تقدمها الفكرة الجمهورية، مقولتها أن الوجود كله، موجود في كل جزء منه، أو لنقل كل ذرة منه!.. ولعله من أعجب الوصف للإطلاق، بمعناه الكبير.. فالإطلاق ليس فقط من الصفر إلى العدد “ما لانهاية” في الرياضيات، أو من العدد السالب “ما لانهاية” إلى العدد “ما لانهاية” في الطرف الموجب.. بل إن اللانهائية موجودة حتى بين الواحد والصفر! وأكثر من ذلك فهى موجودة حتى بين الأعداد الكسرية الصغيرة جداً داخل المجال بين الواحد والصفر، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية الأعداد.. هذا أمر يشير إليه المنطق الرياضي للأعداد “الحقيقية” بأنه معلومة محسومة علمياً، بمعنى أن جميع الدلائل تدل عليها، ولا دليل واحد يقول بغيرها..
والأمر دقيق بهذه الصورة في معارف الصوفية أيضاً، وفي الجرم الإنساني بشكل عام، يقول الشاعر الصوفي “وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”.. فالإنسان، رغم أنه يمثل جرماً صغيراً جداً في هذا الكون، ويمثل أيضاً فرداً واحداً في المجتمع البشري الحالي، إلا أن الكون كله منطوي فيه!.. وأكثر من ذلك، فكل ذرة من ذرات الكون هى مشروع إنسان كامل.. بهذا التصور، يمكن أن نقول أن كل ذرة، في كل الوجود، هى مشروع إنسان كامل، وكل إنسان كامل هو جرم ينطوي فيه العالم كله، لأن الوجود كله حي، عند التوحيد، في كل ذرة منه.. هذا هو الفهم الذى يشير إليه القول بأن الوجود كله، موجود في كل ذرة منه..
الإطلاق، بهذه الصورة، هو إطلاق مركب.. أي أنه إطلاق في إطلاق، أو إطلاق داخل إطلاق.. وبهذا فهو إطلاق ممتنع، لا يحاط به “إطلاقا”.. ولهذا سمي “الإطلاق” لكونه ممتنعاً تماماً عن الوصف أو الإدراك (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ).. والمسألة قد تتضح أكثر عند النظرة لموضوع الزمن.. فالزمن، في الفهم التوحيدي، ليس أزماناً، وإنما هو وحدة زمنية واحدة، حيث تدق هذه الوحدة الزمنية حتى تتلاشى، وتخرج عن الزمن!.. تقول الفكرة الجمهورية أن “ما كان، وما سيكون، هو الآن كائن”.. ويقول المصطفى، عن لحظة رؤيته لربه في معراجه العظيم “ليلة عرج بي، انتسخ بصري في بصيرتي، فرأيت الله”.. ويفسر القرآن هذه اللحظة بطريقة لطيفة جداً، إذ يقول إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى , مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى بمعنى أن فكر النبي (بصره) توقف تماماً عن الجولان بين الماضي والمستقبل.. وهو لا يتوقف تماماً إلا إذا كان في نقطة “الصفر” في الرسم البياني، حيث لا حيث، وعند لا عند، حيث يدق الزمن حتى يتلاشى.. يقول الأستاذ محمود في كتابه القرآن الآتي : “وليس صحيحاً (أن الزمن بالمعنى الإلهي طويل جداً)، على إطلاق العبارة.. فإنه أيضاً قصير جداً، لأنه قد جاء من (اللازمن)، ويخرج إلى (اللازمن).. فهو في طرفي المجيء، والذهاب، موصوف بالقصر، وبالطول.. فإنه في قوله تعالى: ]كل يوم هو في شأن[، قصير قصراً يكاد يخرجه عن الزمن.. فالزمن، على كل حال، قيمة نسبية، وهو يختلف باختلاف الأمكنة”..
بهذا الفهم الدقيق الذى تقدمه الفكرة الجمهورية، يصبح الأمر الطبيعي، والمقبول، هو أن الإطلاق لا يكون إطلاقاً إلا إذا كان موجوداً في كل ذرات الوجود، بنفس ما هو موجود في الآفاق التى نراها، سواءاً كان ذلك في المنطق الرياضي أو في غيره.. ولهذا فإن كون الأعداد بين الواحد والصفر، مثلاً، لا نهائية، رغم أنها محدودة بين طرفين، كما يقول المنطق الرياضي، هو أمر يقبله التوحيد، ولكن لا يقبله العقل بسهولة، وذلك لأن العقل غير موحد في الأساس، عند التدقيق، فالعقل لا يعمل إلا في منطقة الثنائيات، وفي منطقة التوحيد لا توجد ثنائية، فيقف العقل خاشعاً، في أدب، مواجهاً بجهله وقصوره.. هذا مع العلم أن العقول نفسها تتفاوت، في دقة فكرها، وقربها من منطقة التوحيد..
والمنطق الرياضي فعلاً منطق عجيب، ويفتح على نفسه أبواباً يعجز عن سبر أغوارها العقل الذى أنتجه.. فالمنطق الرياضي هو وليد العقل البشري، ولكن هذا لا يعني أن العقل البشري متصرف فيه تمام التصرف، بل إن الأمر المعروف اليوم تماماً أن المنطق الرياضي قد أعجز، في كثير من جوانبه، أكبر أهله علماً به.. وذلك، في رأيي، لأن المنطق الرياضي فيه نفحة واضحة من الإطلاق.. وهو يحاكي، في محاولة شديدة، منطق الطبيعة في الكون حولنا.. ولو لم يكن المنطق الرياضي يحاكي، لدرجة كبيرة، منطق الطبيعة، لما قامت لعلوم الفيزياء، ومشتقاتها، قائمة في عالمنا اليوم، ولما كان لها تأثيراً مباشراً وواضحاً في حياتنا اليوم، وفي فهمنا لخصائص الكون من حولنا..
برتنارد راسل، فيلسوف بريطاني، عاش في القرن المنصرم.. هو أحد الفلاسفة الذين قرأ لهم الأستاذ محمود في بدايات بحثه في نتاج الفكر البشري.. وبرتنارد راسل هو فيلسوف تابع لمدرسة المنطق، أو Logicism كما تسمى بالإنجليزية.. هذه المدرسة تزعم أن المنطق الرياضي يحاكي، في دقة، منطق الطبيعة من حولنا، بقوانينها وسيرورتها، وأنه مستمد منها.. أي أن هذه المدرسة تزعم، فيما تزعم، أن إتقان منطق الرياضيات، وفك طلاسمه، يعني تلقائياً إتقان ومعرفة منطق الطبيعة، وفك طلاسمه.. طبعاً أنا لا أؤيد هذه المدرسة، وكذلك لا أعارضها.. والسبب في عدم تأييدي، وعدم معارضتي، هو عدم علمي.. فانا لا أدري إن كان هذا القول فعلاً صحيحاً أم لا، كما أني لا أدري إن كان الصوفية، في جميع الأديان عبر التاريخ، والفكرة الجمهورية، يؤيدون هذا القول أم لا.. بطبيعة الحال فإنه من الواضح أن المنهاج في تحصيل المعرفة يختلف عند أهل التصوف وأهل العلم المادي، حيث أنه يعتمد على تحرير العقل من قيد الجسد عند الصوفية، ولكنه عند العلم المادي يعتمد على العكوف على المعادلات الرياضية، واستنباط القوانين التى تربط هذه المعادلات..
ومن المهم معرفة أن التوحيد يقول بأن “المعلم واحد” لهؤلاء وهؤلاء.. وعليه فإن المعرفة ليست مقصورة على البعض دون الآخرين.. ولكن بالطبع فهناك منهاج أنجع من الآخر، ويكتسب فيه العلم بشكل أكبر وأدق من الآخر..
مثلاً، كان إتجاه أينشتاين في سنواته الأخيرة مركزاً على إيجاد نظرية يستطيع أن يفسر بها عملياً كل شيء.. نعم، كل شيء.. بما في ذلك المشاعر الإنسانية وكل مظاهر الكون.. حلم طموح جداً بطبيعة الحال، ولكنه ليس غريباً على أينشتاين.. وقد كان يعتقد أنه يستطيع إيجاد هذه النظرية إذا استطاع التوفيق بين نظرية الكوانتوم Quantum Theory المتعلقة بالأجرام الدقيقة المكونة لجزيئات المادة، مع نظرياته الشهيرة للطاقة والمتعلقة في معظمها بالأجرام المرئية بالعين المجردة من صغيرها إلى أضخم ما يراه الإنسان من الأجرام السماوية..
مات أينشتاين ولم يقض وطراً يذكر في أمر طموحه ذاك.. ولكن حلمه هذا أصاب الأجيال التى عاصرته بالعدوى، وأصبحوا يتوارثون هذه العدوى إلى يومنا هذا.. وفي الفترة الأخيرة ظهرت تجربة جريئة من بين التجارب الكثيرة التى كانت في هذا الإتجاه، ألا وهى نظرية (الأقواس الفائقة Super String Theory) أو كما يطيب للمتحمسين لها أن يسموها نظرية كل شيء The Theory of Everything، هذه النظرية تأخذ في حسبانها البعد الرابع للكون، وهو البعد الزمني.. بل وتتعداه إلى أبعاد تزعم نظرياً بوجودها، وتحاول نظرية الأقواس الفائقة (أو الأوتار الفائقة في ترجمة أخرى) أن تفسر جميع التنوع الموجود في هذا الكون من أدق ذرات المادة إلى أكبر الأجرام المعروفة بأنها اختلاف مقدار! وهذا الإختلاف، بشكل تبسيطي عام، إختلاف في ذبذبة هذه الأقواس التى تمثل، بتبسيط شديد أيضاً، الوجود كله.. هذه الأقواس تفوق السبعة أقواس (لم أعد متذكراً لعددها) وهم على كل حال لم يجزموا بعد بعدد هذه الأقواس في هذه المرحلة، والنظرية بشكل عام ما زال أمامها الكثير من التجارب لتنهض بشكل واثق أمام العالم.. حتى أن بعض هذه التجارب تعد في عرف اليوم مستحيلة، وذلك لأنها تتعلق بإجراء تجارب على “الجسم السالب” أو “المادة السالبة”Negative Matter ذات الوجود الإفتراضي النظري البحت في علم الفيزياء.. هذه المادة السالبة لها خصائص غير متوفرة حالياً على أرض الواقع، مثل أنها تسقط للأعلى، وليس للأسفل!
ما يهمنا في الإتجاه العام لهذه النظرية ليس هو مدى صحتها أو عدم صحتها، وإنما هو عبقها “التوحيدي” المدهش، الذى مازال يظن البعض أنه من اختصاص الميثولوجيا أو الأسطورة، ولاعلاقة له بأرض الواقع.. ففكرة وحدة الوجود التصوفية أساساً قائمة على أساس الوجود ليس فيه اختلاف نوع، وإنما هو اختلاف مقدار – كما يرد على لسان الفكرة الجمهورية – وهذا الإتجاه التوحيدي قد بدأ يظهر في الأفق عند أهل العلم المادي منذ ظهور نظرية أينشتاين في الطاقة التى تقول أن المادة طاقة في حالة من الإهتزاز بطيئة بشكل يجعلها داخل حيز الرؤية، وأن هذا هو الفرق بينها وبين الطاقة الغير مرئية، مثل الطاقة الكهربائية والطاقة الكهرومغناطيسية.. هذه النظرية بالذات كان الأستاذ محمود من المحتفين بها، وكان يشير بأن الناس اليوم لم يدركوا بعد أهمية هذه النظرية في تطوير الوعي البشري نحو الإدراك التوحيدي..
ولكن هذا الفهم التوحيدي الجديد عند أهل العلم المادي، هو أمر معلوم منذ القدم عند أهل المنهج التصوفي عبر التاريخ.. والذى قاله الأستاذ حول التوحيد هو مستمد من القرآن الذى “يعلمك كل شيء، ولا يعلمك شيئا بعينه” كما عبر عنه.. فمقولة الأستاذ الشهيرة بلولبية الوجود الهرمية تحظى بالمزيد من الإعتبار اليوم من جانب أهل العلم المادي.. وما زالت الأيام حبلى بالجديد من الآفاق التى تجعلنا ندرك عمق الفهم التوحيدي الذى كان الأستاذ محمود أحد أبرز شخصياته عبر التاريخ..
لم يأت الأستاذ محمود بهذا الفهم بالتحصيل الأكاديمي أو القراءة المكثفة والإهتمام المركز بما يهتم به علماء المادة اليوم.. وإنما كان يبحث عن نفسه! كما قال في مكتوبه الشهير سعيد يتسائل الذى كتبه أثناء خلوته الطويلة التى بدأت بعد دخوله فترة السجن التى قضاها في عهد الاستعمار إثر ثورة رفاعة التاريخية، واستمرت بعدها ببضع سنين خارج قضبان السجن.. وما ذكرناه هنا هو نذر يسير مما يمكن أن يقال عن عمق الفهم التوحيدي في الفكرة وتناوله لكل خصائص الوجود من حولنا، المحسوس والغير محسوس عندنا، ولعل من دقيق الإشارة في هذا الأمر أن الأستاذ محمود قد أخبر عن نفسه أنه قد اكتسب هذه الرؤية التوحيدية بسبيل أنه كان يبحث عن نفسه في الأساس، مما يشير إلى أن كل هذا الفهم المتكامل للكون منعكس أساساً في أجرامنا الصغيرة هذه، فإن نحن حاولنا اكتشاف دواخل هذه الأجرام الصغيرة، يمكن أن نكتشف حقائق الوجود.. لهذا قال المعصوم من عرف نفسه فقد عرف ربه وقال شاعر الصوفية “وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”..
ومن هنا يمكن أيضاً أن نفهم جانباً من حديث الأستاذ الدائم عن التوفيق بين المادة والروح، وعن أن الفهم الذى به خلاص الإنسانية إنما هو الفهم الذى يستطيع أن يوفق بين المادة والروح.. ها نحن اليوم نرى أن العلم المادي التجريبي بدأ يقترب من مصاقبة تلك المنطقة التى يمكن أن يتوافق فيها مع العلم الروحي، بفضل الفهم الدقيق الذى يقدمه العلم الروحي اليوم على لسان الأفكار التصوفية الكونية، كالفكرة الجمهورية.
___________
المصدر : موقع اركماني
http://www.arkamani.org/sceince-fundamentalism/contributions/science-and-sophism.htm