خالد زغريت
يتميز النص الشعري الصوفي المعاصر بملكته الإبداعية في بناء بهاء جمالي مختلف بنصاعته الباهرة في القصيدة الحديثة، التي تميل في مجملها إلى هذا السمت من الخطاب الشعري الاختراقي ، وإن التبست هذه التوجيهات في حالات كثيرة بشوائب و رطانات واستهلاك منتهك للشعرية المبتكرة فإن هناك تجارب مجتهدة تسعى إلى الخروج عن سرب المتشابه ، و المرتكس إبداعياً، والصوت الشعري لأحمد الشهاوي من تلك الأصوات الشعرية المتعمّدة في نار الوجد الصوفي الذي يحرق طينه زخرفاً شعرياً، ويشكل ديوانه الجديدة ( قل هي ) امتداداً أفقياً لتجربته الشعرية الصوفية ،وتمكننا قراءتها من الاتصال بالمدارات البلاغية للشعرية الصوفية التي تتجلى من خلال بركانية النص الشعري ، الذي يبنى على لغة بركانية متفجرة بقوة ذخيرتها الباطنية ، يرجع مفهوم بركانية النص إلى الفيلسوف الفرنسي ” جاك دريدا ” الذي أشار إليه في محاضرة ألقاها في جامعة بروفونس بعنوان بين الهاوية والبركان : اللغة : رسالة من شوليمem schol إلى روزنسفايغ rose nzweig هذا النص الذي لا يخمد ولا يسكن ، دائم الهيجان و الثوران ، نص يتكلم بالجرح و النزيف التروما trauma (2) يلتقي المفهوم البركاني للنص في شعر الشهاوي بفضائه المحمول تراثياً على المعنى الفيضي المنتج للتخييل الخارق ، فالنص يتحرك بقوة انفجاره الداخلي الذي يتصل بالماورائية التعبيرية المحققة لنص الروح الخارق ، يحقق الهيجان الدلالي الخارق للغة مستوى أعلى للبركانية التي تفجر المعنى إلى فضاءات تتحرر باطراد لا يحد ، حيث يصبح المعنى الدلالي لشدة إشراقه الاختراق خارج حدود المعنى : راقبي الأرض
وهي تمشي
ففيها سيرتي
وكلامي عن حنين الأرض لي
فيها شموسي
وشرابي من مياه أناملي
راقبي الوقت معي
فأنا أحب للتاريخ أن يجثو
وترتاح الخرائط من يدك
وترسم الجغرافيا
وفق ماءينا وبركان اللغات الطالعة ( ص 54 – 56 )
يفتح النص بركان لغته التي تعلو لتتصل ( ببركنة النص ) حيث تنفجر اللغة التي تشعل بدورها فضاء المعنى بتوترٍ حادٍ يهزّ الوجدان والمخيلة بحلمية بركانية قاسية ، تتمثل في فعل سيلان الجرح لنزيفه الحامل معنى الحياة التي تنزف طاقاتها ، دمها ، باشتعال مضيء بإشعاعية مدمرة لحدود المألوف والمحسوس . فاللغة في النص الصوفي عبر بركانيتها الخالقة لبركانية النص تتجرد من ماهيتها الخطابية ، وتتعرى من جسمانيتها ، لتتحول إلى أنوار تكتفي بوهجها الذي يسرد مساراته ، دون أن يعنى بذرائعيته الإضائية ،أي هو مجرد لذاته وليس مؤدياً وسيلة الإضاءة لما ورائيتها ، هكذا يكسب النص الصوفي لغته خصوصياتها النورانية المجردة :
أنا بين نوريك
صاعد بين حرفيك
خارج من زماني
شارب شمسين من عوالمك ص 113
إذن اللغة مطية ضوئية تسري في فضاء مجانس لماهيتها ، فهي تعبر ولا تعبر ( تدين اللغة في هذا السياق في تكوين حالتها / أفقها التعبيري / باعتبارها سلطة ذات مكونات فنية تتحكم في بنية اللغة ، وعلى هذا تصير موافقة الأسلوب لسياقه الجنسي معياراً جمالياً تتقوم به التشكيلات الفنية المختلفة للغة )3 ومادام النص البركاني الصوفي مستوى أعلى للانفجار فإن اللغة مقيدة بهذه الشرطية ، أي البلاغة الضوئية الانفجارية ، فالمفردة أياً كانت هي نقطة ضوء تشرق أشعتها المتمددة المتنوعة رغم منبعها الواحد ، ولنلاحظ على سبيل المثال الانفجار البركاني للصورة الشعرية المرتكزة على مفردة لغوية :
أذكرهما وهما يحملان سماء بليل
وهما يطويان اللغة في حرف
وهما يذكران لذة
يميلان يحرثان ينشدان يخرسان اللسان
يفتحان غوامض الأكوان وحدهما 29
كتب البحر سيرتنا
أودعته حرفاً توحد في مسيرته
فأشعلنا وأحرق ماؤه لغة تقول ولا تقول ص 39
وحيداً
إلا من لغة
أبني بيوتاً من صحاريك
و أمشي إلى الله ص 34
أودعت أسراري
قلب طير مسّه كفني
فخلاني وطار إلى بلاد
ذائعاً لغتي ص70
تشع مفردة اللغة في الصور السابقة جملة منارات تجسّد مجموعة البيئات الكونية الطبيعية في :
السماء/الأرض مطية الاكتشاف المطلق : لغة نورية اكتشافية اختراقية دائرية . البحر/الماء والنار مطية الخلق : لغة نورانية لذاتها .
الصحراء / البناء والاتصال مطية للإبداع : البناء والاختراق المطلق – الاتصال يعني الدائرية .الطير مطية الأسرار الكونية والانفتاح المطلق . يتمظهر في الأمثلة السابقة البعد البركاني المتوتر في خلق إشعاع انفجار مفردة لغوية ، تفيض صور كونية ، تمتطي فيه مخيلة اختراقية تتصل بمعنى دائري نوراني ، يؤكد المفهوم المجرد للنورانية انسجامه مع قوة انفجار المطلق . واللغة تبني مسارات ضوئية خارقة للمفهوم الحسي في الصورة التقليدية من خلال سلطان النورانية ، المضمر في تكوينها البركاني ، مما يجعلها تتصل بمفهوم فيزيائي ذري ، يتشظى إلى فضاءات إبداعية ، هي ماهية ضوئية للذوات المنفجرة عن ذوات الشاعر عندما تتحول إلى لغة منشطرة باطراد توالدي ، مما يعني ( أن النص هو – في الأساس – تفجير لنواة اللغة قصد تحرير طاقتها فتتوزع وتتشتت في كل الاتجاهات ، وتخترق كل الأبعاد الانطولوجية والانتربولوجية وتختار هذا الهوى ما بين (الماء والنار ، والسماء والأرض ، والبحر والصحراء) – لتعلق دهشتها في الميلاد المباغت للصوت ككتابة فهو هنا (يتشظى يمارس الرنين ليسمعه الآخر ليكون في ماهية الشهقة والألم). إن الشاعر قبل كل شيء يقيم الاتحاد بين لغته وذاته في مستوى اختراقي يعالقهما بالبركانية المشاركة ، فتشتبكان في النص الذي يبدد الفواصل بين الذات اللغوية والذات الإنسانية والذات النصية المشتبكة في اختلاط كلي ، تمنحه التحليق بأجنحة النور إلى غياب يضيء بحضوره :
أرفع رايتي ناراً لأحُرق
وأحيا في ضمير الغياب الذي صرته
أنا جاث أفتح الورد
تدركين الأبجدية تخلقيني حروف أشرقتها يداك
يسألني لسان صار حالي
فأدخله صارخاً سارباًَ في دماك
أنا أول الخلق وآخرهم
أنا العاشق الذي كسرته ثوانيك من فرط
سوء طوالعه أنا فاتح لمداك ص124 – 125
إن اللغة وهي تشرع بركانها الدلالي إنما تتحرك على السطح المتحرك لبركان التجربة الشعورية للشهاوي ، هذه التجربة المفرطة في فيضها الروحي الخارج عن المعقول ، فالفيض في ( جوهره المجرد غير المتحيز يفيض جوهراً مجرداً غير متميز أيضاً وهو النفس ) وهذا يعني أن اللغة هي بركان التجربة الشعورية للنفس، لكنها مقيدة كثيراً بوجودها الفني المزيف والمنقص لحقيقتها في حالات لا تحصى ( فاللغة تعجز عن نقل كل ما في باطن الشاعر حسب (لامارتين ) الذي يقول على لسان رفائيل وهو يكتب رسائل حبه إلى جوليا : املأ هذه الصحائف كل صباح ، ثم أشعر أنها أضيق من أن تسع خواطري الفائضة المضطربة وأعجز من أن تصوّر عواطفي المتشبعة الملتهبة … تشرحه بهذه اللغة الناقصة) يتصل لامارتين بمقولة فاشية اللغة واضطهادها للشاعر في سجنها ، و الشهاوي إنما يأمل من اللغة الصوفية نوال تعبير ذاته لاذاتها هي : كأنني شغلت بك الشعر
سوى الحلم لاشيء أفعل
حتى ضاق بي ص 18 – 19
فالشهاوي يقر بانسجانه في اللغة رغم بركانيتها التي تعني الاطلاق : أنا لست نوحاً
كي أسمي البحر عمراً ضائعاً
ولدي وقت أقصر قامة في قلبه 134
إن الشهاوي وهو يكتب ذاته ببركانية متوهجة في مساحة شعرية (قل هي) إنما يعبر نحو مناطق بركانه الشعري الذاتي إلى أشد مناطق الصورة حساسيةً و بركانية و انفجارية ، حيث تخطو بالشعر نحو خلقها البكر المخترق لصور المألوف امتثالاً للخصوبةٍ المتولدة بقوة في اللغة ، فتمتد إلى اتصال حيوي بالبهاء الخلقي الكلي حيث يخلق ذاته شعرياً ، فيصبح النص بركاناً فاتحاً لماهيات أخرى لهذه الذات التي تعرف بإشراق فيضها الكوني ؛ وتلك ميزة عصية على التأويل المستبد بمنهجه الموضوعي والتواضع المعرفي .
______
هوامش :
أحمد الشهاوي : قل هي . الدار المصرية اللبنانية ، القاهرة – 2000
محمد شوقي الزين : بركانية النص وأتون المعنى – جاك دريدا – مجلة فكر ونقد.. السنة الثالثة ، العدد/ 25 / يناير 2000 –
محمد مشبال : البلاغة ومقول الجنس الأدبي ، مجلة فكر ونقد ص 83 – 84
محمد شوقي الزين : مرجع سابق ، 156
لامارتين رفائيل – ترجمة أحمد حسن الزيات ، ص 211 – 214
سعد الدين كليب :البنية الجمالية في الفكر العربي الإسلامي – وزارة الثقافة ، دمشق 1997 – ص23
______
المصدر : موقع الرأي العام .
http://www.rayaam.net/22005/05/25/art/art5.htm