الشيخ عبد الغني النابلسي
الشريعة المحمدية وغيرها في حق كل أمة كذلك قبل النسخ وهي البيان الإلهي المستفاد من الوسائط الناطقين عنه تعالى إلى المقتضى لامتثال أمره تعالى فعلاً أو تركاً قطعاً أو ظناً أو تخييراً والمخاطب بذلك كل مكلف لانتظام الأحوال وظهور الفرق بين الهدى والضلال وجعلت لك أيها العبد المكلف أي أنت المخاطب بها جميعها إيماناً واستعمالاً حتى تطلبه سبحانه وتعالى بإيمانك وأقوالك وأعمالك فيكون هو مقصودك من ثوابك على ما يصدر منك من طاعته الباطنة والظاهرة وتقطع نظرك عن طلب غيره من ثواب الآخرة والدنيا منه تعالى حتى لا تطلبه من غيره فإن غيره لا يوصلك إليه لأنه عاجز مثلك والعاجز لا يقدر على إيصال نفسه ما لم يوصله هو تعالى إليه فكيف يوصل غيره وقد قال الله تعالى لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنه أفضل الخلق عنده أنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وقال تعالى : ليس لك من الأمر شيء فمن دونه في الفضيلة أولى لأنه لا يهدي من أحب وإن لا يكون له من الأمر شيء وأما قوله لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وانك لتهدي إلى صراط مستقيم فمبني على خطاب الله تعالى له وهو في مقام إمحاق إرادته ومحبته وجميع صفاته في إرادته الحق تعالى ومحبته وجميع صفاته كما قال عنه في هذا المقام من يطع الرسول فقد أطاع الله وأما آية انك لا تهدي من أحببت فقد خاطبه تعالى وهو في مقام الغين الذي قال عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ليغان على قلبي وأني لاستغفر الله في اليوم سبعين مرة وفي رواية مائة مرة ومقام الغين يقتضي الفرق وثبوت النفس بالحق تعالى وغير الله تعالى لا يوصل إليه تعالى ما لم يكن الله هو الموصل وحده سواء كان الغير مرشداً كاملاً من بني آدم أو من غيرهم قال تعالى ومن يضلل الله فلن تجد له ولياً مرشداً وكذلك العبادات والطاعات وإن كانت مقبولة عند الله تعالى لا توصل إليه تعالى لإنها غيره والإيصال منه تعالى وحده لا منها أي لأجل إعطاء نفسك حقها من الفناء والزوال في تجلي العظيم ذي الجلال المتعال ثم بقاؤها به تعالى من غير بقاء لها معه على حدة ولا استقلال فإذا طلبته سبحانه وتعالى كما قال الشيخ رضي الله عنه منه تعالى لا من عباده ولا من عبادتك لك لا لغيرك من نعيم الآخرة أو النجاة من نارها أو نحو ذلك فإن الشريعة حينئذ لا تصير لك لانكشاف الأمور عندك والشريعة إنما هي البيان الإلهي كما ذكر ان لأنها مشتقة من الشرع وهو البيان قال تعالى شرع لكم من الدين أي بيّن وأظهر وتصير جميع أعمالك الصادرة منك جارية عليك جريان باقي إعراضك التي أنت موصوف بها فإن من المعلوم عندك أن البياض أو السمرة التي هي وصفك مقررة عليك حكماً آلهياً وواقعة فيك قهراً عنك لا قدرة لك على امتناعك عنها ولا على اتصافك بها إذا لم تكن متصفاً بها وكذلك أعمالك الخير والشر جميعها من هذا القبيل وإن زعمت في نفسك وأنت في جاهليتك قبل إسلامك أنك قادر على إيجادها فيك وعلى امتناعك منها فإذا دخلت في مقام إسلامك وجدت نفسك لم تبرح من حين خلقها الله تعالى عاجزة عن إيجاد شيء وعن الامتناع عن شيء وإنما كان الوهم والجهل مانعك من إدراك حقيقة الأمر فعند ذلك تسترسل مع أفعال الله تعالى فيك وأحكامه عليك وتشتغل نفسك بإنفاد ما قضاه الله تعالى عليك وقدره فلا تتفرغ لدعوى إيجاد أمر أو الامتناع من أمر وأما جزؤك الاختياري الذي هو كناية عن مجموع قدرتك الحادثة فيك وإرادتك الحادثة فهو أيضا عرض يوجده الله فيك على التجدد والتبدل كبقية الإعراض لا تأثير له في شيء من أعمالك قال تعالى لا يقدرون على شيء مما كسبوا وإنما وجوده فيك يرفع اسم المحبوب ويسميك باسم القادر المريد المختار لأن لك قدرة وإرادة واختيار وإن كانت قدرتك وإرادتك واختيارك لا تأثير لشيء منها مطلقاً فيصير الخير من أعمالك يستبين لك أنه مرضي لله تعالى بطريق الإحساس الروحاني والشر منها أنه غير مرضي لله تعالى إحساساً أيضا روحانياً موافقاً لكتاب الله وسنة رسوله وتصير محفوظاً وإن لم تكن معصوماً فحينئذ أنت قائم بأمر الله تعالى على بصيرة منه والله لا يأمر بالفحشاء ولا المنكر فليس في أفعالك فحشاً ولا منكراً بل جميعها طاعات لله تعالى حتى ترجع إلى نفسك فتقوم بها وتغفل عن قيامك بأمر الله تعالى على بصيرة فتعود إلى فحشائك ومنكرك والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .