الملامية هم رجال الله الذين نالوا من الولاية الدرجات العالية ، وقد سمو بالملامية لان دأبهم في بداياتهم ملامة النفس في كل الأحوال لانها طريقتهم في تأديبها والأعراض عن العجب والرعونة وحتى لا يشاهدوا محاسنهم ، ولا يعجبوا بأنفسهم ، ولا يقعوا في آفة العجب والكبرياء ، وعلم الله صدق نيتهم وقوة عزيمتهم فسلط عليهم الخلق حتى يطلقوا فيهم ألسنة الملامة ، ومكن في نفوسهم النفس اللوامة كي تلومهم على كل ما يصنعونه ، وقد سئل بعضهم : لم استوجبت النفوس منكم الملامة على دوام الأوقات ؟
فقال : لأنها كف من عجب في قالب ظلمة مربوط بشواهد العامة ، ولأنها كف من جهل في قالب الرعونة مربوط بحبال الأطماع .
فدواؤها : الإعراض عنها ، وتأدبها : مخالفتها ، وصيانتها : ملامتها .
وقد أظهروا للخلق ما يليق بهم من أنواع المعاملات والأخلاق ، وما هو نتائج الطباع ، وصانوا ما للحق عندهم من ودائعه المكنونة أن يجعلوا لأحد إليها نظراً أو للخلق إليها سبيلاً ، أو يكرموا عليها أو يعظموا بها ، ومع ذلك غاروا على جميع أخلاقهم ومحاسن أفعالهم ، فخافوا أن يظهروها ، وعلموا ما للنفس فيها من المراد ، فأظهروا للخلق ما يسقطهم عن أعينهم ، وما يكون فيه تذليلهم وردهم ، وما لا قبول لهم معها ليخلص لهم ظاهرهم وباطنهم . وقد كان لأئمة الصوفية فيهم أقوال تكشف عن علو أحوالهم ومقاماتهم وتميط اللثام عن درجات قربهم من الله وإظهار ما حاولوا إخفاؤه وستره عن الخلق ، فيقول الشيخ أبو حفص الحداد النيسابوري :
« الملامتية : هم قوم قاموا مع الله تعالى على حفظ أوقاتهم ومراعاة أسرارهم ، فلاموا أنفسهم على جميع ما أظهروا من أنواع القرب والعبادات ، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه ، وكتموا عنهم محاسنهم ، فلامهم الخلق على ظواهرهم ، ولاموا أنفسهم على ما يعرفونه من بواطنهم ، فأكرمهم الله بكشف الأسرار ، والاطلاع على أنواع الغيوب ، وتصحيح الفراسة في الخلق ، وإظهار الكرامات عليهم ، فأخفوا ما كان من الله تعالى إليهم بإظهار ما كان منهم في بدء الأمر من ملامة النفس ومخالفتها ، والإظهار للخلق ما يوحشهم ليتنافى الخلق عنهم ويسلم لهم حالهم مع الله . وهذا طريق أهل الملامة »(1) .
ويقول الشيخ عبد الله بن منازل:
« الملامة : هم قوم لم يكن لهم في الظاهر آيات للخلق ، ولا لهم في باطنهم دعوى مع الله تعالى ، وسرهم الذي بينهم وبين الله لا تطلع عليه أفئدتهم ولا قلوبهم »(2) .
اما الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي فيقول :« الملامتية : هم الذين زين الله تعالى بواطنهم بأنواع الكرامات من القربة والزلفة والاتصال ، وتحققوا في سر السر في معاني الجمع ، بحيث لم يكن للافتراق عليهم سبيل بحال من الأحوال . فلما تحققوا في الرتب السنية من الجمع والقربة والأنس والوصلة ، غار الحق عليهم أن يجعلهم مكشوفين للخلق ، فأظهر للخلق منهم ظواهرهم التي هي في معنى الافتراق من علوم الظواهر ، والاشتغال بأحكام الشرع وأنواع الأدب ، وملازمة المعاملات ، فيسلم لهم حالهم مع الحق في جمع الجمع والقربة ، وهذا من أسنى الأحوال ألا يؤثر الباطن على الظاهر »(3) .
اما عند الشيخ ابن عربي الشيخ الأكبر ابن عربي فهم الصنف الثالث من رجال الله فوق صنف الصوفية ، لا يتميزون عن المؤمنين بشيء زائد من عمل مفروض أو سنة ، انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم مع الله طرفة عين ، ولا يعرفون للرياسة طعماً لاستيلاء الربوبية على قلوبهم وذلتهم تحتها ، يفتقرون إلى كل شيء ، لأن كل شيء عندهم هو مسمى الله ، ولا يفتقر إليهم في شيء ، وأبقوا لأنفسهم ظاهراً وباطناً الاسم الذي سماهم الله به وهو الفقير ، مكانتهم في الدنيا مجهولة العين (4) .
صفات الملامتية
المتتبع لاحوالهم وصفاتهم يجد عندهم الفخر والعار والمدح والذم سواء ، ورد الناس وعداوتهم لهم او محبة الناس وقبولهم لهم لايزيدهم ولا ينقصهم ، ولا يسمنهم ولا يضعفهم و كل هذه الأضداد من لون واحد .
ويقول الشيخ حمدون القصار : « الملامتي لا يكون له من باطنه دعوى ، ولا من ظاهره تصنع ولا مراءاة ، وسره الذي بينه وبين الله لا يطلع عليه صدره ، فكيف الخلق ؟ ! »(5) .
« سئل بعضهم ما صفة أهل الملامة ؟
فقال : دوام التهمة ، فإن فيها دوام المحاذرة ، ومن قويت محاذرته سهل عليه رد الشبهـات وتـرك السيئـات » (6) .
ومن احوالهم التخفي عن اعين الناس أخفاهم الله إجلالاً لهم كما يصفهم الشيخ الأكبر ابن عربي فيقول :
« وهم رجال الله الذين اقتطعهم إليه وصانهم وحبسهم في خيام صون الغيرة الإلهية في زوايا الكون أن تمتد إليهم عين فتشغلهم … فحبس ظواهرهم في خيام العادات والعبادات من الأعمال الظاهرة والمثابرة على الفرائض منها والنوافل ، فلا يعرفون بخرق عادة ، فلا يعظمون ، ولا يشار إليهم بالصلاح الذي في عرف العامة مع كونهم لا يكون منهم فساد ، فهم الأخفياء الأبرياء الأمناء في العالـم ، الغامضون فـي النـاس »(7) .
ومن احوالهم ان لا يدركوا للرياضة طعما لاستيلاء الربوبية على قلوبهم تحققاً وعلماً وهم على صلاتهم على أداء الفرائض في الجماعات ، والدخول مع الناس في كل بلد بزي ذلك البلد ، ولا يوطن مكاناً في المسجد ، وتختلف أماكنه في المسجد الذي تقام فيه الجمعة حتى تضيع عينه في غمار الناس ، وإذا كلم الناس فيكلمهم ويرى الحق رقيـباً عليه في كلامه ، وإذا سمع كلام الناس سمع كذلك ، ويقلل من مجالسة الناس إلا من جيرانه حتى لا يشعر به ، ويقضي حاجة الصغير والأرملة ، ويلاعب أولاده وأهله بما يرضي الله تعالى ، ويمزح ولا يقول إلا حقاً ، وإن عرف في موضع انتقل إلى غيره ، فان لم يتمكن له الانتقال استقضى من يعرفه وألح عليهم في حوائج الناس حتى يرغبوا عنه …
ثم أن هذه الطائفة إنما نالوا هذه المرتبة عند الله ، لأنهم صانوا قلوبهم أن يدخلها غير الله أو تتعلق بكون من الأكوان سوى الله ، فليس لهم جلوس إلا مع الله ، ولا حديث إلا مع الله ، فهم بالله قائمون ، وفي الله ناظرون ، وإلى الله راحلون ومنقلبون ، وعن الله ناطقون ، ومن الله آخذون ، وعلى الله متوكلون ، وعند الله قاطنون ، فما لهم معروف سواه ، ولا مشهود إلا إياه ، صانوا نفوسهم عن نفوسهم فلا تعرفهم نفوسهم ، فهم في غيابات الغيب محجوبون ، هم ضنائن الحق المستخلصون ، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق مشي ستر وأكل حجاب فهذه حالة هذه الطائفة »(8) .
طريقتهم في التربية
ارتكزت مناهج التربية عند الملامية على أسس كثيرة ولكل شيخ له طريقة في تطبيق هذه الاسس فيقول الشيخ حمدون القصار :
« طريق الملامة : هو ترك التزين للخلق بكل حال ، وترك طلب رضاهم في نوع من الأخلاق والأفعال ، وألا يأخذك فيما لله عليك لومة لائم بحال »(9) .
اما الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي
يقول : « طريق الملامة : هو ترك الشهوة فيما يقع فيه التمييز من الخلق في اللباس والمشي والجلوس والسكون معهم على ظاهر الأحكام ، والتفرد عنهم بحسن المراقبة ، ولا يخالف ظاهره ظاهرهم بحيث يتميز منهم ، ولا يوافق باطنه باطنهم ، فيساعدهم على ما هم عليه من العادات والطبائع ، ولا يخالف ظاهرهم بحيث يتميز »(10) .
ومما تقدم نخلص ان الملامية او الملامتية هم صنف من رجال الطريقة وصلوا الى ما وصلوا اليه من الدرجات العلى والمقامات الرفيعة بسلوكهم منهج فروا به من آفات النفس والشهوات الى خالق الكون والبريات وكان لهذا المنهج التربوي أصول مباديء استمدوها من علوم الحضرة المحمدية ومعارفها من خلال فهمهم لقوله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم {من عرف نفسه فقد عرف ربه }(11)فخبروا نفوسهم وفتقوا أسرارها وأغلقوا عليها أبوابها وسدوا عليها مراحاتها فأنتج ذلك علوم ربانية ومعارف يقينية ، علموا قيمة ما كسبوا فحاولوا الاحتفاظ بهذا الكنز الرباني بعيدا عن أعين الناس ، فصانهم الله وجعلهم من ضنائنه وخاصته واسدل عليهم ستر الخفاء وآثرهم الله كما آثروه لهذا فهم الأخفياء الأبرياء الأمناء في العالم
____________
الهوامش :
[1] – د . أبو العلا عفيفي – الملامتية والصوفية وأهل الفتوة – ص 89 .
[2] – د . أبو العلا عفيفي – الملامتية والصوفية وأهل الفتوة – ص 90 .
[3] – د . أبو العلا عفيفي – الملامتية والصوفية وأهل الفتوة – ص 86 – 87 .
[4] – الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 3 ص 34 – 35 ( بتصرف ) .
[5] – د . أبو العلا عفيفي – الملامتية والصوفية وأهل الفتوة – ص 119 .
[6] – د . أبو العلا عفيفي – الملامتية والصوفية وأهل الفتوة – ص 100 .
[7] – الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج1 ص 181 .
[8] – الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج1 ص 181 – 182 .
[9] – د . أبو العلا عفيفي – الملامتية والصوفية وأهل الفتوة – ص 90 .
[10] – د . أبو العلا عفيفي – الملامتية والصوفية وأهل الفتوة – ص 103 .
[11] – فيض القدير ج: 5 ص: 50 .
المصدر : موسوعة الكسنزان فيما إصطلح عليها أهل التصوف والعرفان .