أ.د. الشيخ نهرو الشيخ محمد الكسنزان الحسيني
مؤسس المركز العلمي للتصوف والدراسات الروحية
بداية الرؤى والأحلام (1) كانت مع الإنسان البدائي صاحب التفكير الساذج البسيط ، والذي حيره ان يرى في منامه أشياء ليست قريبة منه أو موجودة عنده . والطريف ان ذلك التفكير البسيط وربما الفطري حمله إلى الاعتقاد بأن ذلك يحصل عنده بسبب تدخل الآلهة أو الشياطين ، ففي نظره ان هؤلاء وحدهم قادرين على فعل الأعاجيب . وهذا التفكير بالطبع هو قريب جداً من النصوص الدينية التي ذكرت في أبواب الرؤى والأحلام عند المسلمين .
وكانت النتيجة ان خلص الإنسان البدائي إلى الاعتقاد بالوظيفة الكبرى للأحلام ودورها في كشف حجاب الغيب (2).
ومن نتائج هذا الاعتقاد ان الإنسان البدائي لم يعد يفرق بين الأفعال الواقعية والأفعال المنامية ، فقد تجد رجلان من البدائيين يتخاصمان خصاماً عنيفاً من جراء حلم رآه أحدهما، والناس يعتبرون ذلك أمراً طبيعياً لا داعي للعجب منه . وكان عرف بعض القبائل البدائية يجيز للرجل أن يتزوج الفتاة إذا رآها في النوم تحته (3) .
ولما دخل الشعوب القديمة مرحلة التمدن البدائي ، كان تقديس الأحلام باعتبارها مصدراً للإلهام احد المكونات العقائدية والفكرية لتلك المجتمعات ، حتى ان البابليين كان لهم إله خاص بالأحلام اسمه ( ماخر ) وكذلك للمصريين القدماء واسم إله أحلامهم ( بس ) وقد نقشت صورته على الوسائد التي ينام عليها المصريون استجلاباً للحلم السعيد(4) .
وقد أكد ذلك كله القرآن الكريم ، حيث أشار إلى ما أولاه المصريون القدماء للحلم ولتأويل الرؤيا من اهتمام لدرجة ان تعبير رؤيا واحدة أوصلت النبي يوسف عليه السلام إلى مركز عزيز مصر .
ولم يختلف الإغريق القدماء عن البابليين والمصريين في شيء من هذه الناحية ، حتى انهم كانوا ينامون في معابد خاصة أعدت لتلقي أنباء الغيب عن طريق الأحلام .
وفي اليونان ، كانت محكمة أثينا العليا تأخذ بما تقرره الرؤيا في إدانة المتهمين أو تبرئتهم .
وكذلك الحال في روما ، والغريب ان مجلس أعيان الرومان كان يأخذ بالرؤيا في أمور الدولة حتى ولو كانت من احد العامة (5) .
ويذكر ان أول كتب ألفت في دراسة الأحلام كانت لشخص اسمه ( ارطميدورس ) وقد كتب خمسة كتب ترجمت إلى اللغة العربية في العهد العباسي .
ومجمل النتائج التي توصل لها ( ارطميدورس ) ان الأحلام ترجع إلى تدخل الآلهة وهي نوعين :
الأول : هو الصريح الذي ينبئ عن الغيب مباشرة .
والثاني : الرمزي المقنع الذي يحتاج إلى تفسير .
وقد وضع المؤلف القواعد لتفسير النوع الثاني ، وقال بان الرموز في الأحلام تستمد جذورها من شخصية الحالم ومن مركزه وظروفه وعادات مجتمعه ، ولهذا على المفسر ان يفهم هذه الأمور فهماً تاماً لكي يكون قادراً على معرفة ما ترمز إليه الأحلام من أنباء الغيب(6) .
والقارئ لكتبه يجد شبهاً غريباً بينها وبين الكتب المنتشرة بين المسلمين في تفسير الأحلام .
إلى هنا تكون النـزعة الدينية او اللاهوتية هي الطاغية على الأحلام من حيث الفهم والتعامل . وقد بدأت مرحلة جديدة لعلم الأحلام عند الفيلسوف أرسطو الذي نحا بهذا العلم منحى مغايراً تماماً ، حيث ذهب إلى ان معظم الأحلام تنشأ من مؤثرات حسية لا علاقة لها بالآلهة ، فكثيراً ما يخالج الإنسان اللذة او الألم في اليقظة وهو لا يشعر به أو ينساه حتى إذا نام ظهر ذلك واضحاً في أحلامه ، وفطن أرسطو إلى أهمية العواطف والرغبات والأمزجة في تشكيل الأحلام ، فالمحب يرى في منامه ما يلائم نزعات هواه ، وكذلك الخائف .
ويتجلى المنحى الموضوعي لفكر أرسطو في تعرضه للرؤيا الصادقة ، فذهب إلى ان تحققها لا يدل على صحة تنبؤها بالغيب أو إلى صلتها بالروح أو الآلهة ، وإنما يرجع إلى أربعة عوامل : المصادفة ، الإيحاء ، الإحساس المضخم ، والاهتمام الخاص (7) .
ثم جاء التيار الثالث وهم الرواقية (8) الذين ذهبوا إلى الدفاع عن الرؤيا الصادقة ، وان تحققها مقرون بتطهير النفس البشرية ، فالنفس عندهم في حال اليقظة تكون فريسة الشهوات البدنية ، وهي بالنوم تتحرر من هذه الشهوات وبذلك تستطيع التنبؤ واستشفاف الغيب (9) .
ومما تقدم نستطيع ان نلخص الآراء التي قيلت في الأحلام قبل ظهور الإسلام برأيين :
الآراء الاعتقادية : وهي التي تُرجع الأحلام إلى الآلهة والشياطين .
الآراء العقلية : وهي التي تعلل الأحلام تعليلاً عقلياً لا أثر للقوى الغيبية فيه .
ويبدو ان هذه التوجهات استمرت حتى بعد الإسلام ، مع الفارق ، ولكن ما يلفت النظر ان النزعة التي سيطرت على المسلمين في عهودهم المتأخرة هي النزعة الصوفية التي تعترف بقصور العقل عن إدراك العلوم التي تتعلق بالماوراء ، ويبدو ان لصوفية المسلمين بالغ الأثر في هذا التوجه (10) .
الأحلام بعد ظهور الإسلام
يمكن ان ينظر إلى الرؤى والأحلام عند المسلمين من خلال أربع محاور:
أولاً : محور عوام المسلمين
تعد الأمة الإسلامية من أكثر الأمم اهتماماً بالأحلام ، وذلك لما أشتمل عليه مصدري التشريع (القرآن الكريم والسنة المطهرة) من نصوص واضحة عنها ، وعلى رأس تلك النصوص نزول سورة قرآنية كاملة هي سورة يوسف علييه السلام وقصته التي كانت الرؤيا هي المحور التي دارت حولها الأحداث في آياتها ، حيث كانت البداية من رؤية الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر وما ترتب عليها من ردة فعل أخوة نبي الله يوسف عليه السلام معه ، ورؤيا السجينين وما كان من تعبيرهما وتحققهما بالفعل وما نتج عن ذلك التحقيق ، وارتباط ذلك مع رؤيا الفرعون وسبب خلاص نبي الله يوسف عليه السلام من السجن بسبب تعبيرها ، بل وتكريمه ورفعه إلى المرتبة التي أدت إلى تحقيق الرؤيا الأولى التي رآها في صغره ، حيث صار عزيزاً لمصر ، ورفع أخوته وأبويه على العرش وخروا له سجدا.
ثم قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام وكيف فداه الله تعالى بكبش عظيم لأن أباه إبراهيم الخليل عليه السلام قد عمل تصديقاً لرؤياه .
وهناك الرؤى التي خص الله تعالى بها حضرة الرسول الأعظم ﷺ وأشار إليها في قوله جل اسمه : (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ )[(11) ، وفي قوله : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)(12) .
وأما في السنة المطهرة ، فالأحاديث في الرؤى والأحلام عديدة ، وكلها تشير إلى ان الرؤيا وحي صادق من الله تعالى ، ومن أشهر الأحاديث في ذلك هو قوله ﷺ : (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة )(13) .
وجاء في حديث آخر ان الصحابة الكرامرضوان الله عليهم كان قد شق عليهم ان يخبرهم حضرة النبي ﷺ بانقطاع النبوة بعده ، فطمأنهم ﷺ قائلاً : ( بقيت من بعدي المبشرات )(14) ولما سئل النبي ﷺ عن هذه المبشرات ما هي ؟
قال : (هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له)(15) .
ومما روي أيضاً ان حضرة الرسول ﷺ كان في بعض الأحيان يسأل الصحابة عن رؤاهم ليؤولها لهم بما يراه مناسباً .
وهناك العديد من الأحاديث الدالة على الاهتمام بأمر الرؤى والأحلام ، حتى تولد عند البعض اعتقاد بأن الرؤيا والنبوة ينبعان من منبع واحد ، وزاد آخرين ان الذي يكفر بالرؤيا يكفر بالنبوة(16) وذلك لأن النبي ﷺ نفسه كان قد تلقى الوحي في أول مرة عن طريق الرؤيا الصادقة التي كانت تأتي كفلق الصبح ، كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها (17).
ثانياً : محور فلاسفة المسلمين
وهكذا سار جميع أطياف المسلمين على هذا الاعتقاد مع تفاوت في طريقة الفهم والتعامل مع الرؤيا ، فحتى فلاسفة المسلمين والذين تابعوا أرسطو في كثير من آراءه ، خالفوه في موضوع الأحلام ، فلم يأخذوا برأيه فيه ، والرأي عندهم ان النفس تتصل أثناء النوم بالعقل الفعال المسيطر على حركة الأفلاك بما فيها ، وتستشف الغيب عن طريقه .
ثالثاً : محور متكلمي المسلمين
ولم يشذ عن هذا النمط من الاعتقاد بالأحلام من بين المسلمين سوى فرقة المعتزلة المقدسة للعقل ، وذلك لاعتقادهم بان الله تعالى لا يخرج البتة في أوامره ونواهيه عن جادة العقل السليم ، فما لا يمكن للعقل إدراكه لا يمكن ان يأمر الله تعالى به ، ولما كان الإدراك العقلي والنوم عندهم ضدان لا يجتمعان ، فليس في نظرهم للنوم وما يجري فيه أي قيمة أو اعتبار ، وهذا دفعهم إلى تأويل الآيات والاستهزاء بالأحاديث الدالة على الرؤى والأحلام كما يشتهون (18) .
رابعاً : محور صوفية المسلمين
وبخلاف آراء المعتزلة جاءت آراء الصوفية الذين ذهب بعضهم إلى القول بأن العقل مراتب او درجات ، وله في كل مرتبة ( النوم واليقظة ) دور وإمكانية على التفاعل والتعامل .
ففي عالم اليقظة يكون العقل محصور بحدود المدارك الحسية ، وله علاقة بالمشاعر والأحاسيس النفسية . وأما في عالم النوم فهذا العقل ينطلق من عقال المدارك المحدودة ليستعرض قوى خفية أو إمكانات كانت باطنة في عالم اليقظة ، وفي تلك الحالة يسميه البعض بـ( العقل الباطن ) أو ( اللا شعور ) أو ( اللاوعي ) أو ما شابه ، بينما يسميه الصوفية ( الروح ) ، وهذا الروح له ارتباط بملكة تتعامل مع المشاعر والأحاسيس الباطنية تسمى ( القلب ) مقابل (النفس) التي تتعامل مع الظاهر .
بمعنى انه الفرق بين العقل والقلب والنفس والروح فرق مرتبي وليس نوعي ، فالإنسان يستطيع ان يتعامل مع العالم المحدود بالعقل والنفس ، وهذه الملكات نفسها تستطيع التعامل مع العوالم المطلقة حيث تنفتح قواها الباطنة أو الحقيقية أو الكاملة ووقتها تسمى الروح والقلب (19) .
فإذا نظرت إلى عالم اليقظة بالعقل والنفس قلت بأن عالم النوم أشياء وهمية غير واقعية ، واذا نظرت إلى عالم النوم بالروح والقلب . قلت بأن عالم النوم هو عالم الحقيقة أو الأقرب له ، بينما اليقظة حجاب على ذلك العالم .
والمشكلة تحدث إذا حصل خلط بين هذه القوى والعوالم المتعلقة بها ، فمن نظر إلى عالم النوم بواسطة العقل كما فعل المعتزلة رأى إن ذلك العالم مجرد أوهام لا أصل لها ولا فصل. وبالعكس فإن الناظر إلى عالم اليقظة بمنظار القلب يراه حجاباً كثيفاً على عالم الحقيقة (20) ، فاليقظة هي النوم ] الناس نيام [ والنوم ( الموت الأصغر ) هو اليقظة ( فإذا ماتوا انتبهوا ) (21) .
ومعنى هذا انه لا تناقض او تعارض بين العقل والروح أو بين النفس والقلب ، فالكل واحد من حيث الأصل ، ولكن لهذه القوى القدرة على التكيف مع العالم الذي تواجهه، فدورها في عالم اليقظة يختلف عن دورها في عالم النوم . وكذلك دورها في الحالة الاعتيادية يختلف عن دورها في حالات الحضور والكشف الصوفي .
الهوامش :
[1] – الرؤيا والحُلْم في اللغة والاصطلاح : عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء ، ولكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن ، وغلب الحلم على ما يراه من الشر والشيء القبيح ، وما اختلط منها والتبس فهو أضغاث أحلام . (ابن منظور – لسان العرب – مادة حلم – ج12 ص 145) .
[2] – Freud Bascic Wirtings.P184
[3] – أبو مدين الشافعي – الوهم – ص 34 .
[4] – الأحلام – توفيق الطويل – ص 112 .
[5] – المصدر السابق – ص 114 – 115 .
[6]- Freud Bascic Wirtings.P82
[7] – الأحلام – توفيق الطويل – ص 69.
[8] – الرواقية : وهم أتباع زينون الفليسوف اليوناني لانه كان يعلمهم بالرواق ، وهو مذهب فلسفي اشتهر بآرائه الأخلاقية ( المعجم العربي الأساس – المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون – لاروس ، 1989 – ص 562 ) .
[9] – التنبؤ بالغيب – توفيق الطويل – ص 169 .
[10] – د. علي الوردي – الأحلام بين العلم والعقيدة – ص 36 .
[11] – الفتح : 27.
[12] – الإسراء : 60 .
[13] – أخرجه البخاري عن أبي هريرة في صحيحه – كتاب التعبير – رقم الحديث (6473) .
[14] – المصدر نفسه – حديث رقم (6475) .
[15] – مسند أحمد – ج 46 ص 177– حديث ( 21631 ) .
[16] – د. علي الوردي – الأحلام بين العلم والعقيدة – ص 36 .
[17] – أخرجه البخاري عن عائشة أم المؤمنين – كتاب بدء الوحي – حديث رقم (3) .
[18] – توفيق الطويل – التنبؤ بالغيب – ص 80 .
[19] – الإمام الغزالي – إحياء علوم الدين – ج2 ص 415 .
[20] – الإمام الغزالي – كيمياء السعادة – ص 14 .
[21] – فيض القدير – ج 5 ص 72 – حديث 6433 .
المصدر : من كتاب الرؤى والاحلام في المنظور الصوفي – أ.د. الشيخ نهرو الشيخ ومحمد الكسنتزان الحسيني .