المريد مشتق من الإرادة , وهي لوعة في القلب يطلقونها ويريدون بها إرادة المتمني , وهي منه , وإرادة الطبع , ومتعلقها الحظ النفساني , وإرادة الحق , ومتعلقها الإخلاص . وهذه هي التي اشتق للمريد منها اسمه عندهم , لأنه المجرد عن إرادته لما أراد الله منه وهو العبادة , قال تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات : 56 ) . ويطلق عندهم على شخصين , واحد من سلك الطريق بمكابدة ومشاق , ولم تصرفه تلك المشاق عن طريقه , والأخر من تنفذ إرادته في الأشياء , وهذا هو المتحقق بالإرادة . هذا تعريف الشيخ العلامة ماء العينين بن الشيخ سيدي محمد فاضل صاحب كتاب ( البدايات وتوصيف النهايات ) .
إن أول ما يجب على المريد بعد انتباهه من غفلته أن يعمد إلى شيخ ينصحه ومرشد يهذبه ويبصره بعيوب نفسه ودواعي حسه , ومن لم يكن له شيخ يقوده إلى طريق الهدى , فأن الشيطان يقوده لا محالة إلى الردى .
والمبتدئ ربما يكون غير مستقر على حال في الاختيار , وفي هذا الحال لا يستغني عن الشيخ الذي يجعله في البدء غير مستقل بالاختيار حسب الشروط المتعلقة بالعبادة وطبق تعاليم الشيخ التي آخذها بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو الداعي إلى الله عز وجل . وما الشيخ إلا نائب عنه . ولو فرضنا أن للمريد اختيار نحو الولاية , فأنه ليس في وسعه الثبات , إذ اختياره لطريق يعرضه لهزات فيجعله بعد وقت يعدل عن الأولى نحو الثانية , والثانية نحو الثالثة , فيزين له الشيطان هذه عن تلك , فيبقى في دوامة النفس وحبل الشيطان , حتى تسكن حرارته ويتقهقر نحو الولاء . بينما لو كان تحت كنف الشيخ حفظ أحواله بقوة ولايته المشتقة من نور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم , فحينذاك لم يبق سلطان النفس وكيد الشيطان .
والمريد ينبغي له أن يسلم نفسه لخدمة شيخه , صدوقا في صحبته , غير مفارق له , صبورا على أمره ونهيه , مجالسا له وقت الملالة والكلالة , بل في كل وقت وحين حتى لو فتحت له غوامض الأسرار والكرامات , فلربما قد يحصل له إعجاب بذلك وغرور باعتقاد الكمال , فيتصدى له الشيخ بانتشاله وإنقاذه من بعض التألبات الروحانية التي تلتبس بالتجليات الروحانية , فيظن المريد أنه قد وصل القصد , وفي هذا الحال لا يميز ذلك إلا الشيخ الواصل .
لذلك يجب على المريد أن يعتصم بشيخه ويتمسك به تمسك الأعمى . بحيث يفوض أمره إليه مقتديا بالحديث الشريف : أصحابي كالنجوم , بأيهم اقتديتم اهتديتم فلا ينازعه في أمر , يصحبه باحترام وتعظيم , يبين له كل ما يراه من حال وخواطر , غير معترض , جاعلا نصب عينيه أن الخير في الانقياد , وأن الشر في الانتقاد , والمريد بطاعته هاته يقتبس من الشيخ كما يقتبس السراج من السراج , فالشيخ يقوم بتلقيح باطن المريد , فينتقل الحال منه إليه , ويحصل بينهما امتزاج وتأليف إلى أن يرتقي إلى ترك الاختيار معه إلى الاختيار مع كله . ومن هلاك المريد اختباره لشيخه , فالشيخ لا يختبر , وإنما يعالج الأمراض النفسية ويجد لها الدواء المناسب , فعلى المريد أن لا يفارقه قبل انفطامه وإلا نال العلل الموجبة لرجوعه إلى أكدار الدنيا , إن تصاريف الشيخ للمريد محمولة على السداد والصلاح , فلا نقاش ولا اعتراض , مثل ذلك مثل الخضر مع موسى عليهما السلام , ولعل المريد يصل إلى مقام أعلى من شيخه فأن ذلك يلزمه المهابة والتعظيم والاحترام الزائد والفائق نحوه , وأن يحترمه في أوقات ضرورياته , ولا يتتبعه في أموره العادية من أكل ونوم وسفر , وأن لا يؤاخذه في صور مذمومة في الظاهر محمودة في الباطن , وأن يكتم ما أسر به إليه من أسرار إلهية , ولا يتشوف إلى منزلة فوق منزلته , قال صلى الله تعالى عليه وسلم : أمتي امة مباركة , لا يدري أولها خير أو أخرها .
______________
من كتاب التصوف مشكاة الحيران / عبد الحميد الجوهري