سلام حازم
ويراد بها اصطلاحاً الانقياد والاستسلام للمحبوب وفناء الإرادة واختيار ( أنا ) المحب وبقاء إرادة واختيار ( أنا ) المحبوب فرضاءه برضاه وهديه بهداه فلا يأنس بسواه ولا يذكر عداه سعيد بحكمه وقضاءه فيصير راغباً ومرغوب طالباً ومطلوب محباً ومحبوب : . . . يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ . . . ( المائدة 54 ) ، وتختلف المحبة باختلاف الباعث فمنها المحبة العقلية وأساسها التأثر بالأشياء عن طريق الاستدلال العقلي للصفات والمحبة النفسية وموجدها التأثير على النفس والهوى والطبع بعيداً عن الروح والذات لأنها منقولة بالحواس وهذه المحبتان سابحتان في فلك الماديات .
وقانونهما التبدل بتبدل الصور والألوان إرضاءً للشهوات ومراتبهما هي الألفة ثم الميل ثم المودة ثم الهوى وهما المحركتان المحرضتان على نوعية العلاقة بين الناس أو بين الناس والأشياء أما الحب الإلهي فموجده نور بهي من رب الأرض والسموات يقذفه الحق سبحانه في قلب عبده المؤمن فيتنور قلبه وينجذب إليه وعندها تنتهي الأشكال والألوان والرسومات وتزول المسافات والطريق إلى محبة الله سبحانه هو محبة حضرة سيدنا محمد المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم فهو عين أعيان الوجود والشاهد والمشهود ينبوع النور الذي لا ينضب والسراج الذي لا ينطفيء ورحمة الله المهداة للعالمين : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ . . . ( الأحزاب 6 ) ، ورد في الحديث الشريف : لا يؤمن أحدُكُم حتّى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وولده وأهله والنّاس أجمعين ( 1 ) ، فمن أحبه أحب الله ومن أطاعه أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله ويصل المسلم إلى محبة حضرة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من خلال لمسة روحية ( البيعة ) من يد الوارث الروحي المحمدي ( الشيخ الكامل ) واتباعه بصدق وإخلاص وعندها يصل إلى قلبه النور الإلهي فيطهر عقله وقلبه ويرى هذا النور بباقي أجزاء جسمه ، قال حضرة السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني ( قدس سره ) ( المحبة بنظر المحبين بأن يضع المحب أفعاله ونفسه وماله ووقته لمن يحب منحة منه له كما يقتضي من المحب أن يمحو من القلب كل شيء سوى المحبوب وهذا كمال المحبة أما إذا كان في القلب بقية لغير المحبوب فالمحبة مدخولة ولا يزال المحب غاضباً عن نفسه حتى يرضى محبوبه لقد اتخذ مشايخ طريقتنا محبة الشيخ وسيلة لتوصيل المريد إلى المحبة المحمدية والإلهية لأن الحب هو واسطة انتقال التأثيرات الروحية لكونه حالة تتجاوز الحواجز المكانية ولا تعتمد على ما يصل بالحواس من أمر الحبيب وإن اتباع الوارث المحمدي ( شيخ الطريقة ) يوصل إلى محبته وهذه المحبة هي الطريق إلى محبة حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم وهي الطريق الوحيد إلى محبة الله تعالى ) (2) ،إن من حرم محبة الله سبحانه ومحبة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم يقصر التوبة ويطول الأمل ويرجوا الآخرة بلا عمل لأن قيمة العمل بالقبول وأساس القبول هو المحبة ويقول قول الصادقين العارفين ويعمل عمل المنافقين لأن محرضه على العمل هو النفس والهوى والطبع ووسوسة الشيطان فإن أعطاه الله لم يقنع وإن منع عليه جزع يأمر بالخير والإحسان ولا يأتي بهِ وينهى عن المنكر ويأتي بهِ يدعي محبة الصالحين وهو ليس منهم ويدعي بغض المنافقين وهو منهم يقول ما لا يعمل ويعمل ما لا يؤمر به يستوفي حقه ولم يوفي حق الغير لأنه لم يرتقي إلى الجانب الروحي في الإسلام فيبقى في ظلمات المادة لأنه يرى أشكالها وألوانها ولا يدرك معانيها وأرواحها : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ( البقرة 17 ) ، فالمادة ترى بالبصر والمعنى يرى بالبصيرة إن مراتب محبة الله هي العشق والهيام واليتم والوله .
قال حضرة السيد الشيخ عبد القادر الجيلاني ( قدس سره ) في أهل الهيام : ( هم الملائكة أو الأولياء الهائمون في نور الله ( نور الجلال والجمال ) وهم في لذة دائمة ومشاهدة لازمة لا يعرفون أن الله خلق غيرهم وما التفتوا قط إلى ذواتهم ) (3) ، إن المحبة نور : . . . نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ . . . ( النور 35 ) ، وليس بعاقل من يجمع للدنيا ويفرح بها ويحرص عليها ويطلب شهواتها ومن كان كذلك فقد غفل عن محبة الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يتوكل على الحي القيوم فظلم نفسه وعصى ربه ونسي الآخرة إن من أيقن بزوال الدنيا كيف يطمئن لها ومن أيقن بالآخرة كيف يسترح بالدنيا .
ورد في الحديث الشريف : الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ ( 4 ) ، ومن أيقن بأن الله سبحانه مطلع على نيته وأقواله وأفعاله كيف يعصي الله ويخالفه وينازعه ومن آمن بالموت والقبر والحساب كيف يأنس بالأشياء والناس فهذا إنسان عالم باللسان جاهل بالقلب مؤمن بالأسباب ولا يؤمن برب الأسباب ولا يعمل بما يعلم ويريد أن يعلم أن المحبة أُنس بالمحبوب وطهارة للعقل والقلوب والتحرر من النفس والهوى والطبع وتشرق أرض قلبه بنور الحق الباقي وبلا غروب
قال الإمام علي ( كرم الله وجهه ) في المحبة : ( هو وصف أصحاب الله وهم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعر المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدانهم أرواحهم معلقة بالمحل الأعلى ) (5) ، ولما تقدم ذكره يتضح لنا أن المحبة صفة الرحمن تورث صاحبها الرحمة والسعادة والاستقرار والأمان فيكون في سلام روحي ولا يلج إلى قلبه أي شكل من أشكال الكره والحقد والطغيان لأن قلبه سابح في ملكوت الله متنور بنور الواحد الديان أما من أغوته زينة الدنيا واستدرجه الشيطان فبضاعته الفسق والفجور والبهتان .
نسأل الله رب الأكوان أن يرزقنا وأمة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم محبته ومحبة حبيبه المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم وما أحب وصلِ اللهم على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
____________
الهوامش :
(1) – جامع العلوم والحكم ج 41 ص 4 .
(2) – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان ج6 / ص43 .
(3) – المصدر نفسه – ج20 / ص127 .
(4) – صحيح مسلم ج 14 / ص 205 .
(5) – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان ج2 / ص170 .
المصدر :- مشاركة من الكاتب .