يقول الباحث يوسف خطار محمد :
« تعريف المجاهدة :
قال الراغب الأصفهاني في كتابه ( المفردات في غريب القرآن )(1) :
الجهاد والمجاهدة : استفراغ الوسع في مدافعة العدو .
والجهاد ثلاثة أضرب :
مجاهدة العدو الظاهرة ومجاهدة الشيطان ، ومجاهدة النفس ، وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى :{ وَجاهِدوا في اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ }( الحج : 78 ) ، وقوله : { انْفِروا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ} ( التوبة : 41 ) .
ولا شك أن النفس الإنسانية قابلة لتغيير صفاتها الناقصة وتبديل عاداتها المذمومة ، وإلا لم يكن هناك فائدة من بعثة الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه واله وسلم ، ولا ضرورة لمن بعده من ورثته العلماء العاملين والمرشدين المصلحين .
وإذا كان كثيرا من سباع الطيور والبهائم أمكن ترويضها وتبديل كثير من صفاتها فالإنسان الذي كرمه الله تعالى بالعقل وخلقه في أحسن تقويم من باب أولى .
وليس المراد من مجاهدة النفس استئصال صفاتها ، بل المراد تصعيدها من السيئ إلى الحسن ، وتسييرها على مراد الله تعالى وابتغاء مرضاته .
فصفة الغضب مذمومة حين يغضب المرء لنفسه ، أما إذا غضب لله تعالى فعندها يصبح الغضب ممدوحاً ، كما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يغضب إذا انتهكت حرمات الله أو عُطِّلَ حد من حدوده ، ولكنه حين أوذي في الله وضُرب وأدمي عقبه يوم الطائف لم يغضب لنفسه ، بل دعا لمن آذوه بالهداية والتمس العذر فقال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون (2) . وكذلك صفة الكبر فهي مذمومة حين يتكبر المسلم على إخوته المسلمين ، أما حين يتكبر على المتكبرين الكافرين فتصبح هذه الصفة محمودة ، لأنها في سبيل الله وضمن حدود شرعه . وهكذا معظم الصفات المذمومة تحول بالمجاهدة وتُصعد إلى صفات ممدوحة . فمجاهدة النفس فَطمُها وحَملها على خلاف هواها المذموم ، وإلزامها تطبيق شرع الله تعالى أمراً ونهياً .
الأدلة على مشروعية المجاهدة :
أ – من القرآن الكريم :
قال تعالى : {والَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} ( العنكبوت : 69 ) .
قال العلامة المفسر القرطبي في تفسير هذه الآية : ( قال السدي وغيره : إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال ) ، وهذا يدل على أن المراد بالجهاد هنا هو جهاد النفس ، كما قال العلامة المفسر ابن جزي في تفسيرها يعني ( جهاد النفس ) .
ب – من السنة الشريفة :
عن فضالة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم : { المجاهد من جاهد نفسه في الله}(3) . وفي رواية : ( في طاعة الله ) .
حكم المجاهدة :
تزكية النفس فرض عين ، ولا تتم إلا بالمجاهدة ، ومن هنا كانت المجاهدة فرض عين أيضاً من باب : ( ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ) .
قال الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله : المجاهدة في النفس عبادة ، ولا تحصل إلا بالعلم ، وهي فرض عين على كل مكلف (4) .
طريقة المجاهدة :
وأول مرحلة في المجاهدة عدم رضى المرء عن نفسه ، وإيمانه بوصفها الذي أخبر عنه خالقها ومبدعها : { إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسّوءِ }( يوسف : 53 ) ، وعلمه أن النفس أكبر قاطع عن الله تعالى (5) ، كما أنها أعظم موصل إليه وذلك أن النفس حينما تكون أمارة بالسوء لا تتلذذ إلا بالمعاصي والمخالفات ، ولكنها بعد مجاهدتها وتزكيتها تصبح راضية مرضية لا تسر إلا بالطاعات والموافقات والاستئناس بالله تعالى .
وإذا اكتشف المسلم عيوب نفسه وصدق في طلب تهذيبها ، لم يعد عنده في الوقت للانشغال بعيوب الناس وإضاعة العمر في تعداد أخطائهم . وإذا رأيت أحداً من الناس قد صرف وقته في إحصاء أخطاء الآخرين غافلا عن عيوب نفسه فاعلم أنه جاهل ممكور به . قال أبو مدين :
ولا تر العيب إلا فيــك معتقـداً عيباً بدا بينناً لكنه استــــترا
وقال بعضهم :
لا تلم المرء على فعله
من ذمّ شيـئاً أتــى مثلــه وأنت منسوب إلى مثله
فإنمــا دل علـى جهلــه
ولذا قالوا : لا تر عيب غيرك ما دام فيك عيبُ ، والعبد لا يخلوا من عيب أبداً .
فإذا عرف المسلم ذلك أقبل على نفسه يفطمها عن شهواتها المنحرفة وعاداتها الناقصة ، ويلزمها بتطبيق الطاعات والقربات .
ويتدرج في المجاهدة على حسب سيره ، فهو في بادئ الأمر يتخلى عن المعاصي التي تتعلق بجوارحه السبعة وهي :
اللسان والأذنان والعينان واليدان والرجلان والبطن والفرج (6) ، ثم يحلي هذه الجوارح السبعة بالطاعات المناسبة لكل منها (7) ، فهذه الجوارح السبعة منافذ على القلب ، أما أن تنصب عليه ظلمات المعاصي فتكدره وتمرضه وأما أن تدخل عليه أنوار الطاعات فتشفيه وتنوره .
ثم ينتقل في المجاهدة إلى الصفات الباطنة ، فيبدل صفاته الناقصة كالكبر والرياء والغضب … بصفات كاملة كالتواضع والإخلاص والحلم .
وبما أن طريق المجاهدة وعر المسالك متشعب الجوانب ، يصعب على السلك أن يلجه منفرداً كان من المفيد عملياً صحبة مرشد خبير بعيوب النفس ، عالم بطرق معالجتها ومجاهدتها يستمد المزيد من صحبته خبرة عملية بأساليب تزكية نفسه ، كما يكتسب من روحانيته نفحات قدسية تدفع المريد إلى تكميل نفسه وشخصيته ، وترفعه فوق مستوى النقائص والمنكرات ، فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المرشد الأول ، والمزكي الأعظم الذي ربى أصحابه الكرام وزكى نفوسهم بقاله وحاله ، كما وصفه الله تعالى بقوله :{هُوَ الَّذي بَعَثَ في الْأُمِّيّينَ رَسولاً مِنْهُمْ يَتْلو عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وَإِنْ كانوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ }(8) .
والذي يحقق النفع للمريد هو استقامته على صحبة مرشده واستسلامه له كاستسلام المريض للطبيب . فإذا ما أدخل الشيطان على قلب المريد داء الغرور والاكتفاء الذاتي ، فأعجب بنفسه ، واستغنى عن ملازمة شيخه باء بالفشل ووقف وهو يظن أنه سائر ، وقُطِعَ وهو يظن أنه موصول (9) .
النبي صلى الله تعالى عليه واله وصحابته الكرام :
1 – عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : ( ما شبع آل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض ) (10) .
2 – وعنها رضي الله عنها قالت : ( كان فراش رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم من أُدمٍ (11) وحشوه ليف )(12) .
3 – وعن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جئت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوماً فوجدته جالساً مع أصحابه ، وقد عصب بطنه من الجوع ، فذهبت إلى أبي طلحة ، وهو زوج أم سليم بنت ملحان فقلت : يا أبتاه قد رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم عصب بطنه بعصابة ، فسألت بعض أصحابه ، فقالوا : من الجوع . فدخل أبو طلحة على أمي فقال : هل من شيء ؟ قالت : نعم عندي كِسرٌ من خبزٍ وتمرات ، فإن جاءنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أشبعناه ، وإن جاء آخر معه قَلَّ عنهم ، وذكر تمام الحديث (13) .
4 – وعن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال : لقد رأيتُني وإني لأخرُّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشياً عليَّ فيجيء الجائي ، فيضع رجله على عنقي ، ويرى أني مجنون (14) وما بي من جنون ما بي إلا من الجوع (15) .
5 – وعن سيدنا فضالة بن عبيد رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم كان إذا صلى بالناس يخِرُّ رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة (16) وهم أصحاب الصفة حتى يقول الأعراب : هؤلاء مجانين ، فإذا صلى رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم انصرف إليهم ، فقال : { لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة }(17).
6 – عن أبي هريرة رضي الله عنه انه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية ، فدعوه فأبى أن يأكل ، وقال : خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير .(18) .
7 – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما فيهم رجل عليه رداء ، إما إزار وأما كساء ، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين ، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته )(19) .
8 – وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : لقد رأيت نبيكم صلى الله تعالى عليه واله وسلم ، ما يجد من الدقل (20) ما يملأ به بطنه(21) .
من أقوال العارفين بالله في أهمية المجاهدة :
1 – قال الإمام البركوي رحمه الله تعالى : المجاهدة : وهي فطم النفس وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات ، فهي بضاعة العُبَّاد ورأس مال الزهاد ، ومدار صلاح النفوس وتذليلها ، وملاك تقوية الأرواح وتصفيتها ووصولها إلى حضرة ذي الجلال والإكرام ، فعليك أيها السالك بالتشمير في منع النفس عن الهوى ، وحملها على المجاهدة إن شئت من الله الهدى ، قال الله تعالى : {والَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} .
وقال أيضاً : { وَمَنْ جاهَدَ فإنما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ } ( العنكبوت : 6 ) .
2 – وقال أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى : من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة ، وقال الله تعالى : { والَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا }. واعلم أنه من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة (22) .
3 – وقال أبو عثمان المغربي رحمه الله تعالى : ( من ظن أنه يفتح له بهذه الطريقة أو يكشف له عن شيء منها لا بلزوم المجاهدة فهو في غلط ) .
4 – وقال الأمام الجنيد قدس سره : سمعت السري السقطي يقول : يا معشر الشباب جدُّوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصروا كما ضعفت وقصرت . وكان في ذلك الوقت لا يلحقه الشباب في العبادة .
5 – وقال ابن عجيبة رحمه الله تعالى : لا بد للمريد في أول دخوله الطريق من مجاهدة ومكابدة وصدق وتصديق ، وهي مظهر ومجلاة للنهايات ، فمن أشرقت بدايته أشرقت نهايته ، فمن رأيناه جاداً في طلب الحق باذلاً نفسه وفلسه وروحه وعزه وجاهه ابتغاء الوصول إلى التحقق بالعبودية والقيام بوظائف الربوبية ، علمنا إشراق نهايته بالوصول إلى محبوبه ، وإذا رأيناه مقصراً علمنا قصوره عما هنالك (23) .
6 – وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى في تعليقاته على الرسالة القشيرية : إن نجاة النفس أن يخالف العبدُ هواها ، ويحملها على ما طلب منها ربها .
رد الشبهات حول المجاهدة :
إن قال قائل : إن رجال التصوف يحرمون ما أحل الله من أنواع اللذائذ والمتع ، وقد قال الله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ }( الأعراف : 32 ) ، وقال تعالى : { يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تُحَرِّموا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ} ( المائدة : 87 ) فنقول : إن رجال التصوف لم يجعلوا الحلال حراماً ، إذ أسمى مقاصدهم هو التقيد بشرع الله ، ولكنهم حين عرفوا أن تزكية النفس فرض عين وأن للنفس أخلاقاً سيئة وتعلقات شهوانية ، توصل صاحبها إلى الردى وتعيقه عن الترقي في مدارج الكمال وجدوا لزاماً عليهم أن يهذبوا نفوسهم ويحرروها من سجن الهوى .
وبهذا المعنى يقول الصوفي الكبير الحكيم الترمذي رحمه الله رداً على هذه الشبهة وجواباً لمن احتج بالآية الكريمة قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ … فهذا الاحتجاج تعنيف ، ومن القول تحريف لأنا لم نرد بهذا التحريم ولكنا أردنا تأديب النفس حتى تأخذ الأدب وتعلم كيف ينبغي أن تعمل في ذلك ، ألا ترى إلى قوله جل وعلا : { قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ والْأِثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ }( الأعراف : 33 ) فالبغي في الشيء الحلال حرام ، والفخر حرام ، والمباهاة حرام ، والرياء حرام ، والسرف حرام ، فإنما أوتيت النفس هذا المنع من أجل أنها مالت إلى هذه الأشياء بقلبها ، حتى فسد القلب فلما رأيت النفس تتناول زينة الله والطيبات من الرزق تريد بذلك تغنياً أو مباهاة أو رياء علمتُ أنها خلطت حراماً بحلال فضيعت الشكر ، وإنما رزقت لتشكر لا لتكفر ، فلما علمت سوء أدبها منعتها ، حتى إذا ذلت وانقمعت ، ورآني ربي مجاهداً في ذاته حق جهاده ، هداني سبيله كما وعد الله تعالى : { والَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنينَ } فصرت عنده بالمجاهدة محسناً فكان الله معي ، ومن كان معه الله فمعه الفئة التي لا تغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل ، وقذف في القلب نوراً عاجلاً في دار الدنيا حتى يوصله إلى ثواب الآجل ، وتجافى عن دار الغرور فغاب عن قلبه البغي والرياء والسمعة والمباهاة والفخر والخيلاء والحسد ، لأن ذلك إنما كان أصله من تعظيم الدنيا وحلاوتها في قلبه ، وحبه لها ، وكان سبب نجاته من هذه الآفات برحمة الله رياضته هذه النفس بمنع الشهوات منها (24) . وقد تسرع بعض الناس فزعموا جهلاً في مجاهدته ينحدر من أصل بوذي أو إبراهيمي ويلتقي مع الانحرافات الدينية في النصرانية وغيرها التي تعد تعذيب الجسد طريقاً إلى إشراق الروح وانطلاقها ، ومنهم من جعل التصوف امتداداً لنـزعة الرهبنة التي ظهرت في ثلاثة رهط سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها فقال أحدهم : أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الثاني : أما أنا فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الثالث : أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج . ولما عرض أمرهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم صحح لهم أفكارهم ، وردهم إلى الصراط المستقيم والنهج القويم (25) . والجواب على ذلك أن التصوف لم يكن في يوم من الأيام شرعة مستقلة ولا ديناً جديداً ، ولكنه تطبيق عملي لدين الله تعالى واقتداء كامل برسوله صلى الله تعالى عليه واله وسلم ، وإنما سرت الشبهة عن هؤلاء المتسرعين لأنهم وجدوا في التصوف اهتماماً بتزكية النفس وتربيتها وتصعيدها ومجاهدتها على أسس شرعية ضمن نطاق الدين الحنيف ، فقاسموا تلك الانحرافات الدينية على التصوف قياساً أعمى دون تمحيص أو تمييز ، غائبين عن مواقف المجاهدة العظيمة التي مر بها رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم وصحابته الكرام مما لو سمع به أحد هؤلاء المنكرين ولم يعلم أنه موقف لرسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم لاتهم صاحبه انه متنطع بالعبادة وأنه يشاد الدين ويحرم على نفسه ما أحل الله لها ولكنه ثمة فرق كبير بين المجاهدة المشروعة المقيدة بدين الله تعالى وبين المغالاة والانحراف وتحريم الحلال وتعذيب الجسد كما عليه البوذيون الكافرون .
ومن الظلم والبهتان أن يحكم على كل من جاهد نفسه وزكاها أنه ينحدر من أصل بوذي أو إبراهيمي كما يزعم المستشرقون ومن خدع بهم ، أو أنه يقتدي بهؤلاء الرهط تقالوا عبادة رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم كما يقوله المتسرعون السطحيون ، مع أن رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم صحح لهم خطأهم فرجعوا إلى هديه وسنته .
وإذا وجد في تاريخ التصوف من حرم الحلال أو قام بتعذيب الجسد على غرار الانحرافات الدينية السابقة فهو مبتدع ومبتعد عن طريق التصوف ، لذا ينبغي التفريق بين التصوف والصوفي فليس الصوفي ممثلاً للتصوف ، كما أن المسلم بانحرافه لا يمثل الإسلام .
والمعترضون لم يفرقوا بين الصوفي والتصوف وبين المسلم والإسلام ، فجعلوا تلازماً بينهما فوقعوا في الكاملين قياساً على المنحرفين .
وبعد ، فإن منتهى آمال السالكين ترقية نفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا إلى مطلوبهم ، والنفس تترقى بالمجاهدة والرياضة من كونها أمارة إلى كونها لوامة وملهمة وراضية ومرضية ومطمئنة … الخ ، فالمجاهدة ضرورية للسالك في جميع مراحل سيره إلى الله تعالى ولا تنتهي إلا بالوصول إلى درجة العصمة ، وهذه لا تكون إلا للأنبياء والمرسلين ( عليهم الصلاة والسلام ) (26) فالأولياء يصلون إلى درجة الحفظ ، والأنبياء إلى درجة العصمة .
إذاً فالمجاهدة أصل من أصول طريق الصوفية ، وقد قالوا : ( من حقَّق الأصول نال الوصول ، ومن ترك الأصول حرم الوصول ) » (27) .
____________________
الهوامش :
(1) – المفردات في غريب القرآن – ( 208 ) مادة جهد .
(2) – أخرجه البخاري ( 3477 ) .
(3) – أخرجه الترمذي ( 1621 ) وقال حديث حسن صحيح .
(4) – شرح الطريقة المحمدية – 1 – 323 .
(5) – والقواطع عن الله تعالى أربعة : النفس والدنيا ، والشيطان ، والخلق ، اما عداوة النفس والشيطان فظاهرة ، واما الخلق فملاحظة مدحهم وذمهم تعرقل سير السالك إلى ربه ، اما الدنيا فالاهتمام بها وانشغال القلب بتقلباتها قاطع كبير عن الله تعالى ، ففي حالة الفقر تكثر هموم المرء فتشغله عن الله ، وفي حال الغنى ينشغل بزينتها وزخرفها عن الله تعالى : إِنَّ الْأِنْسانَ لَيَطْغى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
[ العلق : 6 ، 7 ] ، اما إذا خرج حبها من قلبه فإنها لا تضره ، كما قال شيخ الصوفية الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره : « اخرج الدنيا من قلبك ، وضعها في يدك فإنها لا تضرك » .
(6) – لكل جارحة من الجوارح السبعة معاص تتعلق بها : فمن معاصي اللسان : الغيبة والنميمة والكذب والفحش : ومن معاصي الأذنين : سماع الغيبة والنميمة والأغاني الفاحشة . ومن معاصي العينين : النظر للنساء الأجنبيات وعورات الرجال . ومن معاصي اليدين : إيذاء المسلمين وقتلهم ، وأخذ أموالهم بالباطل ومصافحة النساء الأجنبيات . ومن معاصي الرجلين : المشي إلى محلات المنكرات والفجور . ومن معاصي البطن : أكل المال الحرام وأكل لحم الخنزير ، وشرب الخمور . ومن معاصي الفرج : الزنا واللواطة .
(7) – فمن طاعات اللسان : قراءة القرآن الكريم وذكر الله تعالى والامر بالمعروف والنهي عن المنكر : ومن طاعات الأذنين : سماع القرآن الكريم والأحاديث النبوية والنصائح والمواعظ . ومن طاعات العينين : النظر إلى وجوه العلماء والصالحين والنظر إلى الكعبة المشرفة ، والنظر التأملي لآيات الله في الكون . ومن طاعات اليدين : مصافحة المؤمنين وإعطاء الصدقات . ومن طاعات الرجلين : المشي إلى المساجد والى مجالس العلم وعيادة المريض ، والإصلاح بين الناس . ومن طاعات البطن : تناول الطعام الحلال بنية التقوى على طاعة الله . ومن طاعات الفرج : النكاح المشروع بغية الإحصان وتكثير النسل .
(8) – سورة الجمعة : الآية 2 . ومن هنا نجد ان التزكية شيء وتعليم الكتاب والحكمة شيء آخر ، لذا قال تعالى : وَيُزَكّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ [ البقرة : 151 ] ، ففرق كبير بين علم التزكية وحالة التزكية ، كما يلاحظ الفرق الواضح بين علم الصحة وحالة الصحة ، إذ قد يكون الطبيب الماهر الذي عنده علم الصحة فاقداً حالة الصحة ومصاباً بالأمراض والعلل الكثيرة . وكذلك الفرق ظاهر بين علم الزهد وحالة الزهد ، كالمسلم الذي عنده علم واسع بالآيات والأحاديث والشواهد المتعلقة بالزهد ولكنه يفقد حالة الزهد ويتصف بالطمع والشره والتكالب على الدنيا الفانية .
(9) – عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص115 – 119 .
(10) – أخرجه البخاري ( 9 / 478 ) ومسلم ( 2970 ) .
(11) – أي الجلد .
(12) – أخرجه البخاري ( 11 / 5 ) .
(13) – أخرجه البخاري ( 6 / 429 – 432 ) ومسلم ( 2040 ) .
(14) – أي وتلك عاداتهم بالمجنون حتى يفيق .
(15) – أخرجه البخاري ( 7324 ) والترمذي ( 2367 ).
(16) – الخصاصة : الفاقة والجوع الشديد .
(17) – أخرجه الترمذي ( 2368 ) وقال حديث حسن صحيح ، وصححه ابن حبان ( 724 ) .
(18) – أخرجه البخاري ( 9 / 478 ) .
(19) – المصدر نفسه ( 1 / 447 ) .
(20) – الدقل : التمر الرديء .
(21) – أخرجه مسلم ( 2978 ) والترمذي ( 2373 ) .
(22) – الإمام القشيري – الرسالة القشيرية : 48 – 50 .
(23) – الشيخ أحمد بن عجيبة – إيقاظ الهمم في شرح فصوص الحكم ج 2 ص 370 .
(24) – الحكيم الترمذي – كتاب الرياضة وآداب النفس – ص 124 .
(25) – أخرجه البخاري ( 4776 ) ومسلم ( 1401 ) .
(26) – عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص 124 – 127 .
(27) – يوسف خطار محمد – الموسوعة اليوسفية في بيان أدلة الصوفية ص 459 – 468 .
المصدر :- المصدر :- موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان – ج 20 – مادة ( جـ هـ د ) .