الدكتورة غادة العاسمي
وفي هذا العصر الذي تتم فيه عمليات التواصل الفكري بنبض الثانية عن طريق أجهزة تم تصميمها من قبل البشر يمكننا أن نعيد تقييم الظاهرة الروحية بمنظر أكثر عمقاً وشمولاً .
أولاً – عن طريق الرؤية : تستيقظ مبتهجاً مستبشراً لأنك تخرجت وبمعدل جيد جداً . . هكذا عشت فرحة النجاح وأنت نائم لكنك بعد أسبوع بالضبط تخرجت بالفعل وبمعدل جيد جداً . فلقد تحققت رؤياك بحذافيرها وعلى العكس من ذلك قد تستيقظ مذعوراً مكتئباً لكنك تذكر بأنك شاهدت شقيقك المسافر يتأوه من الألم وقد لفت ساقه بضماد أبيض ، وعندما اتصلت به في اليوم التالي للاطمئنان عليه تجد بأنه فعلاً مريض وقد كسرت ساقه البارحة !!
هل الرؤية الصادقة مؤشر على يقظة روحية متميزة .
ثانياً – هل المعرفة المسبقة لحدث ما مؤشر على يقظة روحية متميزة عندما تتعرض لحدث معين في حياتك وتشعر بأنك رأيت نفس الحدث يتكرر بحيث تكون ردة فعلك آلية تكررها نفسها في نفس الموقف وأنت تتذكر بأنك قد رأيت الحدث وتصرفت إزاءه بنفس ردة الفعل وأنت مستيقظ تماماً أو في حالة استرخاء فيصبح الحدث مجرد لقطة معرفة سابقة لنتيجة حصلت عليها بطريقة ما ؟ !!
ثالثاً – الإحساس بالتواصل مع الآخرين ، كثيراً ما نجد الأم نفسها متواصلة مع أبنائها سواء في القرب أو البعد . تواصلاً روحياً يمكن أن نجده عند الناس المتحابة في الله ، لا لمصلحة ولا لغاية ، يفرحون لفرح بعضهم ، ويحزنون لحزن بعضهم حتى لو كانت بينهم مسافات شاسعة لكن إحساسهم ببعضهم لا يخيب .
رابعاً – كثيراً ما يكون الانطباع الأول عن شخص ما صحيحاً سواء كان قبولاً أو رفضاً لهذا الشخص ثم تأتي الأيام وتكشف صدق الانطباع ، فأنت ترتاح لشخصية معينة ثم تعرف عنها كل خير ، وقد تنفر من آخر لم يؤذك أو يسيء إليك في اللحظة . لكنه بالتجربة يثبت بأنه لا يكن مشاعر الخير لك أو لغيرك !!
خامساً – الحاسة السادسة أو البصيرة النافذة أو الدرجة الراقية من المعرفة الروحية . سادساً – تشعر دائماً بأنك بانتظار أهلك القادمين من مكان بعيد وبتواصل مع أرواحهم أو مع الكائنات الأخرى ، من حيوانات أو طيور أو ملائكة الرحمة !!
سابعاً – تدخل مكاناً ما ، فتشعر في نفسك نداءً وحنيناً إلى ماض سحيق يشدك إليه أكثر من الحاضر فتحب كل قديم ، كأن فيه نبض خبر ضائع اليوم ، وأنس روح خاوية !!
هل يعتبر حصولك على شيء من هذه المعاني مؤشراً على الوصول إلى درجة من القرب من الله ؟! أو تحقيق درجة عالية من الإيمان بغض النظر عن انتمائك الديني أو المذهبي أو العرقي أو الفكري أم أنك في لحظة ما حصلت على تواصل مع محطة البث الرئيسية للرحمة الإلهية النابضة بالتساوي والعدل في كل عروق الكون بأكمله ؟!!
هل هذه الأعطيات مؤشرات الرضا الإلهي ؟!! إذا ترافقت بسلام داخلي زاخر ، وعطاء إنساني متواصل ، فلا شك عندنا من أنها سر من أسرار الرضا الإلهي !!
وإلا فإن هذه الظواهر الروحية ترفض أن نحصرها في خط ما أو زاوية ما أو نحدها بحد ما !! السؤال هو :
كيف ننمي هذه الظاهرة ؟! كيف نستفيد منها ؟! وكيف يمكن أن نعاني منها لو بالغنا في التركيز عليها وكأننا نكرر حياة ما أو نعيش بالريموت كونترول ؟!
لا بد بأن هناك ميزاناً نرتكز عليه لاستثمار هذه الظاهرة إيجابياً !!
فهل أنت متحقق بالصفات التي تجعلك أهلاً لكي تقول بأنك تستحق هذا العطاء ، أو بمعنى آخر ، هل وضعت قدمك على أول الطريق !! وسيمد الله بفضله ورحمته وكرمه لك يد العون لكي تكمل درب الهداية !!
ومن أين ستكون البداية ؟! هل هي من المعرفة الروحية المطلقة ؟!
كثير من الذين عادوا إلى الله من خلال معايشتهم لهذه الظاهرة !! استفادوا منها ، ولكن كيف لنا أن نقيم الصح من الخطأ في طريق العودة بدون مصالحة !!
مصالحة بين العقل والقلب والروح والجسد لتحقيق توازن إنساني معين واستنارة جدية جديدة لمعنى الحياة والوجود فيها والاستمرار معها على خط الاعتدال !!
إن الفن الروحي الراقي هو فن التواصل المتعالي عن مطبات الأحقاد والمصالح والأهواء الآدمية الصغيرة !!
إنه فن الحب الضارب جذوره في أرض الصفاء وبحر الإنسانية المعطاء !!
فن قراءة الآخرين مثل تأمل الورود المتميزة بجمالها وعطرها وشذاها !!
إنه فن التواصل مع الآخرين عبر زاوية عريضة من الانفتاح الإنساني الأخوي بدلاً من العزلة في قوقعة الذات المتشنجة !!
فن الحب . . فن التفاعل . . فن العطاء دون تعبير أو كلمات أو إيماء !!
إنه عصر الانترنت !! فهل نستطيع أن نضبط أسلاك قلوبنا وأشرطة نفوسنا وخلايا عقولنا ووجداننا على خط واحد علنا نكتشف الهوية الموحدة التي تجمعنا كأسرة إنسانية واحدة .
جسدي طيني ترابي مشتبك مع كل عنصر من عناصر الطبيعة مشتاق للتواصل مع تراب أرضها موسيقى عصافيرها ووشوشة نسيمها وطعم خضارها وفاكهتها وعطر ياسمينها !! لكن قلبي إنساني لأن روحي سماوية راقية تستقي محبتها من منابع النور والخير الأصيل !! وفكري حضري مبدع ، حقدي بدائي مقموع لأنني لا أقبل مبدأ العنف والثورة في داخلي . .
لا أقبل أن يثور عنصر على آخر في داخلي فأفقد سلامي الغالي !!
فإذا كان عنصر الروح هو العنصر والأسمى والأبقى دون تحيز أو تعصب له !!
فهو البدء والاستمرار ونبض الوجود !! وهو العنصر الذي يجعلك تتفاعل مع الوردة والطير والحيوان والبحر والقمر والسماء وتربة الأرض وكل الكائنات وأقربها أخيك الإنسان !!
من أين يستقي هذا العنصر نداءه ؟ وأي منهج شامل دقيق يمكن أن يضبطه ؟ !
هل يمكن أن يصلح له منهج أرضي وضعي من صنع البشر ؟! كيف هذا وهو في الأصل منحة إلهية ذات سمة معينة وأسرار خاصة !! فهو يحتاج إلى منهج رباني دقيق حتى يسير في درب السعادة ما دمنا مقتنعين بأن السعادة تتبع في الأصل منه ، وترجع إليه ، وما لم تشعر الروح بالسكينة ستبقى بقية العناصر متوترة مضطربة في تخبط تبحث عنه ، لذا لا بد من البحث الشامل الدقيق الموضعي البعيد عن أي تحيز أو تعصب للوصول إلى المنهج الراقي اللائق بالروح ، والثابت بنصوص سماوية محفوظة من أي تغيير أو تعديل ، ولأن الصانع لا يمكن إلا أن يرفق صنعته ( بالكاتالوك ) المناسب . . ليشرح سر الصنعة وسر الصيانة والاستمرار والانتفاع بها !!
فأي منهج هذا الذي يحقق هذه الشروط ؟ !
هذا ما يحتاج منا إلى بحث وقلق متيقظ للوصول إلى نقطة الانطلاق في خط الطمأنينة التي تجلب السعادة في زمن المتناقضات !!
وهنا يفرض السؤال نفسه . هل المعرفة هي نوع من الألم والقلق أم أنها طريق للوصول إلى السعادة أم الاثنان معاً ؟!
إذا كانت المعرفة تسبب لك الألم اليوم ، لأنك تجد بأنه ضمن مقاييسها ، كل ما حولك جامح عن الحق والاعتدال ، فيجب ألا يغير ذلك من قناعتك بأنها السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة ومعرفة معنى السعادة العميق !! لكنه ثمن ليس بالرخيص أبداً إلى غاية ليست بالقريبة أبداً !!
إنها قريبة المتناول جداً من طريق الفطرة !!
لكنها بعيدة المتناول جداً عن طريق الحضارة التكنولوجية المتعثرة !!
رغم أن عطاءات الحضارة هي بحد ذاتها ، مفاتيح جديدة لمعرفة أشمل وأعمق ، فمن أين يأتي التعارض ؟!
يأتي من تزييف هوية الحضارة ، وتشويش مفهوم الحضارة ضمن ركام إسمنتي متصاعد من الماديات على حساب حقائق راسخة من الإيمانيات والروحانيات !!
من هنا يأتي الصراع ، يحاول كل منهما أن يشد طرف الحقيقة إلى جانبه !!
وتبقى الحقيقة رافضة لكل تشنج أو انحراف أو جنوح راسخة عند نقطة التوازن وخط الاعتدال وبين أن تكون قصبة تهتز لأدنى هبة من هبات الريح ، أو تكون صخرة عاتية تنكسر عليها أمواج التحدي ولا ترفض التغيير الإيجابي !!
بين أن تكون شاشة صفاء تنطبع في أعماقك كل صور الخير الإنساني الذاخر مهما اختلفت ألوانها وإخراجها وإبداعاتها !!
وبين أن تكون مساحة تشويش ، تتخاصم في داخلك كل الموجات ، وتتخبط كل الصيحات وتختلف كل الوجهات وتتشوه كل الصور الجميلة !!
بين هذا وذاك يبقى السؤال ، أن نكون أو لا نكون . . to be or not to be وتتسع مساحة الود بين كل العناصر في داخلك يوماً بعد يوم ، لأنك ترى فيها يد الحكمة الربانية المطلقة ، ولمسة الرحمة الإلهية اللطيفة !!
إن كل فلسفة جديدة تتطلب ثمنها ، ولا بد أن يدفع ثمنها غالياً ، لأن التجديد لا يكون إلا بفضل صبر كبير وجهد فائق !!
وإن معجزة جيل من الأجيال سرعان ما تصبح حقيقة في الجيل القادم ، وإن أي إنسان لا يؤمن بالمعجزات لا يملك تفكيراً واقعياً .
إن الطبيب الذي لم يتعلم كيف يتحدث مع مريضه ، يشبه تماماً الروحاني الذي يحس بالعزلة والوحشة لأنه لم يتعود أن يتحدث مع الله !!
وكما يقول الدكتور برني سيغل في كتابه الحب والطب والمعجزات :
( أشد ما أخشاه ، أننا معاشر الأطباء فقدنا واحداً من أهم مصادر قوتنا ألا وهو التعلق بالله ، ومشاهدة الطبيعة الجميلة العذبة التي أبدعها ) !!
( وذلك منذ أن أصبحت المشافي بلا نوافذ ، إن مشاهدة العالم الخارجي والاستمتاع بالأشجار والورود والطرقات ، تجعل المرضى يرتبطون بالحياة كلها ويتعلقون بها ) .
وأخيراً ليس المهم أن نبقى على قيد الحياة ولكن المهم أن نتذوق الحياة .
إننا نسيج واحد قوامه الود ومداده الرحمة ومعناه الإنسان وسره الروح :
وإذا اعتراك الشك في ود امـرئ
وأردت تعرف حلوه من مره
فاسأل فؤادك عن ضميــر فؤاده
ينبيك سرك كل ما في سـره
___________
المصدر : كتاب الطب الروحي للدكتورة غادة العاسمي – ص 109 – 115 .