قبل أن ندخل في عملية تفسير ظواهر الشفاء الخارقة في الطريقة الكسنـزانية نود ان نطرح السؤال الآتي :
اذا كانت ظواهر الشفاء الخارق في الطريقة حقيقة واقعية مـلموسـة ، فمن يســتطيع ان يحـللها ويفسـرها ؟
نظرياً هناك أربع جهات يمكن ان تتبنى هذا الأمر وهي :
1. الطب البايلوجي والتفاعلي .
2. علم الباراسايكلوجيا .
3. الفكر الديني التقليدي .
4. علم التصوف ( الكسنزان وتفسيره للشفاء غير التقليدي )
ولنستعرض معاً ، ما يمكن أن تقدمه كل جهة للعالم في هذا الشأن الطبي الخطير:
الطب الحديث وتفسيره لظواهر الشفاء الخارقة
رأينا في المبحث الأول كيف ان الطب الحديث ينقسم إلى قسمين رئيسين هما : الطب البايلوجي والطب التفاعلي .
ورأينا كيف ان الطب البايولوجي يتنكر كل التنكر لكل ما يمت إلى غير المادة البحتة بصلة حتى ولو كانت النفس الإنسانية ، والتي يتعامل معها على أساس مادي فيعدها نوع من أنواع الطاقة المادية .
وحتى لو فرضنا جدلاً أننا أجبرنا علماء هذا القسم من الطب على اختبار مصداقية حدوث ظواهر الشفاء الخارقة ، وبعد ان يتأكدوا من حصولها بالفعل ، فإن احتمالات آراءهم قد تنحصر في إطار ثلاثة أراء وهي :
الأول : هو المبالغة في الإنكار والجحود لها بلا تفسير .
الثاني : هو الاعتراف بها ، والإقرار بعدم القدرة على تفسيرها في الوقت الحاضر أسوة بغيرها من الظواهر التي لا يزال العلم يبحث عن تفسير لها ، ولكن هذا التوقف في أمرها لا يخرجها عندهم عن حدود الطبيعة المادية لها . أي انها ظاهرة طبيعية متعالية يمكن ان تعم اذا تم اكتشاف قوانينها المادية .
ان ما يحسبه العلماء في هذا القسم تفكيراً علمياً صرفاً لا يختلف عن نمط التفكير لدى دعاة ( فلسفة الطبيعة ) الذين ينتهون بتفكيرهم الفلسفي إلى نفس النتيجة التي قال بها أطباء النموذج البايلوجي ، فهم يذهبون إلى انه من المحال ان « يعيش الاعتقاد بأن للطبيعة قانوناً ، السنن فيه علل تابعة لمعلولاتها ، ومسببات ناتجة عن أسباب ، جنبا إلى جنب مع الاعتقاد بالمعجزات التي يقول بها الدين الرسمي . فالقانون الطبيعي إنما معناه انتظام نظام دقيق في الطبيعة أو بعبارة أكثر وضوحاً معناه ان الطبيعة طبيعتها النظام ، بينما الخوارق والمعجزات فمعناها الفوضى واللانظام »(1) .
هكذا يرى هؤلاء ، وفي معرض تفسيرهم للظواهر الخارقة التي لا يستطيعون إنكارها يقولون : « أما اذا كان هناك حقيقة , قد حدث في الطبيعة حدث يعده الدين ومن وراءه العقل الجماعي خارقة أو معجزة فذلك إنما شاهد ودليل يقوم لا على أن الحدث معجزة ، وإنما على عجز الإدراك عن فهم وتفسير حقيقة هذا الحدث الطبيعي »(2) .
هذه المعاول العقلية ( الطبية والفلسفية ) كان لها الدور الأكبر في ترسيم الهوة الفاصلة بين البناء اللاهوتي للدين الرسمي ( السماوي ) وبين الصرح العقلي للدين الطبيعي ، اذ كان هناك من دين في الكون فهو « القانون الطبيعي »(3).
الثالث : الاعتراف بها ، والإقرار بأنها خارج حدود علوم الطب التقليدية ، وبالتالي يجب ان تبحث في غير مجالاتهم .
واذا استثنينا الحالات النادرة التي قد يخرج فيها بعضهم عن حدود الإطار المعرفي الذي يقيد ذهنيته العلمية المقيدة بالمادية الصرفة ، فإن البقية الباقية
لا يمكن ان تعطينا في هذا المجال أكثر مما ذكر .
وأما القسم الثاني من الطب الحديث وهو الطب التفاعلي ، والذي يعتبر أحسن حالاً من سابقه من حيث انه يأخذ بنظر الاعتبار القضايا النفسية والعقلية وتأثيراتها على الناحية الكيميائية والفيزيائية في جسم الإنسان ( أي تأثير اللامادي على المادي ) فأنه ومع ذلك ليس بأحسن حالاً في مجال تحليل ظواهر الشفاء الخارقة في الطريقة وتفسيرها من الطب البايولوجي .
ويمكن ان يتبين ذلك بوضوح اذا علمنا ان الفارق بينه وبين القسم الأول هو ان الطب البايولوجي يرى ان المحفز على الشفاء هو العقاقير الكيمائية ، بينما يرى الطب التفاعلي ان المحفز على تقبل الجسم للعقاقير الطبية أو على عدم تقبلها ورفض مؤثراتها الكيمائية هو حالة نفسية أو عقلية معينة عند الشخص .
ولهذا فلا يمكننا ان نتوقع من هذا العلم تفسيرا للظواهر الشفائية الخارقة يتجاوز مدى التحفيز السايكولوجي للميكانيزمات البيولوجية اللاإرادية التي تؤدي وظائف العلاج الذاتي عند صاحب الفعالية الخارقة.
بالرغم من ان عدد من الدراسات والأبحاث العلمية اثبتت قصور النموذج التفاعلي كما سبق ان اشرنا ، لأن هناك بعض الظواهر الشفائية الخارقة كان فيها المرضى غير مطلعين على انهم يتعرضون لتجربة شفاء خارقة وقد تحسنت حالتهم ، كما ان ظواهر الشفاء الخارقة بالنسبة للحيوانات تدل ايضاً على قصور التحليل التفاعلي .
نقول : بالرغم من ذلك فأننا نرى ان هذا التحليل دار حول حمى التفسير الصوفي لظواهر الشفاء الخارقة ، فواقع الحال ان هناك محفز قوي يقوم بتحفيز الميكانيزمات البيولوجية اللاإرادية التي تؤدي وظائف العلاج الفوري وليس الذاتي ، لأن الثابت العلمي لحد الآن ان الشفاء الذاتي في حالة حصوله بسبب أي محفز بايلوجي او سايكلوجي يستغرق وقتاً معينا يطول ويقصر حسب نوع الحالة ، أما ما نشهده هنا فهو حالة شفاء فوري نتيجة تحفيز غير اعتيادي للميكانيزمات البيولوجية اللاإرادية . فالتحفيز موجود ولكنه غير ذاتي ، وهذه هي النقطة الأهم التي نود ان نركز عليها ، اذ انها تمثل الفارق الحقيقي بين التفسير التفاعلي لظواهر الشفاء الاعتيادي وبين ظواهر الشفاء الخارق .
والنتيجة التي نخلص لها ، هو العجز الفعلي لقسمي الطب عن تفسير هذه الظواهر سواء أعترف بها أم أنكرها .
علم الباراسايكلوجيا وتفسيره لظواهر الشفاء الخارقة
قد يتبادر إلى الأذهان ان ظواهر الشفاء الخارقة في الطريقة هي ظواهر باراسيكلوجية ، وان التفسيرات التي وضعها العلماء والباحثين في هذا العلم كافية لتعطينا التفسيرات العلمية لهذه الحالات ، أو الحد الأدنى على الأقل من تلك التفسيرات .
ولكن البحث المعمق يكشف وبلا ادنى شك ان هذه الظواهر الشفائية الصوفية بعيدة البعد كله عن هذا العلم وكل ما يمت له بصلة ، وذلك لأن جميع تفسيرات هذا العالم تنطلق من الأرضية الفكرية نفسها التي ينطلق منها نموذج الطب التفاعلي ، إلا ان الفارق الرئيس بينهما ، أن الطب التفاعلي يتعامل مع أمراض وظواهر طبيعية ، بينما يحاول الباراسايكلوجيين البحث والتعامل مع ظواهر خارقة للطبيعة أو تبدو خارقة على حد تعبير الباراسايكلوجي وعالم النفس (جون بالمر) (4) .
ومعنى ذلك ان عنصر القدرات الذاتية هو الطاغي على جميع التفاسير الباراسايكلوجية ، لأنهم يرجعون كل شيء إلى قدرات ومواهب ذاتية وليست خارجية ، وهذا بالطبع يتناقض تماماً مع خوارق الطرق الكسنـزانية التي ثبت عقلاً وتجربة انها لا تعتمد على قدرات ذاتية ابداً بل على قدرات خارجية ( ميتافيزيقة ) ، وقد سبق الإشارة إلى مسألة مقدرة المريدين على تأدية فعالياتهم حتى في حالة غياب الشيخ الحسي عنهم ، بل وحتى في حال نومه .
فعلم الباراسايكلوجيا وابتداءً من تعريفه اللغوي والذي يعني ما يجاور علم النفس ، أو ما وراء علم النفس من ظواهر نفسية خارقة وغريبة ، لأن مصطلح الباراسايكلوجي يتكون من مقطعين هما : ( البارا ) وتعني بقرب أو بجانب ،و(سايكلوجيا) وتعني علم النفس (5) أو من مختلف تعاريفه الاصطلاحية ، وكذلك في جميع الأبحاث التي قام بها العلماء والباحثين لا يخرج البتة عن حدود النفس البشرية وقدراتها غير الاعتيادية .
ليس هذا فقط ، بل ان العلماء سواء الباراسايكلوجيين منهم أو المشككين ، يندفعون نحو رفض النظرات الميتافيزيقية للظواهر الخارقة . أي ان الموقف السائد هو رفض شامل لكل تفسير ميتافيزيقي يحيد عن فكرة كون الإنسان هو منبع ومصب الظاهرة الخارقة .
والسبب الذي يقدمه العلماء في محاولتهم تفنيد الاعتقادات الميتافيزيقة بشكل عام ، هو ان الكثير من الأفكار التي كانت سائدة بين الناس قد برهن العلم على أنها غير صحيحة ، كما في مسألة مركزية الأرض للكون ودوران الشمس والكواكب حولها كما كان سائداً في السابق لأفكار ميتافيزيقية ، وكذلك مثلاً مسألة الخفاش الذي كان يظن انه يستخدم أساليب خارقة في تحسسه لطريقه ، قبل ان يثبت العلم بأنه يرسل نبضات صوتية قصيرة عالية التردد تصطدم بالأجسام الأخرى القريبة منه لتنعكس اليه فيستلمها كالرادار، ويستطيع ان يتحرك بكل مهارة متفاديا الاصطدام بالأشياء .
ويرد على هذه النظرة المنكرة للأفكار الميتافيزيقة سواء من قبل العلماء ذوي التوجهات المادية او من قبل علماء النفس والباراسايكلوجيين من وجهين :
الوجه الأول : إن الأفكار والمفاهيم الموروثة القديمة التي نجح العلم في كشف خطأ الكثير منها ، هي في حقيقتها ظواهر (طبيعية ) لا (فوق طبيعية) . وهذا يشكل فارق كبير في المسألة ، فاذا كانت الظاهرة طبيعية لا يستطيع احد ان يزعم التفسير الميتافيزيقي لحدوثها ، وأما الظواهر فوق الطبيعية ، فهي أصلا خارقة لقانون طبيعي وبالتالي فتفسيرها منطقياً لا بد ان يكون ميتافيزيقي .
الوجه الثاني : إن كان العلم الحالي ( الطبيعي او الباراسايكلوجي ) قد نبذ التفسيرات الميتافيزيقية للظواهر الخارقة ، فأنه لم ينجح في الإتيان ببديل مقبول من الناحية العلمية او العقلية ، وهذا يستدعي ضرورة القول بأن نجاح العلم في كشف أخطاء شاعت طويلاً بين الناس بخصوص ما تعرف اليوم بالظواهر الطبيعية ، لا يبرر الدعوى بإنكار التفسيرات الميتافيزيقية لظواهر فوق طبيعة أصلاً .
بعبارة أخرى : إن نزعة ( أنسنة ) جميع الظواهر الخارقة وربطها بتغيرات في وعي الإنسان نزعة ليست بالعلمية التي يعتقدها الكثيرون .
وما دامت هذه النزعة موجودة عند العلماء الذين يبحثون في الظواهر الباراسايكلوجية ، فهذا يجعلهم غير مؤهلين لتفسير الظواهر الخارقة الموجودة في الطريقة الكسنـزانية ، لأن الاختبارات التي أجريت على هذه الظواهر ، تؤكد خطأ جميع النظريات التي تربط بين هذه الظواهر وحالات الوعي الإنساني (القدرات الذاتية للإنسان) .
ويمكن ان يتبين خطأ النظريات الباراسايكلوجية في تفسير الخوارق في الطريقة الكسنـزانية من خلال الأمثلة الآتية :
المثال الأول : نظرية السيطرة على الألم
قدم الطبيب (جيمس هنري) نموذجاً لتفسير قابلية السيطرة على الألم في بعض ظواهر ( الغشية )(6) التي يتعرض فيها الجسم لبعض الأذى المتعمد ، حيث يذهب بافتراضه إلى ان سبب السيطرة على الألم هو حدوث زيادة في مستويات دوران ( الاندروفينات )(7) إلى مستويات يمكن ان تؤدي إلى حالات فقدان الإحساس بالألم . والعامل الذي يفترضه الدكتور هنري يقف وراء ارتفاع نسبة الاندروفين هو الإيحاء والتوقع (8) .
إن المتأمل في هذا التفسير يجد ان نقصاً كبيراً قد وقع فيه الدكتور هنري وغيره من القائلين بهذه النظرية كالطبيب النفسي الهندي (تشاندرا شيكار) ، وهذا النقص يتمثل في الإهمال المتعمد لبقية الخوارق المصاحبة لعملية الضرب في الطريقة الكسنـزانية وهي المناعة ضد النزيف والمناعة ضد الالتهاب والشفاء الخارق الفوري للجروح وإيقاف الآثار المترتبة على التسمم كما ان الاندروفين لا يمنع الاحتراق نتيجة النار أو نتيجة التعرض للصعقات الكهربائية وغيرها من ممارسات مريدي الكسنزان .
فإذا كان هذا التفسير يصلح لتفسير بعض الظواهر الباراسايكلوجية فإنه غير صالح على الإطلاق لتفسير الكرامات ( الخوارق ) في الطريقة الكسنـزانية لأنها تكون دائماً مركبة من عدة خوارق في آن واحد .
المثال الثاني : نظرية الغشية
من النزعات الطاغية عند مفسري الظواهر الباراسايكلوجية هي النزعة التي تفسر حالات الشفاء الخارقة على انها نتيجة لـ (حالة غشية) (9) سببها اشتراك المريدين في حلقات الذكر التي تسبق ممارسة فعاليات الضرب .
وهذه النظرية يسهل دحضها بسهولة لأن المريدين يستطيعون ان يمارسوا هذه الفعاليات بدون ممارسة أي طقس أو شعيرة من شعائر الذكر ، وهذه الممارسة يمكن ان تكون في التكية (10) أو الشارع أو حتى في السيارة ، ومن ناحية ثانية يمكن اختبار حالة الوعي لدى المريدين بسهوله من خلال محاورته في أي موضوع قبل وأثناء وبعد تأدية الفعالية .
فليست الغشية وفقدان حالة الوعي الطبيعية إلى حالة وعي مغايرة هي المسيطرة على حالات الشفاء الخارقة في الطريقة الكسنزانية ، وهذا يسقط زعم آخر من المزاعم التي تعزوا هذه الظواهر إلى قدرات ذاتية خاصة بالمريدين ، بل تثبت العكس وهو ان هناك قدرة ميتافيزيقية تستطيع ان تسيطر على الفعل الخارق دون ان يمس وعي المفعول فيه (المريد) أدنى مساس .
المثال الثالث : نظريات المناعة ضد النار
طرحت نظريات عديدة حول مقاومة النار خصوصاً ظواهر السير على الفحم الساخن ، وسبب تصاعد الاهتمام بهذه الظاهرة هو انتشار ممارستها في أمريكا على يد عدد من منظمي الحفلات الجماعية للسير على الفحم ، يمكن لمن يشاء ان يشارك فيه مقابل مبلغ مالي معين .
وأهم النظريات التي وضعت لتفسير هذه الظاهرة :
– نظرية وضع المرهم العازل على الأقدام قبل السير على الفحم .
– نظرية التعرق الذي يسبب طبقة عازلة تحمي قدم السائر على الفحم .
– نظرية الوزن القليل للجسم الذي لا يسبب ضغطاً كبيراً على الفحم .
– نظرية التعود من الصغر على السير حفاة الأقدام الأمر الذي يجعل الجلد قاس .
– نظرية ان الفحم الساخن لا يخزن حرارة كبيرة وتوصيله ضعيف .
– نظرية تكون بلازما بايلوجية تحمي من الحرق نتيجة حالة وعي خاصة .
– نظرية الغشية أو حالة الوعي المغاير .
– نظرية اعتقاد الشخص بنجاح عملية السير على الفحم حاله حال غيره .
ونظريات أخرى يطول بنا المقام اذا تعرضنا لها بالذكر أو الشرح وجميع هذه النظريات أو الفرضيات التي تحاول تفسير المناعة ضد النار، وبالذات فعالية السير على الفحم الساخن ، لا يوضح مدى الصعوبة التي يواجهها العلماء في تفسير هذه الظواهر فحسب ، ولكن يوضح مدى إصرارهم على وضع تفسير ( طبيعي ) بأي ثمن .
ولا يهمنا هنا من أمر نقض هذه النظريات التي تكفل به بعضهم على البعض الآخر ، بقدر ما يهمنا ان نشير إلى ان فعاليات النار في الطريقة الكسنـزانية تختلف تماماً فهي تتضمن نماذج سبق الإشارة لها من تعريض الوجه والفم واللسان والأيدي وأجزاء أخرى من الجسم ، وليس هذا فحسب بل في بعض الحالات يقوم المريد بتعريض ملابسه لهذه الفعالية فلا تحترق .
ولو تعرضنا لأمثلة أخرى لما وجدنا أي نظرية أو تفسير علمي أو بارسايكلوجي يمكن ان ينطبق أو يفسر أي ظاهرة من ظواهر الشفاء الخارق في الطريقة الكسنـزانية لأن الخلل – في نظرنا – وبكل بساطة يعود إلى ان الأرضية التي ينطلق منها الباراسايكلوجيون في الفهم والتفسير تختلف تمام الاختلاف عن الأرضية التي ينطلق منها الصوفية في الطريقة الكسنـزانية والتي سنبينها بالتفصيل لاحقاً .
وإذا كان اقرب العلوم غير الدينية للظواهر الخارقة هو علم الباراسايكلوجيا قد ظهر عجزه عن تفسير أي ظاهرة من الظواهر الخارقة في الطريقة الكسنـزانية ، فإن باب البحث في مجال العلوم المادية والنفسية قد أغلق – على الأقل لحد الآن – ولهذا نتوجه إلى الباب الثاني صاحب العلاقة بهذه الأمور وهو الجانب الديني لنرى ما يمكن ان يقدمه لهذه الظواهر .
الفكر الإسلامي وتفسيره للخوارق الدينية
من حيث المبدأ ، لا يختلف اثنان في الدين الإسلامي حول مسألة الإيمان بخوارق العادات ، وهي تسمى (معجزات) اذا ظهرت على أيدي الرسل والأنبياء عليه السلام وتسمى (كرامات) اذا ظهرت على أيدي الأولياء .
ويمكن القول بأن جميع العلماء في الدين الإسلامي يمكنهم ان يسوقوا الأدلة على صحة حصول الخوارق الدينية ( المعجزات والكرامات ) لأسباب عقائدية بحته ، ويمكنهم أيضاً ان يبينوا الفوارق بين نوعي هذه الخوارق ، وكذلك الفوارق بينها وبين السحر وغيرها من الظواهر الباراسايكلوجية وكذلك بينها وبين الألعاب السحرية ، وغير ذلك من المباحث في هذا الشأن إلا إنهم في مجال تفسير الكيفية التي تحصل بها هذه الخوارق يقفون صامتين إلا من عبارة واحدة وهي ( ان هذه الخوارق تحصل بقدرة كن فيكون ) وهي إشارة إلى قوله تعالى في القرآن الكريم : (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (11) .
ولهذا فلا يوجد تفسير لخوارق العادات عند علماء الدين الإسلامي لأنهم يعتمدون في فهمهم للدين على العقل ، وهذا العقل اذا كان يمكن ان يحكم بمصداقية حدوث الخوارق أو حتى ضرورتها الدينية فأنه لا يستطيع ان يتجاوز حدود ظاهر الفعل إلى ماهيته ، ولما كانت النصوص الشرعية غير مصرحة بتلك الماهية فأن عقول العلماء تقف عاجزة عن تفسير الكيفية التي تحدث بها تلك الخوارق ، تلك الكيفية التي دعا نبي الله إبراهيم عليه السلام ربه ان يكشف له عنها وان يريه حقيقتها وذلك حين قال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (12) .
الكسنـزان وتفسيرهُ للشفاء غير التقليدي
ان التفسير الذي تقدمه الطريقة الكسنزانية لكشف حقائق الطب الصوفي هو تفسير روحي ، أي ليس مادي أو فلسفي أو نظري .
والتفسير الروحي هو التفسير المأخوذ من نوع معين أو نمط خاص من المعرفة ، لا يشبه بقية الأنماط الفكرية المعتمدة في العلوم المادية أو العلوم العقلية ذات الطابع النظري . وفيما يلي اهم النواحي التي يمكن على أساسها فهم الكيفية التي تحدث بها ظواهر الطب الصوفي الخارق :
المعرفة والقدرة (الخارقة) في المنظور الصوفي يقول حضرة السيد الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره: « التصوف : هو علم معرفة الله سبحانه وتعالى » ، أي العلم الذي يبحث عن الوصول إلى الحقيقة المطلقة التي ليس ورائها حقيقة ، وللوصول إلى هذه المعرفة ينبغي أولاً معرفة النفس الإنسانية ، لأن احد القواعد الثابتة عند الصوفية هو الحديث المشهور (مَنْ عرفَ نفسهُ فقد عرفَ ربهُ) (13) ، وهذا يعني وجود تلازم معرفي من نوع خاص بين الحقيقة المطلقة ( الله ) والحقيقة المقيدة ( النفس ) وهذا التلازم أشار إليه الصوفية كثيراً في مؤلفاتهم حين تحدثوا عن عملية الخلق الأولى وكيف ان الله سبحانه وتعالى أكرم آدم عليه السلام بأن نفخ فيه من روحه ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ)(14) ، فكان الإنسان بتلك النفخة مميزا عن غيره من الكائنات ، وكانت وسيلته للمعرفة الإلهية .
ان المعرفة المشار إليها ليست مجرد معرفة علمية بحتة (معلوماتية) ، بمعنى انها ليست مجرد الوصول إلى معلومات معينة ، فمصطلح المعرفة عند الصوفية ذو أفق صفاتي ، فلن تعرف صفة السمع الإلهي ما لم تتحقق بشيء من صفة السمع الإلهي المطلق عن الحدود والقيود ، وما لم يخرق أمام سمعك حواجز (الزمان والمكان) فتسمع ما لا يسمعه غيرك على بعد المسافة لا تسمى عارفا بالله من حيث صفة السمع ، وكذلك البصر ، والكلام ، والقدرة وبقية الصفات . ويستشهد الصوفية على ذلك بالحديث القدسي الذي يقول فيه الحق تعالى : ( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ) (15) .
ومن ينظر بالله فلا يخفى عنه شيء ، ومن يقدر بالله لا يعجزه شيء ، يقول حضرة السيد الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره « كل علم بعد معرفة الله سبحانه وتعالى سهل وميسور لأن من يعرف الخالق لا يخفى عليه معرفة المخلوق » .
والفكرة ببساطة هي ان الخالق سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء من خلقه وهو قادر على فعل أي شيء في مخلوقاته ، وكما خلق القوانين الطبيعية وحدد قدرات كل مخلوق بحدود معينة ، فجعل كل مخلوق متميز عن المخلوق الآخر بصفات وخصائص معينة ، فهو سبحانه وتعالى قادر على خرق تلك القوانين وإظهار بعض القدرات فوق القوانين الطبيعية على يد من يشاء من خلقه .
ان مصطلح ( الفناء في الله ) هو صفة العبد الذي يصل إلى مرتبة المعرفة والقدرة بالله تعالى ، فمن يفنى في صفات الله تعالى المطلقة يتمكن وقتها من الإطلاع والفعل بالقدرة الإلهية وليس بالقدرات البشرة المحدودة . هذه القدرة الخارقة يسميها حضرة السيد الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره بـ ( القوة الروحية ) ، ومن منطوق العبارة فإن هذه القوة غير مادية ، ولذلك ، لا يبدو من السهولة التحقق منها بالوسائل العلمية المتوفرة ، فإن المنهج العلمي المحدد بالأبعاد الحسية للقياس لا ينسجم مع حقائق البعُد الصوفي ( الروحي ) .
وما يهمنا هنا هو ، معرفة سر الشفاء في الظواهر الخارقة في الطريقة ، ويبدو ان ما يصطلح عليه بـ ( القوة الروحية ) هو الذي يقف وراء كل ذلك .
اذ ان ما يتحكم بالمادة من الناحية الفعلية هي ما تختزنه من قوة ( طاقة ) ذات خصائص وصفات معينة ، وما دام هناك مصدر يمد الأشياء بطاقات فائقة فإن القدرات الخارقة لا بد ان تظهر على تلك الأشياء المادية ، فعلى سبيل المثال ان الجرح الذي يستغرق أكثر من أسبوع لكي يشفى ويلتئم في حالة الاعتماد على القوة الاعتيادية للجسم هو نفسه لا يستغرق سوى ثواني معدودة في حالة القوة الروحية الفائقة ، ولا يتوقف دور القوة الروحية على التدخل في عامل الزمن فقط ، بل في العوامل البايلوجية اذ يمنع الالتهابات والعوارض الجانبية ، وكذلك في العوامل العصبية والنفسية وغيرها .
ولكي يتضح دور ( القوة الروحية ) الفعلي في الطب الصوفي وكيف تستطيع تفسير ظواهر الشفاء الخارق في الطريقة ، نعرض إلى اهم الخصائص التي تتميز بها هذه القوة والتي يمكن ان تجيب على جميع تساؤلات العلماء حول هذا النوع من الطب .
خصائص القوة الروحية وصفاتها
يرى حضرة الشيخ محمد الكسنزان قدس الله سره : ان حالة الشفاء الفوري الخارق تحصل للمريد عندما يقوم بممارسة فعاليات الدروشة ، وذلك نتيجة لانتقال قوة روحية خاصة ( فوق طبيعية أو ذات بُعد آخر ) من شيخ الطريقة إلى المريد لحظة قيامه بالفعاليات أو عندما يرى الشيخ ضرورة لذلك .
وأهم هذه الخصائص لهذه القوة :
1. إنها قوة روحية ( طاقة لا مادية) ، أي لا يمكن تلّمس حقيقتها بالحواس أو الأجهزة المختبرية ، بخلاف أثارها الشفائية الخارقة على الجسد التي يمكن متابعة التئامها الخارق أو مقاومتها الخارقة .
2. هذه القوة الروحية واحدة في ذاتها متعددة في خصائصها الشفائية ، أي أن جميع أنواع الفعاليات تعالجها قوة روحية واحدة ، أو الطاقة الشفائية الخاصة نفسها .
3. انها قوة روحية خارجية وليست ذاتية ، بمعنى إنها تأتي للمريد من خارج جسمه لتؤدي أثرها الخارق فيه .
4. هذه القوة مسيطر عليها من قبل شيخ الطريقة الحاضر بنسبة 100% ، فهي ليست كالعقاقير الطبية التي يمكن ان تضر اذا زادت عن الحد أو لا تنفع اذا كانت قليلة أو لها أعراض جانبية فهي قوة كاملة متكاملة تؤدي دورها الشفائي الخارق دون زيادة أو نقصان أو أعراض .
5. تتحقق السيطرة المطلقة على هذه القوة من قبل شيخ الطريقة الحاضر قبل إيصالها إلى المريد وبعد وصولها له ، وذلك لأنها لا تنفصل عن شيخ الطريقة بل تبقى متصلة به ، والأمر أشبه بالضوء الذي يسقط على جدار ، فالنقطة الضوئية الظاهرة على الجدار غير منفصلة عن مصدر الضوء ، لأن الأشعة الضوئية تمتد من ذلك المصدر باستمرار وهكذا القوة الروحية بين شيخ الطريقة والمريد .
6. وبما إنها قوة غير مادية فعاملي الزمان والمكان لا يؤثران فيها من قريب أو بعيد . أي ان انتقالها لا يحتاج إلى وقت ولا يؤثر فيه بعد المسافات .
7. وكذلك لا يؤثر في هذه القوة كون الشيخ مستيقظاً أو نائماً لأنها غير محكومة بعوامل طبيعية بل بعوامل فوقية متعالية . ومعنى ذلك إن الشيخ اذا كان نائماً ( من الناحية الجسمية طبعاً ) فإنه من الناحية الروحية لا ينام ، وذلك لأن روحه الطاهرة فانية في نور الله تعالى ، والحق تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم ، وبالتالي فإن الجانب الروحي المتعالي دائم الحضور في كل مكان وزمان .
وهذه النقطة بالتحديد تنفي تهمة الشرك ( تعدد الآلهة ) عن مشايخ الطريقة التي قد يحاول البعض ان يصبغهم بلونها ، لأنهم يقولون : ان القوة لله وحده ، وهو سبحانه يصل من يشاء من عباده ( الأنبياء والأولياء ) روحياً وليس مادياً (حسياً) وما يفعله العبد كله بحول الله ورضاه وقوته ، وليس أدل على بيان هذه الصلة من قوله تعالى : (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى )(16) فمن الناحية الحسية الجسمية الفعل الخارق للعبد ( النبي أو الولي ) ومن الناحية الروحية الفعل لله سبحانه وتعالى .
ان الخصائص والصفات التي تتضمنها القوة الروحية من شأنها ان تعطي تفسيراً شاملاً لأي سؤال عن الطب والشفاء الصوفي ، كما ان من شأنها ان تبطل أي افتراض علمي أو فلسفي أو فكري لا ينطبق أو ينسجم معها .
ماهية القوة الروحية
ذكرنا عدداً من الخصائص والصفات التي تتميز بها (القوة الروحية) التي يعدها شيخ الطريقة السبب الحقيقي وراء جميع الخوارق التي تظهر في الطريقة بما فيها ظواهر الشفاء الخارق . ولكن ما هي طبيعة هذه القوة وما هي حقيقتها ؟
بداية ، حتى العلم الحديث لم يستطيع ان يصل إلى ماهية الطاقة أو حقيقتها الذاتية ، ومعظم ما وصلت إليه العلوم المادية بني على نظريات وفرضيات لا يزال عدد كبير منها غير ثابت من الناحية العملية ، فمن رأى ماهية الطاقة أو الكهرباء أو الجاذبية أو غيرها ؟
واذا كان النظام الذري يفترض ان أصل الأشياء يرجع إلى ذرات تتكون من شحنات سالبة وموجبة ومعتدلة ، فإن الاكتشافات العلمية المتأخرة أثبتت ان ذلك غير صحيح، وان هناك جسيمات اصغر من الذرة بكثير، لا يمكن ان تنطبق عليها أي نظرية أو قانون فيزيائي، ووقع العلم في إشكالية كيف تحدث الظواهر المنتظمة اذا كان البناء الجوهري للمادة غير مستقر أو غير ثابت على حالة أو نمط معين ، حتى تبلورت في العقد الأخير نظرية سميت بنظرية (الأوتار الفائقة) حاولت ان تربط بين تغيرات جوهر المادة وسكون ظاهرها عن طريق التموج (17) .
ولو سألنا علماء الفيزياء ، عن هذه الأوتار وهل رأوها بأجهزتهم أو رأوا تموجاتها الفائقة لكانت الإجابة بالنفي ، وما حصل انهم افترضوها لترفع لهم تناقض بين طبيعة المادة أو جوهرها الذاتي وبين ما يحصل بالفعل .
فإذا كانت المادة الملموسة المدركة بالحواس لا يمكن تحديد ماهيتها، فكيف يكون الحال مع قوة يقول عنها المختصين بها (مشايخ الطريقة) لا مادية ، ويصفوها بأنها (روحية) ؟!!
لا شك ان السؤال عن ذلك ، والبحث فيه يعد من الناحية العقلية ضرباً من العبث ، ومع هذا فحضرة الشيخ محمد الكسنزان يؤكد أن هذه المعرفة المطلوبة بماهية القوة الروحية يمكن الوصول إليها والتعرف على حقيقتها ، ولكن روحياً وليس عن طريق العقل أو الحواس أو الأجهزة العلمية ، بل من خلال سلوك نهج الطريقة الذي يستطيع ان ينقل السالك من المعرفة الحسية إلى نوع آخر من المعرفة تسمى (المعرفة الكشفية) ، وهي معرفة لا تعتمد على معطيات المادة بل على ما يكشفه أو يفيضه العالم الروحي لروح المكاشف من معارف ومعلومات ، حيث يجد العارف في ذاته حقائقها ، ولا يستطيع ان يعبر عنها بشيء من اللغة التقليدية ، لأن معطياتها من عالم آخر مغاير تماماً لمعطيات عالمنا المادي هذا . إذاً ، ما يخبرنا به حضرة الشيخ محمد الكسنزان قدس الله سره حول ماهية القوة الروحية شيئان :
1. لا يمكن قياس اللامادي على المادي ، أي لا يمكن معرفة القضايا الروحية بالطرق التقليدية .
2. ليس من المحال معرفة الحقيقة الذاتية للقوة الروحية ، ولكن هذه المعرفة تكون فردية ، ويشترط فيها سلوك منهج الطريقة المتخصص في هذا المجال .
مصدر القوة الروحية
ينطلق التصوف الإسلامي بشكل عام والطريقة الكسنـزانية بشكل خاص في تعامله مع قضية الخوارق (معجزات أو كرامات) من نظرة خاصة للكون والإنسان والحياة وما ورائهما من عوالم لا مادية تنتهي بالمطلق الذي ليس بعده بعد .
هذه النظرة تختلف بطبيعة الحال عن النظريات السائدة في العلوم والفلسفات المادية كلها ، لأنها لا تتوقف عند حدود المادة فقط ، بل تتجاوزها لتتعامل مع بُعد آخر يعتبره الصوفية كخيط متصل في نسيج الوجود المادي كله ..ذلك البعد يمثل وعياً مفارقاً للمادة – اذا جاز التعبير – وهو وافد لعالمنا من عالم آخر ، أي هو وعي مجرد متعالي كشكل من أشكال الطاقة يمكنه المرور عبر ثقب اسود ليتواصل بواسطته المادي واللامادي ..
وليست القوة الروحية الا نمط من أنماط هذا التواصل ، ولكنها تتميز بصفة الفائقية على أمثالها في الظواهر الطبيعة .
فالقوة الروحية عند شيخ الطريقة الحاضر تعود إلى بُعد آخر في الوجود أو عالم آخر أوسع من هذا العالم المادي المحسوس لدرجة ان الكون كله يسبح في فضاء ذلك العالم كالذرة أو اصغر ..إن العالم الواسع الذي يحيط بالعالم المادي ويهيمن عليه ، بل ويتخلله هو عالم روحي يسميه حضرة الشيخ محمد الكسنزان قدس الله سره : الحقيقة النورانية المحمدية و تلك الحقيقة هي نور مطلق يستمد وجوده من ذات الله سبحانه وتعالى ويمد بوجوده العوالم والموجودات . أي هو الوسيط النوراني بين القديم ( الله ) والحادث ( المادة )(18) .
وعلى هذا يمكن القول ان مراتب الوجود من حيث الترتيب النظري ثلاثة :
الأولى : الله سبحانه وتعالى .
الثانية : النور المحمدي ( واسطة القوة الروحية ) .
الثالثة : العوالم المخلوقة .
وحسب رأينا في الطريقة ان الواسطة الروحية التي تربط بين الخالق والمخلوق هو النور المحمدي ، والمقصود به الجانب الروحي لحضرة الرسول الأعظم محمد ، لأنه في العقائد الإسلامية والصوفية ليس كغيره من الأنبياء والمرسلين من حيث الجوهر(التكوين الذاتي) وإن كان كذلك من حيث المظهر ( التكوين الجسماني ) ، فكل الناس لآدم وآدم من تراب ، إلا الرسول محمد ، أظهره الله تعالى من نوره الكريم ، فقال واصفاً ذلك : ( قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) (19) .
فحضرة الرسول الأعظم من الناحية الروحية نور خالد غير منته ، حاضر بين الناس في كل زمان ومكان من خلال الأنبياء والمرسلين قبل ظهوره الحسي ومن خلال القرآن الكريم ومشايخ الطريقة بعد انتقاله إلى العالم الآخر .
لقد أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء والمرسلين ليرشدوا الناس إلى الطريق الذي بواسطته تنفتح بصائرهم على الجانب الآخر من الحياة وهو الجانب الروحي ، فكان من الطبيعي ان يمد رسله وأنبيائه بشيء غير تقليدي من القوة الروحية ليرى الناس ان وراء معرفتهم معرفة أخرى ، ووراء ماديتهم أبعاد أوسع لا يستطيعون التحقق بها أو منها إلا بواسطة سلوك الطريق الخاص الموصل لها .
هنا ومن مرتبة الوسطية بين الخالق والمخلوق ، من مرتبة نورانية عليا ، من مرتبة الوصف القائم بنور الله تعالى ، من مرتبة بين الموحي والموحى اليه ، من مرتبة الرسالة بين المرسِل والمرسَل إليه ، ومن مرتبة الحكمة ، تنزلت قوة روحية فوق القوة الطبيعية المعروف في الوسط المادي لتنبه على ان هناك وراء العالم المادي المحسوس عالما آخر ، ينبغي للإنسان ان يتلمس سبل معرفته والبحث فيه ، فظهرت تلك القوة بهيئة المعجزات للأنبياء والكرامات للأولياء .
اذاً المصدر الحقيقي للقوة الروحية في الطريقة الكسنزانية هو النور المحمدي وهو امتداد لصفة النور الإلهي ، ومن خلال هذا النور تتنزل كل القدرات والطاقات والمعارف والإلهامات والإمكانات لمشايخ الطريقة قدس الله أسرارهم . ولعل مسألة فناء الشيخ في الله تعالى صارت واضحة بأنها لا تختلف في شيء عن الفناء في النور المحمدي ، إذ ان النور المحمدي هو صفة النور الإلهي ، وشيخ الطريقة الحاضر يستمد نورانيته وقوته الروحية من هذا النور الأزلي ، ويمد بإذن الله تعالى مريدي الطريقة بما يحتاجون اليه في إرشادهم وفعالياتهم .
المريد وانتقال القوة الروحية
يمكن توضيح آلية الربط الروحي بين الشيخ والمريد ، والكيفية التي يتم بها انتقال القوة الروحية من الشيخ الحاضر إلى المريد لغرض العلاج الخارق بالنقاط الآتية :
1- تحدث حالة الشفاء الخارق بعد ان يرتبط المريد بشيخه روحياً.
2- الارتباط بالشيخ يكون عن طريق (المبايعة) وهي طقس مقدس يسميه حضرة الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره اللمسة الروحية وهي ان يصافح المريد الشيخ يد بيد ويردد كلمات يتعهد فيها بأنه يقبل الارتباط بشيخ الطريقة من ناحيتين :
الظاهرية وذلك بأن يسير على المنهج الصوفي الذي يختاره شيخ الطريقة من نوافل العبادات كالأذكار والأوراد والرياضات وغيرها .
ومن الناحية الروحية بأن تخضع روح المريد لروح الشيخ التي تستطيع وقتها ان تؤثر على باطن المريد .
3- أول أسرار خوارق العادات تبدأ من لحظة المصافحة هذه وقبول اللمسة الروحية ، فالمبايعة في الطريقة ليست مجرد مصافحة وكلمات يتم ترديدها بشكل مجرد ، بل ان شيئاً روحياً يسمى ( نور الطريقة ) ينتقل أثناء المصافحة من يد الشيخ إلى يد المريد ، ومنها يستقر في قلبه .
4- هذا النور (نور الطريقة) الذي ينتقل إلى قلب المريد يصبح بعد انتهاء طقس المبايعة كمحطة أو مركز لاستقطاب القوة الروحية من شيخ الطريقة فيما بعد .
5 – على المريد ان يقوي هذا المركز ويوسع من قاعدته في قلبه من خلال إتباعه لمنهج الطريقة التعبدي الذي يضعه الشيخ ، اذ ان باطن جميع الأذكار والعبادات في فكر الطريقة الكسنـزانية هو عبارة عن أنوار ربانية .
6- من ناحية ثانية يقوم شيخ الطريقة بمد ذلك المركز النوراني الذي استقر في قلب المريد بالقوة الروحية التي يحتاجها وحسب قابلية المريد واستعداده .
7 – هذا الرابط النوراني بين الشيخ والمريد قضية روحية ليس لها أي علاقة لا بالزمان ولا بالمكان ، لأن الزمان والمكان حقيقتان ترتبطان بالجانب المادي في الوجود ، بينما نور الطريقة ، حقيقة روحية ترتبط بالجانب اللامادي ، ولهذا فلا تنطبق على علاقة الشيخ بالمريد من الناحية الروحية القوانين الطبيعية بشكل عام .
8 – الارتباط الروحي بين الشيخ والمريد ارتباط دائم متصل غير منفصل من لحظة اخذ البيعة والى ما لا نهاية .
وبالتأكيد أن نور الطريقة الذي انتقل إلى المريد هو امتداد للنور المحمدي الذي انتقل إلى الشيخ من شيخه والذي أخذه عن الشيخ الذي قبله والى الزمن الذي كان فيه الرسول محمد ظاهراً من الناحية الجسمية .
أي ان النور المحمدي قبل ان ينتقل إلى العالم الآخر أبقى هذه الصلة الروحية بواسطة إعطاءه الطريقة لخليفته الروحي الأول باب مدينة العلم المحمدي الإمام علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه واستمرت تنتقل من ذلك الزمان إلى يوم الناس هذا . فالفترة التي ظهر فيها حضرة الرسول الأعظم محمد حددت مصير صلة العالم الروحي بالعالم المادي ، فختمت به النبوات والمعجزات وفتح به باب الولايات الكرامات .
هذه هي خلاصة التفسير الصوفي لظواهر الشفاء الخارق أو ( نظرية الطب الصوفي الخارق ) ، وهذه هي آليات حدوث خوارق العادات فيها ، وما يثبت هذه النصوص كلها من الناحية العلمية ، هو قبول العلم الحديث للتحدي أو العرض الذي يتقدم به الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره لإثبات القدرات الروحية الخارقة التي تمتلكها الطريقة الكسنزانية ، فإن أقرَّ العلم التجريبي صحة هذه الظواهر فلا مناص له وقتها من القبول بالتفسيرات الخاصة لها لأنها في الأصل قدرات روحية وبالتالي فتفسيرها تفسير روحي .
ولكن هل قدرة الشفاء الخارقة في الطريقة الكسنـزانية متوقفة على هذه الفعاليات وحسب أم أن لها قدرات شفائية خارقة من نوع آخر ؟
الحقيقة إن آفاق الطب الصوفي في الطريقة الكسنـزانية واسعة ومتعددة ، تمتد لتشمل الأمراض العضوية والنفسية والأخلاقية ، ولهذا يجدر دراستها بشيء من التفصيل .
الهوامش:
[1] – أبكار سقاف – الدين عند الرومان والأغريق والمسيحية – سلسلة نحو آفاق أوسع – ص 84 .
[2] – المصدر نفسه – ص 84 .
[3] – المصدر نفسه – ص 84 .
[4] – palmer 1986:33 .
[5] – سامي احمد الموصلي – الباراسايكلوجيا ظواهر وتفسيرات – ص 33 .
[6] – الغشية : حالة بديلة من التركيز الداخلي على عدد محدود من المثيرات – www.bintnet.com
[7] – اندروفين : هو الاسم الذي يطلق على أي مجموعة من مركبات كيمياوية تتكون طبيعياً في الدماغ وذات ميزة مخففة للألم كالأفيونات .
[8] – Henry، J، L، (1982)، Possible Involement of Endorphins in Altered States of Consciousness ، Ethos، 10(4)، 394 – 480 .
[9] – الغشية : وهي حالة يتركز فيها انتباهك على أفكارك ومشاعرك الداخلية بدلا من تركزه على العالم المباشر المحيط بك مثلما يحدث في أحلام اليقضة – www.rwabi.net
[10] – التكية : هي بناء خاص بالصوفية ، ينـزلونها من أجل التعبد ، وممارسة الشعائر الصوفية والرياضات الروحية برئاسة شيخ يرعى شؤون المريدين – د . يوسف فرحات – المساجد التاريخية الكبرى – ص 138.
[11] – النحل : 40 .
[12] – البقرة : 260 .
[13] – عبد الرؤوف المناوي – فيض القدير شرح الجامع الصغير – ج 5 ص 50 .
[14] – الحجر : 28 – 29 .
[15] – أخرجه البخاري ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ ، كتاب التهجد ، باب صلاة النوافل جماعة ، رقم 6502 .
[16] – الأنفال : 17 .
[17] – أنظر : بول ديفيس – جوليان براون – الأوتار الفائقة نظرية كل شيء – سنة 1997 .
[18] – أنظر :
– الشيخ محمد الكسنـزان – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية – ص 11-20 .
– شرح الشيخ عبد الرزاق القاشاني على فصوص الحكم للشيخ محي الدين ابن عربي – المطبعة الميمنية ، مصر 1321 هـ – ص 266 – 267 .
[19] – المائدة : 15 .
المصدر : من كتاب خوارق الشفاء الصوفي والطب الحديث – أ .د . الشيخ نهرو الشيخ محمد الكسنزان الحسني .