إن السبحة هي وسيلة من وسائل العبادة ، وهي من المنشّطات عليها ، والمشجّعة على التفاني فيها والاستغراق في بحورها ، إنها المذكرة التي تطرد النسيان عن حاملها ، وتدفعه إلى العمل بها وتساعده عل بناء سد بينه وبين الغفلة والركون للدعة ، هي التي وصل بها رجال إلى حضرات أسرار الجمال ، فسهروا بها الليالي وقطعوا بها مفازات البعد عن الله ، هي الوسيلة التي بها تدرك المقاصد وتنال الدرجات العليا ، هي مفتاح من مفاتيح النور الذي به تتبدد ظلمات القلب ويكشف الغطاء عن الفرد . ولهذا فقد اهتم المسلمون بها وكرموها وأظهروا حبهم لها وإنشأوا في مدحها القصائد .
لقد كانت السبحة وما زالت عند صفوة الخلق رمزاً للمعاني السامية التي من أجلها خلق الإنسان ولأجلها ارتفعت مكانته وسما قدره على سائر المخلوقات ، فحب الصالحين للسبحة هو حب للمعاني السامية التي ترمز إليها والغاية القصوى التي إليها تقود . وإن نعجب ، فعجب قولهم أَنها بدعة ، والعمل على تنفير الناس منها .
فلكل ما تقدم رأينا أن نذكر هذا البحث الموجز ، والله ولي التوفيق .
تعريف السبحة
السبحة أو المسبحة : خرزات منظومة في سلك للصلاة والتسبيح (1)، ويبدو أن العرب لم تكن تعرفها قبل الصدر الأول من الإسلام وهي إعانة للذاكر ، وتذكير له ، وتنشيط كما قال صاحب التعليقات على هامش القاموس المحيط (2)
السبحة في العصر الأول وإنواعها
عرف المسلمون عبر تأريخهم أنواعاً مختلفة من العد في العبادة كانت تتطور وتتحسن وتتيسر بمرور الزمن ، على أن الإسم الاصطلاحي الذي كان ينتضمها جميعاً هو السبحة أو المسبحة .
وفي ما يلي نبذة عن أنواعها ومراحل تطورها بالأدلة الشرعية الصحيحة .
التسبيح بالنوى والنوى المجزع
« أخرج أحمد في زوائد الزهد عن القاسم بن عبد الرحمن قال : كان لأبي الدرداء نوى من نوى العجوة في كيس ، فكان إذا صلى الغداة أخرجهن واحدة واحدة يسبح بهن حتى ينفذهن » (3) كما روي ذلك عن أبي هريرة وعن صفية قالت دخل علي رسول الله ﷺ وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها فقال لقد سبحت بهذا ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به فقالت علمني فقال قولي سبحان الله عدد خلقه (4) ، وأما أبو هريرة فإننا إذا ضممنا كل الروايات عنه أمكننا أن نقول : إن عدد النوى الذي كان يسبح به ألفى نواة .
وعلى كلٍّ ، فقد تطور استعمال النوى المذكورة إلى النوى المجزع ( فبدلاً من أن يستعمل بلونه الطبيعي كما كان الحال أولاً بدأ البعض يحسن شكله فيحك بعضه ببعض حتى يبيض لونه ، وقد سمي هذا النوع المحسن بالنوى المجزع وحيث أن كلمة مجزع يرجع أصلها إلى كلمة (جزع ) … وكلاهما يعنيان الخرز اليماني الصيني الذي فيه سواد وبياض(5) وقد أدى هذا التشابه في أصل الكلمة إلى أن يتطور النوى المجزع إلى الجزع (وهو الخرز ) ، وكان ذلك بداية استعمال السـبحة بشـكلها الحـالي (6) ، وكان أول من استخدم النوى المجزع أبو هريرة فيما أخرجه ابن سعد عنه .
التسبيح بالحصى
يذكر السيوطي عدة شواهد على تسبيح الصحابة بالحصى ومنها قوله : « في جزء هلال الحفار ومعجم الصحابة للبغوي وتاريخ ابن عساكر من طريق معتمد عن أبي بن كعب … عن أبي صفية مولى النبي أنه كان يوضع له نطع ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار ثم يرفع ، فـإذا صلى الأولى أتي به فيسـبح به حتى يمسي »(7) .
ويقول : « أخرج الإمام أحمد في الزهد … عن يونس بن عبيد عن أمه قالت : رأيت أبا صفية رجلا من أصحاب النبي وكان جارنا ، قالت : فكان يسبح بالحصى »(8)
وقد ورد بذلك روايات عن أبي هريرة وأبي صفية وأبي سعيد الخدري وسعد بن أبي وقاص وغيرهم )(9) .
هذا وقد تطور هذا النوع من الحصى فيما بعد إلى ما عرف بـ ( اليسر) ، ( الكهرمان ) ، (الكوك ) وغيرها وكلها أحجار كريمة فيها جمال الشكل واللون بالإضافة إلى أنها وسيلة للعبادة .
التسبيح بالخيط المعقود
وكان الصحابة يسبحون سابقاً بالخيط المعقود ، وقد وردت بذلك عدة روايات منها ما روي عن السيدة فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) أنها كانت تسبح بخيط معقود (10) .
ويقول السيوطي : اتخذ السبحة سادات يشار إليهم ويعتمد عليهم ، كأبي هريرة كان له خيط فيه ألف عقدة وكان لا ينام حتى يسبح به اثني عشر تسبيحة ، قاله عكرمة (11) . ووردت عن أبي هريرة رواية أخرى نصها : « كان أبو هريرة قد ربط في خيط خمس مائة عقدة ويسبح بها بين يديه وأقره على ذلك »(12) .
أضف إلى ما تقدم أن هناك رواية ثالثة عن أبي هريرة لم يذكر فيها نوع أداة العد في العبادة وإنما أشير إلى ذلك إشارة عامة فقالوا : « كان يسبح في اليوم ما يزيد على الألف ويقول : أسبِّح بقدر ذنوبي »(13) .
هذا وكثرت الروايات الواردة عن أبي هريرة تؤكد لنا أنه كان له أكثر من سبحة وأكثر من نوع وأنه كان يحمل بعض الأنواع الخفيفة معه إلى خارج منـزله بينما يسبح بالكبيرة داخل منـزله .
السبحة في العصور المتأخرة وإنواعها
طرأت تحسينات كثيرة على السبحة وإنواعها في العصور المتأخرة فبعد أن بدأت أولا في صورة نوى أو حصى يجمع أو خيط يعقد فقد حسنوا فيما بعد شكل النوى الطبيعي إلى نوع خاص عرف بالنوى المجزع كما ذكرنا ، ثم قادهم التفكير في النوى المجزع إلى الجزع فصنعوا الخرز اليماني الصيني ونظموه في خيط يسهل به تحريك حبات الخرز بدلا عن الخيط المعقود بعقود ثابتة لا يمكن تحريكها وإنتقل هذا النوع من الصناعة إلى الأمم الإسلامية المتباينة في عاداتها المختلفة وفي نوع أشجارها وأحجارها فطورت كل أمة صناعة سبحها بما يلائم بيئتها ويتفق ومزاج وأعراف مجتمعها فظهر انواع كثيرة من السبح أهمها :
سبحة الصندل ، سبحة البقس ، سبحة الزيتون ، سبحة الكوك ( وهو شجر يستخرج من البحر ) ، سبحة اليسر ، سبحة العبك ، سبحة الفضيلة ، سبحة الطبخ ، سبحة الكهرمان ، سبحة سن الفيل ، سبحة نورالصباح ، سبحة الخشب ، سبحة العود ، سبحة نوى البلح ، سبحة الصدف ، وغيرها .
نوع معاصر من السبح
اتخذ بعض مريدي طريقتنا الكسنـزانية في العصر الحاضر وسيلة جديدة لعد تسابيح الطريقة وأورادها ، ويمكن أن نصنف هذه الوسيلة ضمن مادة السبح ، لأنها تؤدي الوظيفة نفسها والفائدة وهي العداد الميكانيكي أو العداد الإلكتروني حيث يستخدمها المريدون ليسهل عليهم حساب الأوراد التي هي مئات الآلاف كما هو معروف في أورادنا .
تعليق السبحة على الأعناق ودلالتها
من مظاهر الاهتمام بالسبحة ودلالتها على التقيد بالعبادة ، ذهب البعض إلى تقلدها وتعليقها في عنقه فكانت لهم شعاراً مستدلين في ذلك على قوله تعالى : ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لنّاسِ والشَّهْرَ الْحَرامَ والْهَدْيَ والْقَلائِد )(14) ، فكانت لهم رمزاً وحرزاً تمنعهم من ارتكاب الآثام أو التعرض إلى أحد بسوء ، ورأوا أيضاً أن ذلك ، أحفظ لها من اليد لما قد تتعرض له اليد من تلوث ، أي حرصاً منهم على طهارة آلة الذكر .
وذهبوا إلى أن الشارع أباح تعليق آلة الجهاد الأصغر كالسيف على العنق ، فإن اباحته لحمل آلة الجهاد الأكبر وهي السبحة يكون من باب أولى (15) .
تعليق السبح في السقف
يروى أنه كان لبعض علماء فاس سبحة عظيمة جداً بحيث يعلقها في سقف الخلوة تعظيماً لها وتحفظاً عليها لكونها آلة يستعان بها في الجهاد الأكبر .
ومما يروى أن السقف المعلقة فيه كان عالياً في الجملة وكانت السبحة معلقة فيه تصل إلى الأرض ويستعملها صاحبها على تلك الحالة ، وقد جعل لها جرارة ليسهل دورانها فيها(16)
التبرك والاستشفاء بالسبحة
« روي أن الشيخ عبد السلام بن مشيش كانت له سبحة عظيمة جداً وكان يسبح بها إلى أن مات وأحتفظ بها أبناؤه من بعده ، وكانوا يتبركون بها ويستشفون بها من أمراضهم » (17) وجاء في المنن الكبرى للشعراني أنه وقعت رجله ذات مرة على السبحة فكاد يهلك إكراماً لها .
السبحة وكرامات الأولياء
ذكر السيوطي أنه كان لأبي مسلم الخولاني رحمة الله عليه سبحة فنام ليلة والسبحة في يده . قال فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وجعلت تسبح فالتفت أبو مسلم والسبحة تدور على ذراعه وهي تقول : سبحانك يا دائم الثبات ويا منبت النبات قال : هلمي يا أم مسلم فانظري إلى أعجب الأعاجيب قال : فجاءت أم مسلم والسبحة تدور وتسبح فلما جلست سكنت .
وذكر أبو القاسم هيبة الله بن الحسن الطبري في كتاب كرامات الأولياء ، وقال الشيخ الإمام العارف عمر البزاز : كانت سبحة الشيخ أبو الوفا … التي أعطاها السيد الشيخ محيي الدين عبد القادر الكيلاني إذا وضعها على الأرض تدور وحدها حبة حبة … وقد أخبرني من أثق بقوله أنه كان مع قافلة في درب المقدس فقام عليهم سرية عرب وجردوا القافلة وجدوني معهم فلما أخذوا عمامتي سقطت سبحة من رأسي فلما رأوها قالوا : هذا صاحب سبحة فردوا علي ما كان مني وإنصرفت سالما منهم . فانظر يا أخي إلى هذه الآلة المباركة الزاهرة وما جمع فيها من خير الدنيا والآخرة (18) .
وورد أن أحمد الكعكي كانت له سبحة فيها ألف حبة كبار ، يقول الإمام الشعراني : « وما رأيت سبحة أنور منها تكاد تضيء من النور من كثرة الأوراد » (19) .
الهوامش :
[1] المنجد في اللغة والأعلام : 317 .
[2] القاموس المحيط – ج1 – ص226 .
[3] المباركفوري – تحفة الأحوذي – ج 8 – ص 386 / وَقَدْ سَاقَ السُّيُوطِيُّ آثَارًا فِي الْجُزْءِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمِنْحَةُ فِي السُّبْحَةِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ كِتَابِهِ الْمَجْمُوعِ فِي الْفَتَاوَى وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَا مِنْ الْخَلَفِ الْمَنْعُ مِنْ جَوَازِ عَدِّ الذِّكْرِ بِالسُّبْحَةِ بَلْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ يَعُدُّونَهُ بِهَا وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا .
[4]الشوكاني _ نيل الأوطار ج: 2 ص: 358/ الحديث اخرجه الترمذي وأخرجه أيضا الحاكم وصححه السيوطي
[5] الفيروز آباذي – القاموس المحيط فصل الجيم – باب العين .
[6] د. حسن الشيخ الفاتح – السبحة مشروعيتها.. أدلتها – ص53 .
[7] المباركفوري – تحفة الأحوذي – ج 8 – ص 386 وذكره الامام احمد في الزهد ، وورد في شعب الإيمان لابي بكر البيهقي _ ج: 1- ص 460 برقم 723 وذكره الشيخ جلال الدين السيوطي في مخطوطة المنحة في السبحة – ص2- 3 .
[8] يوسف بن عبد البر_الاستيعاب ج: 4 ص: 1693 برقم 3048 ، محمد بن سعد الزهري /الطبقات الكبرى ج: 7 ص : 60، معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني – ج 20 – ص 258
[9] الشيخ جلال الدين السيوطي – مخطوطة المنحة في السبحة – ص140 –141 .
[10] المباركفوري- تحفة الأحوذي – ج8 ص386 ، وذكره السيوطي في المنحة – ص140.
[11] المباركفوري – تحفة الأحوذي – ج 8 – ص 386 وصححه الامام احمد بن حجر العسقلاني في الإصابة ج: 7 ص: 442 وذكره السيوطي في المنحة في السبحة – ص5 .
[12] الشيخ فتح الله بن ابي بكر البناني – تحفة اهل الفتوحات والاذواق في اتخاذ السبحة وجعلها في الاعناق – ص17 .
[13] المصدر نفسه – ص4 .
[14] المائدة : 97 .
[15] الشيخ فتح الله بن ابي بكر البناني – تحفة اهل الفتوحات والاذواق في اتخاذ السبحة وجعلها في الاعناق – ص 8 .
[16] المصدر نفسه – ص 5 .
[17] الشيخ فتح الله بن ابي بكر البناني – تحفة اهل الفتوحات والاذواق في اتخاذ السبحة وجعلها في الاعناق – ص 18 .
[18] الشيخ جلال الدين السيوطي – مخطوطة المنحة في السبحة – ص 6-9 .
[19] الشيخ فتح الله بن ابي بكر البناني – تحفة اهل الفتوحات والاذواق في اتخاذ السبحة وجعلها في الاعناق – ص18 .
المصدر:السيد الشيخ محمد الكسنزان – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان ج11 مادة (س ب ح).