ابراهيم الوراق
ما لابد منه
إنني سأدلي بدلوي في هذا الموضوع الشائك من وجهة صوفية، وسأحاول أن أقف وقفات مع مجموعة من قضايا الحوار الديني والحضاري والثقافي فيما بين مكونات الثقافة الإسلامية وغيرها، وسأبين كثيرا من المواقف الرائعة التي تؤكد قيمة وجود هذه القيم الكبرى عند الصوفية الذين يعتبرون في تقدير البعض سكانا من الدرجة الثانية، أو أقليات تعيش على هامش الأحداث المتأججة في عالمنا المعاصر.. والسبب الكامن من وراء هذا، أنني نظرت بعين قلبي إلى أهيل الدين، فوجدت تفاوتا فيما بين النص المؤسس، وراهنية الحال، فتذكرت أنني مطالب باستكشاف السر المغروس في تفاصيل التجربة، فشمرت عن ساق البحث حتى تعرفت على ما وراء الأكمة، وحينها حصل المراد، وظهر القصد، ثم عن لي أن أخاطب نفسي بحديث الروح، ووحي العقل، فخاطبتها بلغة لا تجيد سواها، وإشارات لا تقوم الدلالة بالبيان مقامها، لكنها وإن شاغبت بالتطاول، فالحياة قد أحيت فروع الكلام بداخلها، وأهاجت كل إحساس يرنوا مني إلى غيرها، وأنبتت في قلبي ورودا بدت لغيري ذابلة، وأزهارا ترمقها عيون العجلى يابسة، وأنا أعاينها لحظة من لطف الله الخفي، وحين تمددت الأفكار في المقالين الأولين(جذور التصوف، وأهمية التصوف)، هام مني القصد إلى أن أبين وجهة نظر صوفية في أمر تعجلته الأقلام بالكتابة، وتواترته الأفواه بالأحدوثة، وتناولته بالكلام، حتى عد من مواضيع الساعة. والله المقصود.
بارقة
إن العالم يعيش صراعا محتدما فيما بين القوى القوية المتدافعة على الاستيلاء والهيمنة العالمية، وبين القوى الضعيفة التي تريد الإبقاء على خصوصياتها وهوياتها المحلية، والتاريخ المؤسس اليوم، يشهد عراكا حادا بين ثقافات مستبدة تستغل التطور العلمي لفرض سيطرتها، وبين ثقافات إقليمية لم يكتب لها أن تهب من رقدتها، وأن تنفض غبار العجز والكساد عنها، وهذا الصراع المحتد فيما بين الشرق والغرب، أو فيما بين الإسلام والغرب، أو فيما بين الهلال والصليب، أو فيما الكنيسة والمسجد، هو جزء من تاريخ متعفن يرخي بظلاله على أفئدة كثير من صاغة الفكر والسياسة لدى الإتجاهات التي تريد إطالة ذيل هذا التحارب فيما بين الحضارات والثقافات والديانات إلى أمد لا يعرف نهايته إلا من يريد من هنا أومن هناك مستمرا ليكون وسيلة للقهر والاستلاب والاستعباد، ومنطلقا لتوسيع الفجوات فيما بين شعوب الأرض التواقة إلى عالم يسوده الأمن والاستقرار.
ولأمر ما، ومنذ زمان يضرب في عمق التاريخ بجذوره، تخوض أمة الإسلام غمار هذا الصراع، فأراضيها كانت مسرحا لكبرى الأحداث التي حصلت تحت مجهر الرأي العالمي، وسكانها كانوا حلبة لتجريب أنواع كثيرة من الأسلحة المدمرة للكون والإنسان، وخيراتها كانت مرمى نظر كثير من الظرفاء الذين أرادوا أن يعلموها كيفية إنفاقها، وطريقة التصرف فيها، ووسائل الحفاظ عليها، وهذا الوضع بمأساويته يدل على فساد الضمائر والقلوب، وينذر بشؤم يؤلم شجاه كل فضيل، يريد أن يرى الكون مراحا تتسامى في الإنسانية عن الأطماع الخسيسة، والأغراض الدنيئة، وتتعالى فيه عن كثير من الأسئلة التي تهز أذهان الفضلاء من أبناء هذه الأمة، وهم يتساءلون عن موقعهم الحقيقي في هذا الوجود، ويبحثون لأنفسهم عن منطلق يستوحون منه موقفهم، ويؤسسون عليه نظرهم، ويستبصرون به طريقهم، فهل الصراع سيمتد فيما بين الحضارات مع قيام الحجة عقلا ودينا وواقعا على وجوب تجاوزه؟؟ أم لا بد من مواصلة النداء للتحاور والتشارك والتفاعل فيما بين الأمم ؟؟
إن حضارة اليوم تحركت من دائرة النفع، وإزالة الضرر، إلى حضارة مدمرة تلوث الإنسان، وتهدم الكون، وتنسف القيم، وتبني الأحقاد، وتؤسس للكره، والإنسانية في مستقبلها على ضوء هذه المعطيات، ستعيش كارثة هوجاء، وزلزالا عنيفا، يعصف بقيمها، ويقضي على حياتها، وهذا ما يهدد الكون، وسيجعل مآله الدمار والخراب، ونهايته العبثية والفوضى، والذي يدرس أدبيات العنف المستشري هنا وهناك، ويرى نزوة التسابق المجنون نحو التسلح، ويلمس هوة التفاوت الطبقي فيما بين مكونات المجتمعات، سيدرك لا محالة هذه المساحة التي تقف حاجزا فيما بين الإنسان، ووسائل إنتاج السعادة في هذا الكوكب المتشاكس، وسيلحظ إخفاق كل المنظومات التي يطبل لها قديما وحديثا- سواء كانت دينية أو سياسية أو فكرية أو ثقافية – عن إيجاد نعيم آمن للإنسان الموجود في وجوده بطموح العيش الكريم، ورغبة في الحياة الوديعة، وسيجد عجزها عن تلافي الضرر المحدق، والكارثة المرتقبة.
ومن باب استشعار المسئولية، قد قامت دعوات صارخة في الغرب والشرق، تنادي بالوقوف في طريق هذا الطوفان المهدد للوجود البشري، وتطالب بتجاوز هذا الخطر الزاحف على كيان المجتمعات الإنسانية، وترافع بدعوى السعاية لبناء مستقبل زاهر للكيانات البشرية، وهذه وجدت لها بعض الآذان الصاغية، وصادفت أروحا معذبة تبحث عن تخليص المجتمعات من الزحف الأسود، فالصراع ليس من مصاديق القضاء والقدر، ولا مفردة من مفردات الجبرية والقدرية، بل هو صناعة بشرية خالصة أنتجتها أيد أثيمة تنظر إلى الكون نظرة مختزلة تجزيئية لا ترى فيه إلا المصالح والمنافع، ولا تؤمن فيه إلا بما يدر عليها أوهامها، ويحقق لها نرسجيتها، ويجعلها مسيطرة على غيرها.
لكن بعض المفكرين يذهبون إلى عدم وجود صراع فيما بين الغرب والإسلام، لكون المسلمين لا يملكون حضارة تعاكس حضارة الغرب، ولا يتوفرون على مؤهلات مادية وأدبية لمنازلة قيم الآخر، لكنهم يذهبون إلى أن الشرق مظلوم مهضوم، وأن الغرب معاد مهاجم، فالغرب في تقديرهم لم يقبل أن يرى من المسلمين ما تبقى من أثر في حضارتهم التي سادت وإلى القرن السابع عشر، فهذا الرأي وإن كان فيه من الصواب ما فيه، فإنه لا ينفي الصراع ولا يرفعه، ولا يحاول أن يمهد له، ولا أن يحميه، فالأزمة قائمة، والصدام موجود، وإن اختلفت التقديرات لذلك والقراءات، والزمن كشاف، وأهل البصيرة يسعون لتطويق الأزمة لا لتركيبها.
بحث الدلالات
التصوف:
قيل عنه: غيبة الخلق في شهود الحق
لم أرتب هذه الدلالات ترتيبها في العنوان، لأنني أردت أن أعرف التصوف أولا، ثم الحضارة، ثم أستفيض في الحوار لكثرة ما يحتاج إلى ذكره فيه.
إنني لا أعني بالتصوف إلا ذلك المستبطن الروحاني الموجود في الإنسان، وهو يتشكل واقعا في تجربة تصطدم مع الوجود في تدافع مستمر، لتحقيق الذات وجودَها، وترسيخ حضورها، وإظهار كونها لطفا إلهيا في الزمان والمكان، وجوهرا ساميا يحلق إلى مستوى عال يجعلها نسمة من فيضه المتلألئ في الكون عدما ووجودا، ونفحة موضوعة لتحقيق المحو في المطلق بصحو حاضر في ماهية الوجود عبادة وطاعة، وفي الحضرة الإلهية فناء وسكرا، فيكون التصوف في محصلته، تلك العاطفة الدينية في بهائها ونقائها، وتلك المعاني في جمالها وكمالها، وهي تكتشف ذلك البعد المتعالي في الإنسان، وتمهد الطريق للمريد دليلا لأن يصل إلى إنسان كامل يتمتع بلذة المشاهدة لهذا الكون على ما هو عليه واقعا لا خيالا، ولأن يعيش لحظة التوهج في ذاته وحياته وهولا يرى سوى الله في حركاته وسكناته، أو هو، تلك التجربة الفردانية في الغالب، أو الجماعية المتكونة من هذا اللقاء، فيما بين الإنسان وربه، وفيما بين الإنسان وكونه، وفيما بين الإنسان وحياته بجميع علاقاتها وارتباطاتها وتفاصيلها.
الحضارات
فالحضارة هي الكلمة العربية المقابلة للكلمة الإنجليزية civilization.و الحضارة من حضر، حضورا ، وحضارة، بمعنى الإقامة في الحضر كما قال أبو الطيب:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب.
وتعني أيضا، الحضور والوجود والتميز، وتشاكل المدنية في المعنى، وعند البعض تشترك في الدلالة مع الثقافة، وهي مرحلة من مراحل التكوين البشري، وطفرة في النشاط الإنساني، الذي يحصل من خلاله التطور الفعلي على مستويات عدة، ونواح كثيرة، وهي نتيجة لتفاعل الإنسان مع الكون والحياة، بغض النظر عن بعض الخصوصيات التي تخصه، والتباين الذي ينتجه الاختلاف في العقيدة والدين، وهي تتكون من شقين، مادي ومعنوي، فالمادي ما نلمسه من عمران وصناعات وتقنيات وفنون وعلوم ومعارف وقوانين وأعراف، والمعنوي يمثل النوازع العقدية، والدوافع القيمية التي كانت من وراء صناعة هذه الحضارة، فالعقائد والأخلاق والسلوك كلما اقتربت من المعايير العلمية والمنطقية، صارت أقرب من المدنية التي هي مرادف الحضارة عند البعض، وإذا أنتجت التصحر والعقم المعرفي، كانت بداوة ورجعية وتخلفا، فالحضارة نتاج إنساني يعبر عن وحدة المنشأ، وتكامل الأدوار، وهي متداخلة فيما بينها، ومتكاملة في حلقاتها، لا يلغي اللاحق منها السابق، ولا يميت البعض منها الآخر، وإن تباعدت الأقطار، وتفاوتت الأزمان.
الحوار
لن أعرف الحوار بتعريفه اللغوي، وإنما سأعرج على مصاديق الحوار الذي ندعوا إليه، ونؤمن به، ونؤسس له.
أبجديات
إن الإسلام أكد على ضرورة سلوك منهج الحوار، في مجموعة من القضايا المصيرية التي تتعلق بالعقيدة والشريعة، ووطد لهذا المبدأ الذي يعتبر ركيزة أساسية لبناء المؤسسات الحياتية بمبادئه وسلوكياته القائمة على معيار العقل والمنطق، ومبادئ النظرة الكلية للكون، وقيم النزعة الذاتية التحررية، ولا ضرر في اعتماد الحوار وسيلة في أهم الأمور الفكرية تعقيدا، لأن الإسلام أراد أن يفتح الطريق أمام العقول الواعية، لتقرر الأدلة على المعرفة الجازمة التي تنفي كل تقليد يؤدي إلى التبعية العمياء للآبائية، أوالإستيلاب للأنظمة التي جعلت نفسها وساطة فيما بين الإنسان والمطلق، فالإيمان بالحوار في أقدس مبادئه، يعني انتفاء أسباب الصراع، وعدم وجود مغذيات النزاع، والحوار لا ينتج سلوكا مستقيما في الفرد والجماعة مادام المحاور لا يستشعر بأن الآخرين إخوة له في الإنسانية، يتعايش معهم على أساس قائم على التوحد في المشتركات الأساسية للحياة، ويتوافق معهم فيما يضمن المصلحة الكبرى للبلاد والعباد، ومادام الحوار يؤدي إلى تحقيق هذه المقاصد فإنه حوار جاد، و إلا، كانت الدعوة إليه وسيلة لدغدغة المشاعر، وتليين الأجواء، وتبليد الأحاسيس النافرة، و المصلحون قد سلكوا هذا المنهج في فض الخلافات التي تشتعل مرة بعد مرة، وختم النزاعات التي تؤدي إلى تعارك يعطل عمل الحياة، ويجعل الأرض عرضة للضياع.
والحوار لا يتم في ظروف ملغمة يعتز فيها كل طرف بموقفه، ويعتد بآرائه، ويعتقد الكمال في توجهاته، ويحزم باليقين في مقولاته، فلا يمكن تحقق أخلاقيات الحوار، كما يقول بعض المفكرين، لدى من تهيمن عليهم نزعة التشكيك والسفسطة، أو أولئك الذين يتخيلون أنهم يحتكرون الحقيقة، بل يتجلى الحوار بمظهره الرائع الخفي…. لدى أولئك الذين يضعون أيديهم في أيدي بني الإنسان كافة، ويواكبون الآخر الإنساني، ويرافقونه في طي تلك الطريق….وما عساه أن يحصل من إخفاق في مسيرة الحوار، أو شلل في نتائجه، فمن عدم ضبط الآليات التي تساعد في تصويب الرأي، وتسديد القصد.
أزمة الصراع
إن الصراع ليس من قيم الحضارات، بل هو بداوة تجتاح العقل، وتخترق محيط الإنسان حين يفكر في حدود أرضية تفقده صوابيته في استلهام مبادئ الحياة، وجهوزيته ليكون دليلا على الخير لا على الشر، ويترتب عن هذا صراع الإرادات والأوهام والقوى، أما الحضارات القائمة على مبدأ التعامل والتبادل، فإنها تتفاعل فيما بينها لصالح البشرية، وتتحدى الحواجز الواقفة في طريق الحياة الفضلى، حيث يسعد فيها الإنسان بحركته الوجودية بدون عنف ولا إكراه، فلا بد مبدأ من التنقيص من قيمة كل ما يسبب العنف والغلو داخل منظومتنا الفكرية، والقضاء على كل المسببات التي تعطل السلم الاجتماعي، والتشارك المتبادل، وهذا خير ما يقدمه المفكرون والمثقفون لربط جسور الحوار فيما بينهم ومع الآخرين، بعيدا عن التشنجات التي تنشئها العصبيات المؤسسة على احتقار السوى ونقصهم، والمظهرة للإنسان المسلم في عين الغرب وحشا كاسرا لا يملك أحد إيقافه، وعبدا مشئوما لا يبالي إلا بالأوامر المحبوكة بيد من لا يرعى حريات الناس، ولا يسلم بقيم الإخاء وحسن الجوار، ولا يسعى لربط علاقات التعاون والتوادد مع الآخر، إن الحقيقة التي نؤمن بها كإلهيين وصوفيين، أننا نرى بعض هذه الحوارات أنتجت مناخا معتدلا للتعامل المشترك، والتعاون المتبادل، وكان من غرسها ما جنته أمتنا من سلم وهناء، وبعضها كان سيئا للغاية، ذبحت فيه الكرامة البشرية على مسالخ التاريخ، وفنيت فيه الأمم بواسطة الحروب والدمار الأهوج، فكان سببا لمآس يطول لهيبها وإلى أمد غير محدود، فالتصادم فيما بين الديانات، بله الحضارات أو الثقافات، لا يعني عند العقلاء إلا الظلمة والوحشة، ولا يفسر إلا خبث الطوية، وسوء النية، ولا يقوي في حقيقة الأمر إلا طرفا على طرف بنية ابتلاعه واستعباده وإضعافه وتفقيره حتى يكون تابعا له. فالصراع فيما بين المجموعات البشرية، نوع من البدائية الفكرية، التي تعلن يُبس روْح العقول، وموت الضمير الجمعي القائم على مبدأ التعامل وقف المصلحة المشتركة الضامنة للاستقرار والحياة الآمنة.
قد ينشأ هذه الصراعات فيما بين الأفراد، لتمتد أفقيا وعموديا من قبل صناع الخلاف، حتى تشمل الدين الذي ينتمي إليه الإنسان، والحضارة التي تراكمت جهودها عبر مراحل من تاريخه، والتاريخ الذي هو جزء من كيانه، وهذا ما يجعل الإنسان بدون مشيئة منه يعيش جوقة الصراع التي تنميها مبادئ التعارك على مصالح تعود على أفراد أو أنظمة بالنفع، وتؤوب عليهم بالخيرات والمسرات….
فالحوار الذي نستهدفه هو الذي يطرح القضايا الكبرى أساسا للحوار، ويضع المشتركات محلا للتوافق والانسجام، ويترك الخصوصيات للاعتداد الشخصي والجماعي، فليحصل التحاور في صناعة تاريخ مشترك يعطي لكل واحد حق ممارسة قناعاته وقف عقد مسبق يربط فيما بين الأطراف، وميثاق يسمح بالخصوصيات والمحليات.
القرآن والحوار
إن القرآن الكريم بأحكامه المجملة والتفصيلية يؤسس لمبدأ التنوع والتعدد، ويمهد السبل للاعتراف بالغير، وهذا ما يلمسه كل دارس للكتاب الحكيم، ويعلمه كل من يرى الحوار آلة يطرحها القرآن لإثبات العقائد، ووسيلة لاستكشاف الرأي الآخر، وطريقة للتعامل في إطار يعطي إمكانية قبول النتائج، وفرضية الوصول إلى قاسم مشترك بين الجميع، سواء كانت النتيجة انتزاعا للحقيقة، أم اعترافا بها، أم إنكارا لها، والقرآن قد جعل هذا التعدد الذي نطمح إليه في عالم اليوم آية من آيات الله الدالة على خلقه، وسمة على عظيم صنعه، فقال تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين، فتنوع الألسن والألوان، يجعل الصوفي يستحضر وحدة الأصل التي تجعل الناس سواسية وإن اختلفت معتقداتهم، وتعددت مشاربهم، فالعبرة بالجوهر لا بالعرض، والقيمة بالأصل لا بالفرع.
والحوار في القرآن يشذب الطريق للإنسان من نقط صغيرة ثم يرتقي بالإنسان ليشمل بنية ذاته، فيستفسرها عن شكوك في معتقده، ويسألها عن غوامض المجهول في عالم الغيب، ويتصاعد الحوار بشكل ملفت ليستغرق كل المواضيع التي تتركب منها حياة الإنسان. فالإيمان بالتعدد الجنسي، والاختلاف الطبيعي، ضرورة بشرية، وحتمية وجودية، ودلالة صامتة تعطي العقل موقفا صحيحا في التعامل مع الآخر، وتمكن من وجود المشترك الإيجابي فيما بين الناس، وتسمح بقيام مناخ للتعايش السلمي المرتكز على منابذة التطرف والعنف، ولا غروفي ذلك، فالحوار يعتبر الدواء الناجع لإنهاء الأزمات، وإيقاف النزاعات، وليس مراما لتكريسها، ولا منالا لتمديد آجالها، وهذه النظرة المتفائلة، رغم ما فيها من يوتوبيا، تبقى هدفا نبيلا، وحلما زاهرا جميلا، يراود من يسعى إلى دحض لغة العنف والتصادم، وينحو غاية ردم الفجوات فيما بين الحضارات والفرقاء الدينيين والسياسيين.
والحوار بهذا الملحظ، قيمة جمالية تدعوا إليها الفطر السليمة التي تحقق ذاتها في ذات الجميع، وتكسب حريتها في تقدير الآخرين، وهو نوع من الديمقراطية التي تهدف إليها الشعوب لتحرير نفسها من الاستعمار والديكتاتورية، وتثبيت مركزها في هذا الوجود بقيمتها الاعتبارية، وتدعيم حركتها في السعي من أجل تنوير دروب الحياة بفضليات الأخلاق والشيم، فلكل حق في اختيار دينه، ولكل حق في انتخاب عقيدته، ولكل حق في ممارسة خصوصياته، ولكل حق في أن يتساوى مع غيره في الحقوق والواجبات، ولكل حق في سلوك السبيل الذي يسعده، وهذا لا تجسده إلا أدبيات القرآن التي تتجلى في التصوف بما فيها من سمو في الفكر، وإنسانية في القصد.
آليات
أذكر هنا بعض الآليات التي يمكن العثور عليها في أي كتاب يمنهج للحوار فيما بين الحضارات، وأكتفي بإيراد ثلاث قضايا .
أولا: إن المحاور الذي يريد أن يتحرى الحقيقة لا يعتبر سواه إلا أخاً له في الإنسانية، وشريكا له في الحياة، يريد أن يوصل إليه خطابا سواء كان إلهيا أم بشريا، أو يحاول أن يغرس فيه سلوكا معينا بتوسط رمز يكون رسالة كلامية أو غيرها تستوحي منه موقفا ذهنيا، ونظرا وظيفيا، فالحوار الإيجابي هو الذي ينظر فيه أساسا إلى ما يمليه المحاور من أفكار، وما ينتج عنه من سلوكات، لا إلى الذات التي هي عبارة عن مختلفات تكوينية يمكن اعتبارها مصيبة أو مخطئة، فخطأه لا يسبب احتقاره وامتهانه، وصوابه لا يفقده عقله واتزانه، و الخطأ لا يعطي الفرصة للفريقين، في أن يزدري أحدهما بالآخر، أو أن ينتقص من إنسانيته، ولو أدرك صواب ما يقول، أو جمالية ما يظهر من سلوك.
ثانيا: أن يحكم على الإنسان بما عنده، لا بما عند الآخرين عليه من أفكار، حتى لا يتحول الحوار إلى تكرار للدعايات التي لا تستند إلى أدلة عقلية، ولا تقف على قناعات شخصية، فيتوهم المحاور بأنه بلغ البغية من الرأي، ونال النجعة من القصد، وهو لا يعي جلية الأمر، ولا يستوعب خلفيات القضية، وإنما يردد ما صار بالخوض فيه حقيقة كاملة، وإن كان محض افتراء وتلفيق وخدعة، فنتحرى الحقائق من قبل أهلها لا من غيرهم، ونستعمل العقل في إثباتها أو في نفيها، و إلا كان حوارا دوغمائيا صوريا لا يساعد على تبيان الحق، وإبراز الواقع. فالهدف الأسمى عندنا هو الحقيقة، بغض النظر عن مصدرها ومنبعها، والحقيقة نستوحيها من جوهرها لا من الأعراض الخارجية التي تكتنفها بتأثير معين، والذي ينفع في ترتيب نتائج الحوار، أن تستند كل الآليات المعرفية والنظرية إلى أبجديات المنطق، وأحكام العقل، وأن يكون الحوار تداواليا فيما بين المتصارعين والمتحاورين من أجل تأسيس حضارة عالمية يساهم فيها الكل، وإن لم يكن الحوار بهذا المنطلق والغاية، فليكن حوارا لإبراز الروابط التي تؤدي إلى توازن المصالح والقوى.
ثالثا: أن يكون الهدف من الحوار تزيين محيط القلوب بباقات من ورود المحبة، وتجميل فضاء الحياة بسلام يجعلنا ننسى بؤس الأيام علينا، ونَحيبَ الزمان الذي يِخب من ركام الأحداث، فليس الهدف منه تشكيكا للآخر في عقيدته، ولا تنقيصا لدينه، ولا عجن توليفة من العقائد، وتلفيق دين من طراز جديد، بل الهدف أن نُوجد مناخا معتدلا، وطقسا هادئا، ومرفأ للتعامل المشترك، والتفاعل المتبادل، والغايةُ أن يكون كل واحد منا راضيا بما يعمل، مقتنعا بما يعتقد، وأن يبرز كل واحد منا دور دينه وعقيدته في سلوكه وحياته، فيَظهر للعالم أجمعَ أثرُ دينه عليه منهجا وتفكيرا، إننا مطالبون تكليفا باحترام الإنسان فطرة وسلوكا، وتقديره مبدأ وغاية، وملزمون أمانة بأن تسود قيم التعاون والتشارك علاقات الناس خدمة للأرض التي استخلف فيها الإنسان ليعمرها من أجل بقاء نوعه، واستمرار جنسه. وهب أننا تحاورنا مع غيرنا، أو تناظرنا على قواعد الجدل، ثم حصل من الآخر رفض لبعض المواقف التي تجعل الحوار متيسرا، أو فرض لرأي لا يدفع بحركة الحوار إلى الأمام، فإن ذلك لا يدفع بنا شرعا ولا عقلا إلى الاحتقار والإقصاء، بل لا يمكننا من نكران وجوده، ودوره في الحياة، ولا يوغر صدورنا عليه حقدا، فنسعى إلى تدمير كل ما له علاقة به، و كسر كل حاجز ينقض عليه نسيج حياته، ويعطل القوة التي تربطه بالوجود تفاعلا ومشاركة، فالحوار الذي ينبني على تصديقات سابقة، أو أحكام قبلية، أو يطرح دينا، ويفرض واقعا لا يثمر مشروعا يحتوي الأمة، ويوقف مشاعر الحقد والضغينة. فهل الحوار وسيلة لتقريب الرؤى؟؟ أم لفرض قيم معينة؟؟.
فمن الواجب أن يكون التحاور قانونا فطريا طبيعيا في المجتمعات المؤسسة على التعدد والتنوع، لا تشريعا وقتيا تمليه الظروف المتكررة، وتفرضه الوقائع التي تعترض واقع الحياة، وإنما هو ُروح طيبة تُبرز القوة، وملكة جميلة تُظهر الشهامة، وموقف إيجابي يستبطن الكرامة، وليس ضعفا يؤدي إلى الإستقواء على الآخر، أو دجلا إعلاميا نشوه به قيم التواصل الإنساني، والتعايش السلمي، أو نفاقا سياسيا نتوسل بها لاحتلال الأراضي، وإهانة الشعوب، والسيطرة على الأمم.
والحوار لا يستطيعه كل موجود، والتعايش المتبادل لا يطيقه كل مخلوق، فلا بد من أناس أكفاء أقوياء، يحترمون الناس، ويقدرون الآراء، ويتعاملون بدون خلفيات، وهذا لا يتجسد إلا في الصوفية، ولا يتحقق إلا في هذه الفئات، على ما بينها من وشائج وروابط، فهي القادرة على تجسير العلاقة فيما بين الديانات و الحضارات والثقافات.
الصوفية والحوار
أولا: أنظار صوفية، نحاول هنا أن نبحث حفريا ضمن الثقافة الصوفية العملية لتحديد أنظارهم إلى مجموعة من القضايا، الوجود، الإنسان، وسأفرد للنفس مقالا خاصا.
1)نظرهم إلى الوجود :
إن نظر الصوفي إلى الوجود لا تتحكم فيه آليات معرفية، أو معطيات موضوعية، وإنما تتحكم فيه نزعة روحية تتأسس على الذوق والكشف الذي يستشرفه الإنسان بواسطة السير الروحي الذي يسمى عند البعض بطريق المجاهدة، أو بوسيلة السير في الملكوت الأعلى الذي يسمى بالمعراج الروحي، فالصوفي المتحرر من العلائق المرتبطة بالعالم الخارجي، والملتصقة بالعالم المادي، يتجاوز القراءات المسندة بالتحليل المنطقي، والإدراك الحسي، إلى رؤية فاحصة تستخبر الحقائق، وتستظهر المعرفة اليقينية للوجود، وهذه المعرفة هي التي تبدد لدى الصوفي كل ارتباط يوحي بالوقوف مع الوجود، وتجعله على مشارف غيره من الفلاسفة الذين يؤمنون بأن الوجود خيال بلا ظل، يقول أحدهم:
الله قل، وذر الوجود وما حوى إن كنت مرتادا بلوغ كمــالِ
فالكون دون الله -إن حققتـه- عدم على التفصيل والإجـمال
من لا وجود لذاته من ذاتــه فوجوده لولاه عين محـــال
والعارفون فنوا به لم يشهـدوا شيئا سوى المتكبر المتعــالي
ورأوا سواه على الحقيقة هالكا في الحال والماضي والاستقبال
ويعرف أبو عمر والدمشقي التصوف بأنه ” رؤية الكون بعين النقص بل غض الطرف عن كل ناقص” ( السلمي 1953ص 278) ويقول الجنيد:
وجودي أن أغيب عن الوجود، بما يبدو علي من الشهود،
فالوجود عند الصوفية بحر يمر عليه الصوفي ليصل إلى المطلق الكامل الذي لا يعتريه النقص، وهو الحق سبحانه وتعالى، فكل ما في الوجود يدل عليه لا هو، والمقصود هو لا سواه.
فالصوفية لا ينظرون إلى الحياة على أنها قائمة بذاتها، ولا يرونها تستحق صفة الأزلية التي لا تكون إلا لله، بل يتجاوزن حاجز ظواهر الأشياء، إلى رؤية شاملة تتكل على الإحساس الباطني، وتستند إلى الذوق الوجداني، وهذا لا يحصل للصوفية إلا عن طريق المجاهدة التي تتيح أحوالا تحصل لهم في مقام الفناء الذي يغيب فيه الصوفي عن ذاته، ويفنى فيه عن وجوده، وقد يحاول أحدهم أن يفصح عليه برموز لا تفيد رسمه، وإشارات لا تفهم معناه، وأقرب أقوالهم فيه، قول الجنيد: “أن تكون مع الله بلا علاقة” وقول الشبلي:”الصوفي منقطع عن الخلق متصل بالحق”ويعنون به الوجود الحق، أو النفس الكلية، أو العقل الفعال، الذي كان آدم من أبرز مظاهره وجودا، وأعظمهم أثرا، لما ذكره مسلم في صحيحه، خلق الله آدم على صورته، أو كما في سفر التكوين، إن الله خلق العالم على صورته.
والاتصال بالمطلق الذي هو الوحدة الكلية يتم عند الصوفي عبر سلسلة من المقامات التي تمنحه تصورا حقيقيا عن الحياة، وتجعله يشعر بأن الكون سديم لا قيمة له، وأن الحياة فيه عدم لا وجود له، وهذا ما يسميه البعض إتحادا، وهو عين الشهود، ويترتب عن هذه المعرفة للحياة رغم كونها نظرا فلسفيا، أن الصوفي لا يعتقد الوجود الحقيقي إلا لله عز وجل، وما سواه فخيال وسراب لا حقيقة له، وأن العلاقة فيما بينه وبين والوجود مبتورة، فالوجود الظاهر للعيان في نظره ظل للقيومية النافذة في كل حادث، ونفحة من نسيم التجلي القائم في كل لمحات الكون، والإنسان ذرة تائهة تسري في الكون، تبحث في الزمان والمكان عن بقائها جوهرا خالصا يبحث عن الحقيقة المطلقة التي لا ينتهي الروح إلى أشواقها فيها إلا بالزوال والاضمحلال، وهذا التصور يعطي للصوفية مجالا للتحاور والتقارب والتعايش، ويشبعه بنظرة أخرى ترى الوجود مظهرا للجمال والكمال الإلهي.
والصوفي رغم توحده مع غايته، فإنه يرى الكون بما فيه من كائنات محلا للعطاء الذي يركز في قيمه ،الجمعية البشرية، فهو يتعامل مع الناس من هذا المنطلق البعيد عن النيات الضيقة التي تفوت عليه الاشتراك في جذع البشرية، وتمنعه من أن يكون مساهما في بناء الحضارة، ولله در الصوفية فقد ضربوا المثل الفذ في التعامل مع الغير، سواء كان جمادا، أو حيوانا، أو بشرا، وتصورهم هذا نابع من تشرعهم بالشريعة التي جاءت نصوص فيها تؤكد قيمة الإحسان إلى المخلوقات كلهم، وغايتهم من وراء الفعل أن تظهر ملامح جمال الله في الوجود على أيديهم بإراداتها الممنوحة فضلا أزليا، فمراعاة الشريعة في حدودها المتاخمة للحقيقة لكبد الحيوان، وترتيب الخلد عليه في النعيم، فتح الباب للعطف على كل ذي معدة رطبة، وبطن مكشوفة لا تجد لها رواء التمتع بالطعام، و ذات لا تلبس جميل اللباس صيفا ومشتى، ويتعدى الإحسان نقطة العطاء في حدودها الأدنى إلى مستويات كبرى يظهر فيها الصوفي بكماله وجماله.
2) نظرهم إلى الإنسان:
إن الصوفية يرون الإنسان مظهرا لتجليات الله، فهو كيهل ينتهي إلى عالم كن الأزلية، وجوهر موضوع في عالم الملك، وجزء من المطلق المودع في الوجود، فروحه التي نفخت فيه من عالم القدرة الإلهية، وذاته بتفاعلاتها تجسد إدارة الله وقدرته النافذة فيه.
فالصوفية لا ينظرون إلى أحواله التي يتلبس بها من صلاح وفساد، وإنما ينظرون إلى ما وراء غشائه، ويتشوفون إلى حقيقة ظرفه، فإن كان قريبا من درك الحقيقة، نال ألطاف الله، وإن لم تشمله العناية ارتكس في وحل الأثيمة، وولغ في دم الخطيئة، والإنسان مركب من الخير والشر، مزودج في أحواله المتعددة، وهذا التصديق )وإن كان الحد الأدنى من الرؤية الصوفية) يرفع الصوفي إلى مستوى يستشرف فيه ذلك المخطئ بعين رحيمة، وينظر إليه بقلب جميل، إكبارا لإنسانيته، وتقديرا لآدميته، واحتراما لأحكام الله التي لا يأمن مكرها، ولا يتعالى عن حقيقتها، فقد يعتريه سوء نية، أو يتداوله خبث قصد، فيحوله إلى أثيم، وقد يعاكس الحظ غير هذا الصوفي فتكون عاقبته الرضوان. والصوفي رغم يقينه في ألطاف الحق، فإنه يرى الإنسان والكون والحياة صيرورة قائمة لغرض يريده الله عز وجل، فهو المريد فيها بما يريد، والقاهر لحركاتها بما يشاء، فكل تدبيراته وتصرفاته محبوبة للصوفي ولو كان فيها زوال الذات وفناؤها.
والصوفي يحب الناس جميعا على اختلاف وظيفتهم في الوجود، وتعدد طبقاتهم ومراكزهم في السلاليم الاجتماعية، وتنوع مواقعهم في قانون الأمر والنهي الإلهي، فهو يكره العمل السيء الظاهر من الإنسان إن وجد محلا للكره في قلبه، ولكنه لا يكره لطفة الذات التي تتلو تجليات أسماء الله، فقلبه وتر للحب، ونغم ندي للود، وذاته مشتل تنمو منها ورود الإخاء، وشجرة تتفرع فيها غصون الصفاء، فلا الطبيعة بألوانها الزاهية، ولا الكون بأنغامه الجميلة، ينسيه أن كل طرفة يطرفها، أو كل ومضة يتوهجها، للحق فيها حضور، وللذات فيها وجود، فوجودها في حياته، وموقعها في وجوده، تجزم له بأن الله موجود في كل شيء، وموجود قبله وبعده.
والصوفي يرى الإنسان حرا في إرادته، طليقا في تصرفاته، لا وصاية لمؤسسة عليه، ولا تحجير لنخبة على عقله، فهو المختار المريد، والمدبر الحاكم للعالم، فالحرية جبلة للإنسان في فطرته، وقانون أزلي في وجوده، وهي سببا أولى طلبات الخلق، وقصارى جهدهم في الوجود، ومراد الله لا يعترض عليه من هو له حبا ورضا، ولا يتعسف عليه من يعد الكون قدرا في كينونة كن الإلهية، فهو مساو للقضاء حقيقة ما لم يقم واجب شرعي آخر في طريقه يطالبه باللجاجة والخصام، أو ما لم تتعارض الحقوق والواجبات فيما بين الأفراد، فتكون الكلمة كما يريدها الله إيجادا وتصريفا، لا كما يريدها غيره هوى ورأيا.
والصوفي يحسن الظن بالمخلوقات، فلا يشغل بالَه خفاءُ سرهم، ولا يتأمل برؤية الكمال حالهم، ولا يعتقد خلوهم من الزلل، ولايجزم بطهارتهم من الخطل، فهم تحت سياط القضاء والقدر، فما أراه الله عليهم من منة فهو منه لا منهم، وما رآه من شر فهو منهم لا منه، فهم محل للإرادة المطلقة القائمة بالتدبير والتصريف في هذا الكون، والناس شركاء في مجموعة من القيم التي تحدد وجودهم المادي والمعنوي، وتضبط سلوكهم ونظرتهم في المستوى الأدنى إلى الأعلى للأشياء، ومن هذه القيم الوطن والدين والراعي، وهذه المجموعة من المثل تحسب في مناط الشرع والحقيقة جامعة للتوحد، ومناطا لتحقق التفاعل، فالوطن للناس جميعا، والدين قناعة فردية، والراعي نائب عن الإرادة المطلقة، والعلاقة فيما بينها وبين الإنسان قائمة بالمحل، لكن حرية اختيار ما يراه الإنسان مناسبا من الدين، لا تتنافى مع الخضوع للقيم العامة التي تعارف عليها الناس دينا ونظاما، ما دامت تحقق النظام، وتنشر الأمن، وهذا سبب لظهور ترسانة من القواعد التي تضبط الحياة العامة، وتحدد الحقائق الكبرى للوجود البشري.
النظرة إلى الآخر:
وقد أمرنا الكريم سبحانه وتعالى وهو الحريص على حياة الجميع، والموجد للوجود البشري، بأن لا نعاملهم بفظاظة وغلظة، وأن لا نجادلهم بما يثير التنابذ والعداء، ويدفع بهم إلى البغضاء، وإن لا نتعدى المعاملة الحسنة معهم، فإن دعوناهم فبالتي هي أحسن، فإن فعلنا كان ذاك مدعاة لهدايتهم، وأنسب في تسديدهم، و إلا تركناهم لحالهم، وودعناهم لسبيلهم…فإن أرادوا ما نحن فيه فذلك خير يؤول إليهم، وإن لم يريدوا، فذمتهم مصانة، وحقوقهم مستحقة، وحسابهم بين يدي رب البرية، والصوفية يرون الآخرين ممن هم أهل كتاب أحظى بالتعامل، وأقرب إلى التواصل، لأن الجذع المشترك للدين يجمعهم جميعا، فالدين كله لله، ومن الله، والإسلام لم يأت ليقصي ويلغي، بل جاء موصيا بأن يكون تعاملنا معهم موجها لغاية تربية الفضائل، وغرس المثل العليا، وزرع الفضائل والأخلاق الحسنة، وهذا سر في ظهور فقه أهل الذمة والمستأمنين، وحدوث مصطلحات دار الحرب ودار السلم، وغير ذالك من الأدبيات التي تضمن للآخر كرامته وهيبته، وتحقق له وجوده وكيانه، وتجعله مهاب الجناب، سليل الفضل، يقول الحق سبحانه:لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين «الممتحنة – 8». فالتصوف لا يسعى لاختلاف الناس، ولا يدعوا إلى إحداث النعرات الجاهلة، ولا يجاري أهواء من يرون الغير بنظرة شزرى.
أساسيات لتفعيل حوار الحضارات
أولا :إن مما يدعوا إلى حوار الحضارات، ما نراه دراسة في الفكر الغربي من سمو ورقي، وما نلمسه من قيم حول الإنسان والكون، والعلاقة فيما بينهما، والعلاقة فيما بينهما أيضا والحياة، وهو مأخوذ من التصوف الإسلامي باعتراف أساطين الفكر فيهم، بل الأغرب من هذا في التصور، أن العولمة التي أرادت بعض الدوائر الغربية فرضها على شعوب الكون بالقوة، هي من المقولات الصوفية التي تؤمن بقيمة الإنسان في هذا الكون، ومركزيته في الوجود، يقول خاتمي: فالعرفاء المسلمون، يعتقدون أن الإنسان يمثل عالما في حد ذاته، فأصله ومحوريته لا تقوم على أساس فرديته أو جماعيته، بل ذلك يستند إلى كونه المخاطب الوحيد بالنداء المقدس ومن خلال الخطاب هذا تتسامى روحه، ومن ثم يتحول إلى فضاء يزخر بالعدل والإنسانية.
فالتصوف من القيم الحضارية التي تعطي للإنسان معرفة بما يدور حوله، وفهما لكل المظاهر والتشكلات الوجودية والميتافيزيقية، فالحرية مثلا التي تنص عليها العهود والمواثيق الدولية، وتحسب أظهر وجه للديمقراطية، والليبرالية، والعولمة، من المقولات التي لا نجدها متجسدة بصدق إلا في التصوف، فالصوفي يعبر عن حاله بأنه مملوك غير مالك، فهو عبد لسيده ومولاه، وواقف عند مراده أمرا ونهيا، فهذه هي الحرية الحقيقية التي تبحث عنها الإنسانية في يومها هذا، وهي حرية تتأسس على احترام الآخر، وتتشوف إلى معرفة خصوصياته، وهذه جمالية تبعد الصوفية عن مصادرة إرادات الآخرين وإلغائها، وتشكل المجتمع على أساس التراحم والمصافاة، وتعلك الصوفية كيف يتعاملون مع الصوفية مع بدون خلفيات عدائية لا تكاد تخلو منها أدبيات التعامل اليوم من الطرفين.
ثانيا : إن لباس الرهبان في الأديرة يكاد يشبه ما يلبسه الدراويش والمتفقرة والزهاد، وهذا مما أدى بالبعض إلى أن يقول بوجود تأثر فيما بين الصوفية والمسيحية، وأصارهم يعتقدون أن التصوف نتاج دخيل على المنظومة الإسلامية، فمن الخطأ أن لا نعتقد بوجود التلاقح والتكامل فيما بين الحضارات والديانات والثقافات، لكن من الغبن للتصوف، أن نعتبر اللاحق جزءا من السابق، لأنه يوحي بضعف تركيبة اللاحق، ويفيد طردا أن السابق لا يملك أجهزة مناعة لحماية نفسه، فالتصوف ولو لم يقع هذا التقابل فيما بين الحضارة الإسلامية وغيرها، فإنه مشترك بشري يحمل نزعة روحية، وميولا فردانية، وهذا مقتبس من كل الديانات والفلسفات، وليس فيه انتهاج لمنهج سابق، ولا اقتفاء لأثر ماض، فالحضارات تتفاعل فيما بينها وتتعاون، ووجود مشتركات فيها لا يجعل القول بالتأثير مقبولا، ولا يخول مساحة للإنكار على التصوف وغيره في تعايشه مع الآخر في إطار المشترك الإنساني، فتوهم الحضارات الأخرى وافدا غريبا، واعتبار قيم الغير شرا مستطيرا، هو الذي يفسر كثيرا من الخوف الذي نراه اليوم في كثير المسلمين من الحضارة الغربية، وهو خوف غير مبرر، بل هو جزء من نيران الصراع الذي نشب فيما بيننا وبين الغرب، فلم الخوف إذا كان ديننا قادرا على المقاومة والمقارعة؟؟ ولم الخوف إذا كنا متماسكين في بنيتنا النفسية والاجتماعية والثقافية؟؟
إن الذين يرون مركب الدين متينا، يؤمنون بأنه قادر على أن يتفاعل مع غيره، أما الذين يرونه هزيلا مخترقا، فإنهم يبكون ويندبون، وهجيراهم تعكير المجالس بمثيل هذا الكلام، والدندنة به في المحافل، وكأنهم لا يشعرون بأن الكامل لا يخاف عليه!!!
فمن العجب أن تجد كُتابا حبرت لهم المطابع بضعة أوراق، وزخرفت لهم جملة صفحات، يتهمون التصوف بأنه قلعة رهيبة يحتمي من وراءها كل موتور يريد المساس بالدين والخلق، وحصن يتترس به أعداء الحضارة الإسلامية للتبشير بسموم فكرية تجعل الناس عبيدا للحضارات الأخرى، وهذا معتقد لا ينبني على دراسة مستوعبة لمفردات التصوف، ولا يعتمد إلا على آراء توجد في كل تراث تقادم تاريخ نشأته، وتناسى الناس ظروف تمثله في الوجود، فما يراه هؤلاء تأثرا لا يعدو أن يكون سموا فكريا يشترك فيه كل واحد نال حظه من المجاهدة والمراقبة وفق منهج يهتم برياضة النفس وتهذيب الطباع.
ثالثا:إن التصوف خصوصا الفلسفي نشأ في مدارس الأندلس ( وبلاد الغرب الإسلامي) التي كانت مكانا يحتضن الديانات السماوية كلها، خصوصا الإسلام والمسيحية، ويضم مجموعة من الفلاسفة الذين عاشوا تجربة التلاقي على وحدة القيم الإنسانية، وعاينوا ببصيرتهم الترابط الذي يؤكد البعد الوجودي للإنسان في هذه الثقافات المتشبعة بروح الخصوصية، ويعطي للحياة مقاييس تنبني على السلم والتعايش الفطري، فالغرب لم يتعرف على هذا البعد الكوني في الإنسان إلا بواسطة التصوف، ولم تتكون لديه فكرة عن الوجود إلا بدارسة الفلسفة التي أنتجها متصوفة مسلمون، ومن هنا انبثقت هذه الرؤية التي تسود اليوم كثيرا من دعاة الحوار فيما بين الثقافات والحضارات والديانات، سواء كانوا صوفية أو غيرهم ممن يستعملون هذا الهدف استعمالا إنسانيا، أو ممن يدجنون به الأجواء، ويعقمون به التاريخ، فالرؤية الموحدة للعالم هي ميراث صوفي لا تملكه هذه التوجهات الأخرى التي تحوم حول حواشي الفكر الشوفيني، ولا تنظر إلى الآخر بهذه النظرة الكلية للكون والإنسان، ومن سوء الحظ أن الصوفية الذين عبدوا الطريق للوصول إلى الآخر، وأعطوا نظريات في التعامل كانت نواة للعولمة، سلطت عليهم ألسنة في القديم والحديث، تتهمهم بالزندقة والإلحاد، وتهيأ المناخ لفقهاء الأوراق أن يمارسوا عليهم الإرهاب الفكري والتهويش الكلامي، والتعتيم الذي قد غيب جزءا كبيرا من الحقيقة عن الغوغائيين الذين تحركهم الإشاعات الكاذبة، والدعايات المغرضة، بل الأدهى أن عموم المثقفين ممن يرون التصوف شقشقات وسفسطات، أو عقائد فوقية تتسم بالميثولوجية ، تأثروا بهذه الفرى الماكرة، ونسوا أن التصوف كان ثورة على الفساد، ومنعرجا متساميا يدعوا إلى قيم جديدة تنادي بإعادة تشكيل الإنسان وقف منهج إنساني يُعتبر فيه الإنسان محورا ومرتكزا أساسيا في الكون، وغاب عن هؤلاء أيضا أن هذا السمو الفكري يرى الحقيقة واحدة أزلية أبدية مطلقة لا تكثر فيها ولا تعدد، فالديانات السماوية في نظر الصوفية، منبعها واحد، والإيمان بالله موجود في كل الديانات على اختلاف في حقيقته، والأنبياء أبناء تعلات، وأماكن العبادة على اختلافها محترمة، والعقائد لا تؤسس على الإكراه، و الإنسان في هذا الوجود ليس إلا مظهرا للتجلي والفيض الإلهي، والتعامل مع الغير قانون إلهي لا يعدوا الاحترام والتقدير، فأين هذا من المقولات التي تبثها الحركات الراديكالية من تنفير وتشويه، وما تقذفه من حمم العداء المطلق على الآخرين، فهل استطاع هذا الفهم البشري المتشدد للدين أن يحتوي أزمة الصراع فيما بيننا والغرب؟؟ أم هذه الأفهام كرست الكثير من القيم عند الآخر حين قابل بلطجتنا في حماية المعتقد، وعنفنا من الخوف عليه، بحرب ضروس؟؟ فالذين وصموا الإسلام بسبة أخطاء هؤلاء، خفي عنهم أن الإسلام بريء من هذه النظرة الأحادية التي لا تعبر عن مسلك الأمة ومنهجها في التفكير، فالآخر لا نعاديه لكونه غير مسلم، وإنما ننابذه لعدائه وتجاوزه الخطوط الحمراء في التعامل معنا، ومن الأخطار التي سببتها هذه النظرة لدى الآخر، ما نراه من ردة فعل نعدها طبيعية في موارد يستهدف فيها الفكر الديني المتشدد إحدى المواقع التي تأوي أناسا يعيشون في أوطانهم، ويمشون في أرضهم، ويتمعون بخيراتهم التي هي ميراثهم من هذا الكوكب الشاسع، ونراها طيشا سياسيا، وشيطنة فكرية في مواطن يستباح فيها الدم الإنساني تحت إعلانات مشوهة تصور الخيال حقيقة، والباطل حقا، وهذا التحريف موفور في كثير من حلقات التاريخ، فالفريقان إما ظالم أو مظلوم، لكن من اللعب بالمشاعر، أن ننتظر ممن نسب ليل نهار، وممن نشوه صباح مساء، وممن نعادي حسا ومعنى، أن يركع لنا ويهلل، إنه عبث في الفكر، وخلل في العقل، أن نظن أن فعلنا سينعكس إيجابيا علينا، فلم نعامل غيرنا بما لا نحب أن يعاملونا به؟؟ ولم لا ننتظر حروبا صليبية، أو حروبا على مسمى الإرهاب، ونحن لا نقبل الآخر أن يساكننا في هذا الوجود، ولا أن يعيش حرا كريما في هذه الحياة؟؟
إن هذا الكلام ليس طافيا لا يستند إلى أدلة، ولا يقف على براهين، ومن صاغته الأوهام، فلنتأمل نتاج الحركات الإسلامية في فترات سبقت أحداث إحدى عشر شتنبر، ولننظر إلى إبداعاتها الفكرية لنرى مقولات تنسج عقولا فارغة تخبطها التخرصات الجاهلة، وتبنيها الأحلام المجنونة، أحلام الثأر والانتقام، وأوهام القتل والاندحار، فهزيمة الحضارة الغربية في مواقعها، والاستئثار بأراضيها وممتلكاتها، والنكاية بأهلها وتاريخها، كان مسارا من الأوهام التي دجنت كثيرا من شعوبنا، ودوخت أطفالا وشبابا يرددونها صدى مع اللحظة الهاربة، ونغما مع أنغام النخوة الضائعة، والفحولة العربية!!!! فالشعوب العربية صارت لا شعوريا أو شعوريا قنابل حاقدة على الغرب، وعلى ولاة الأمور من الحكام المتطبعين مع الآخر، بل هناك من يرى ما وصل إليه الغرب من ديمقراطية نوعا من المساحيق التي يختبئ من وراءها هذا المارد، ويخالها قناعا يخفي من خلفه أنيابا تعشق الدم المسلم، وتحن إلى هدر كرامته، وهناك من يسم الغرب بميسم الكفر، ويوصمه بالنفاق، والكافر لا يجوز التعامل معه، والمنافق لا يحترم ولا يكرم.
إن المخزي في تفكيرنا أن نرى في أمتنا من يتمتع بقتل جندي، أو نسف سيارة، أو حرق مبنى، أو تفجير سوق، فتجد المقاهي مكتظة لرؤية الثأر الذي تقدمه الفضائيات لهؤلاء المنكوبين باطنيا، فهل سيثمر هذا جهودا كريمة للدفع بالحوار إلى الأمام؟؟ إنني لا أظن التاريخ الذي نبنيه سيقدم خدمة مباركة للأمة، سيما إذا صادف تعنتا من قبل اليمين المتطرف الذي ينتعش داخل الكنيسة الكاثوليكية، أو جابهه الساسة الذين يتمرغون في أوحال أوهام الخلاص.
وقد أعجبني خطيب مصقع، وواعظ مفوه!!!يدعوا الله رب العزة والجلال في نهاية كل خطبة جمعة، أن يجعل نساء الغرب غنيمة للمسلمين، وأسلابهم نفلا للمستضعفين، ولا أدري أهل هذا الخطيب وغيره من يدعوا بهذا الدعاء على منابر أوربا يعلم أن الحضارة الغربية لم توجد من عدم، وأن تاريخ المجد والبطولة لا يهدى؟؟؟ فلننم قريري العين، ولنسعد بأحلامنا الوردية، ولنأمل مع فحيح الطقس هزيمته النكداء، ولننتظر مع إشراقة كل صباح تدهور الأوضاع في الغرب،ثم بعد هذا الأمل سنفرح بحصة من هذه الكعكة.!!!
إن الذي يريد أن يدارس الغرب بقيم الإسلام، يجب أن يعرفهم بقيم التصوف التي كانت معرفتها سببا لإسلام كثير من عظمائهم وكبرائهم في التاريخ، وليخبرهم بأن الديانات السماوية تكاد تتفق على معطيات كبيرة، بغض النظر عن جزئيات لا ترقى إلى مستوى الإيمان بالمشترك، أفلا يدعوا هذا إلى سلوك طريق الحوار بدل التنابذ والتحارب…؟؟
إن الصوفية لم يؤمنوا بهذه المبادئ نظريا فقط، بل سددوها في وجودهم، كما يعرف كل من ألم بتاريخ التصوف، فقد انسجم المسلمون مع غيرهم من المسيحيين واليهود انسجاما ينفي الخصوصية، ويجعل مبنى العلاقات مؤسسا على الحب والإخاء، وقد أسست جماعات تضم أتباع الديانات للتأمل وتبادل الآراء، والتحاور فيما بينها والاستفادة، كما حفظ كثير من أتباع الديانات القرآن الكريم، وتعرفوا على اللغة العربية نحوا وصرفا وبلاغة، ودرسوا الإسلام خصوصا التصوف لينفتحوا على المسلمين، وليتعرفوا على غيرهم، وكانت هذه العلاقة في بعض البلدان متوطدة إلى حدود قريبة من الزمن، وذلك قبل ظهور هذه الزمر المتطرفة التي تعشت بقمامات من التراث، ثم تنَحت لتحاكم الناس بما يراه الغرب حربا عليه حضارة ودينا، واستفزازا لقيمه وسلوكياته، وسادت بعد هذا موجة الخوف من شيء اسمه الأصولية، والتطرف، والإرهاب، لتطمر هذه الصدامات تاريخا جسد فيه الصوفية حقيقة المسلم المتعايش مع الغير على مجموعة من المشتركات التي يتأسس منها هرم المجتمع، فالصوفية لاينكرون قيمة العبادة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب، وقد ذكرهم الحق بالخشوع والبكاء من خشيته والخوف من بطشه، و لا يرون حرجا تشريعيا في أكل ذبائحهم، والمصاهرة معهم، على خلاف بعض المتشرعة، وإن كانت علاقة النسب من أربط الوسائل التي يلتحم بها المجتمع، لأن الصوفية يؤمنون بحرية الآخرين، ويقبلون التشكل والتعدد، فلا يرون كمال الإنسان في عقيدته العمياء التي لا تنبني على لطف إلهي، وموقف شخصي، ولا يعتدون بعقيدة تمارس فيها وسائل الإكراه والقهر، بل التصوف الإسلامي المنتظم من نظام الشريعة، يحترم قيم العدالة مع كل البشر على اختلاف ألوانهم وعقائدهم، ويصون حقوق الإنسان بما فيها حقه في الحياة، والدين، بخلاف الإسلام الحركي الذي لا يقر بحق الآخر في الوجود، ويحاول أن يستأصله إن لم يكن في مركبته، ويسعى لتقزيم دوره وحركيته، وهذا النظر السطحي المغالى فيه، كان سببا في تشويه الإسلام، واتهامه بتهم تلفق عليه من قبل من لا يبحثون عن سعادة المجتمعات.
رابعا : قال أفلاطون: الجمال هو بهاء الحق.
إنني وأنا أبحث عن الوسائل التي تدعم الحوار فيما بين الحضارات والديانات، وجدت لهذه الموسيقى الروحية التي تتفاعل معها النفوس، وتنشي بها الأرواح، دورا قيما في تعبيد السبل للتحاور مع الآخرين.
فالتصوف تجربة فردانية تعتمد الذوق والوجدان للوصول إلى المطلق، والموسيقى كما قال برجسون، عين ميتافيزيقية تملك مقدرة صوفية هائلة على الاتحاد مع موضوعها، أو السيمفونية السديدة، التي قد تكون نسخة ميتافيزيقة كاملة للوجود كما قال شنبهور، والصوفي يسعى للإندغام في المطلق عبر شبكة من التصورات، والموسيقي مؤهل أكثر من غيره كما قال كارل يونج ليكون أداة في يد قوة غيبية عليا، والتصوف مدرسة لتعلم الأخلاق الموصلة إلى زوال الذات أمام الأمر الرباني المطلق، و الموسيقى تعد وسيلة متقدمة، ورسالة سامية للتقارب مع الغير في عالم متشاحن منزوع الإخاء، مفصول العلاقات، و قد اعتمدها الصوفية في التواصل مع الآخرين، والتفاعل مع الغير، سواء كانت مقرونة بالآلات والأوزان والمقامات وهو قليل على اختلاف فيما بين المجيزين والمانعين، أو كانت أصواتا ناغمة بالمديح والسماع والإنشاد الذي لا يخفى تأثيره على الأرواح، وأثره في النفوس، أو كانت حركات راقصة بإيقاعات متناسقة مع ألحان الموسيقى أو السماع المعبرة عن الوجد أو التواجد أو الأحوال التي تعتري المريد حين تلامس أنوار الحضرة ذاته، وقد أجاز بعض الفقهاء كلا النوعين (الموسيقى بالآلات وبدونها)لاستدراج الوجدان والطبائع البشرية إلى باريها، قال أبو علي اليوسي:ولا شك أن استجلاب النفوس بمساعدة طبعها، أهدى لتقريب نفعها…وهذا دور مهيأ للموسيقى التي تسمى اليوم (الموسيقى الروحية)، والتي كانت ولا تزال وسيلة لالتقاء الديانات والحضارات على خشبة واحدة، ، سواء في الأندلس قديما، أو في فاس حديثا.
بل كانت مجالس المديح والسماع تعقد في بلاطات السلاطين والأمراء، وتحضرها الرعية على اختلاف مستوياتها الاجتماعية، وتباين خلفياتها الدينية، وكانت سببا لهذا التمازح الذي حصل فيما بين طبقات المجتمع، ومكونات الشعب، والانسجام فيما بينها وبين الراعي والنظام القائم، وهذه المواليد والحفلات مازالت وإلى يومنا هذا تقام في الأضرحة والمواسم والمناسبات الدينية على مستويات عليا ودنيا لتعبر عن مقدرة التصوف على اجتياز المتاريس التي وضعت في طريق الإخوة الإنسانية، واستطاعته أن يخلق جوا عاما تسيطر عليه الكرامة البشرية.
إن الاهتمام بالروحانيات التي تهبها دائرة التصوف، هو الفردوس المفقود عند كثير من الغربيين والمتغربين عن مغرب الروح من الشرقيين، فمشاكل العالم لا فكاك لها بدون الرجوع إلى هذه الروحانيات التي تسعى لتحرير الإنسان، وتعطي للحياة معنى ومدلولا إنسانيا، وتفسر مجموعة من الاستفسارات الباطنية المختمرة وجدانيا، وقد يعد هذا رافد من روافد ظهور مجموعات كثيرة في الغرب تهتم بالدراسات الروحية، بل مؤشرا حقيقيا لبروز مجموعات تؤوب إلى عالم الروحانيات بشكل ماض في التقدم فرارا من ضغطة الحضارة وانتكاساتها، ولا غرابة إذا رأينا أشعار ابن الرومي من أكثر الأشعار قراءة في الغرب خصوصا أمريكا، ولا عجب إذا وجدنا الكثير ممن قدم على الإسلام في الغرب جاء من قناة التصوف، ولا غرو إذا كانت الموسيقى بتأثيرها الباطني مشتركا تنسى فيه الذوات المتواجدة لذة التمايل مع المطلق، فالتصوف تعبير عن حقيقة الدين، و تعريف بجوهره المتسامي، وبديل عن المنظومات الفكرية والفلسفية التي أخفقت بسبب قصورها في نظرتها إلى الكون و الإنسان، وأوشكت على الانهيار بما تداعى فيها من قيم وأخلاق، و الغد القادم بإشراقه البهي سيكون بقدرة الله للتصوف الذي يعيش غيبة صغرى بسبب الثورة العارمة للوهابية على العقائد الخرافية!!! التي أفاضت طوفان الحقد والعداء للتصوف وللفرق والملل، وقسمت الأرض تقسيما عقديا وإيديولوجيا، وحرمت الأسفار إلى الغرب للتعلم والعمل، واعتبرت الطوائف التي تتعامل مع الغير خائنة وعميلة، واحتقرت بذلك كل التراكمات المعرفية التي أنتجها الإنسان.
خامسا، التصوف والتأويل،
إن التصوف جاء موازيا لحركة التأويل التي ظهرت مع النصوص الدينية، والتي تشاكلها حركة الجمود على النص، وهذا المنحى قد أثار حرارة فيما بين الفريقين يندفعان في بعض الأحيان ويتوازنان في البعض الآخر، لكن الحركة الصوفية كانت تستعمل التأويل بالرمز والإشارة لتخرج من متاحف النصوص التي لا تؤدي وظيفتها المنطقية والدينية، ولا تقوم بدورها في تكوين إرادة الفعل المسئول عند الإنسان، فالتصوف جاء على مستويات متفاوتة، يعطي الإنسان هذه القدرة على التهرب من الأسئلة المقلقة التي تعيق سير الحركة المجتمعية، وتجعل كثيرا من الطابوهات تعيش في سراديب الخفاء.
من المتملصين من المواجهة المباشرة للاعتراضات المنثورة على بساط الحوار والنقاش الذهني.
والتصوف بهذا المنحى، يعد أولا، قنطرة تخلص بواسطتها كثير من النبلاء من ضغط المؤسسة الدينية التي كانت تعتبر نفسها السلطة الوصية على الدين، والمسئولة عن جميع آليات المجتمع، وثانيا، وسيلة للتهرب من النقاش الحاد فيما بين التيارات المتعارضة على بساط النقاش، وثالثا، مظهرا من مظاهر التحرر والإنعتاق الذي ظهر في فترات كثيرة من تاريخ التصوف، ولا ريب أن هذه العلاقة الفوقية فيما بين الوساطة والمتوسط لهم، والمتجلية في تأطير النص في حدود بشرية تخدم المصلحة الذاتية أو الجماعية، قد حولت الدين عند كثير ممن عاشوا التجربة إلى مادة إلزامية تلغي ذات الفرد، وتجعله مهانا أمام خياراته الحقيقية التي تمليها عليه قيمه المعرفية والمعنوية، وهذا ما أنشأ مجتمعا مدججا بالنفاق يتوسل فيه العلماء والعباد إلى المؤسسة الحاكمة في تاريخنا القديم، أو إلى الشعوب بفتاوى أو توجيهات تستغل في خدمة الرغبات والأطماع الشخصية، فالتعبير الصوفي عن إرجاع القدرة والإرادة والتدبير المطلق إلى الله، يلغي سلطة الحاكم القائم بدون سند إلهي وشرعي، ويعطي للعقل وهجة تجعله يبحث عن الحقيقة في ذاته، وينطلق في نظرته إلى الأشياء من الذات في جمال صفائها، والتصوف بهذا المعطى تمرد على الواسطة فيما بين العابد والمعبود، وفيما بين الخالق والمخلوق، تسعى لتحطيم قيود المكان والزمان والاختلاف وصولا إلا الاتحاد التام بينهما، ويعبر الجنيد عن هذه العلاقة: أن تكون مع الله بلا علاقة. فإثبات المعية مع نفي العلاقة تعبير صارخ عن رفض مفاهيم: الوساطة والاختلاف والمسافة والشعائرية في الاتصال بالإله وتلك سمات وثيقة بالأديان السماوية يعبر عنها التصوف في أرقى معانيها.
خامسا :إن أعظم نص يجسد حقيقة حوار الحضارات عند الصوفية، ما قاله الشيخ الأكبر،ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلا كل صـورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طــائف
وألواح توراة ومصـحف قـرآن
أدين بدين الحب أنى توجـهت
ركائبه فالحب ديني وإيمـاني
إن أبيات ابن عربي تربط بين الحب ووحدة الأديان، وتدعوا إلى التوادد فيما بين الناس على اختلاف عقائدهم، فأصل الديانات واحد، وما يقع من خلاف فيما بينها، فحاصل في الأمور العرضية لا في الأصل والجوهر. فأبن عربي يذهب إلى الحد الذي يصور فيه قلبه مجالاً يستوعب كل الأديان والمعتقدات بحثاً عن الكمال، كما أنه يدعو إلى التسامح مع كل الأديان، لأن جميعها قد نبع من الله، وهو واحد إلا انه يتجسد في كل عصر على لسان نبي من الأنبياء، بلغة وأعراف خاصة، تتماشى مع الواقع والفهم، فالأديان منبعها سماوي وجوهرها واحد، وهدفها متحد، ومادام الحق واحدا في ذاته، فلا يمكن أن يصدر عنه الشيء ونقيضه، ومادام المصير واحدا فلا يهم أن تتعدد الطرق وأن تختلف وسائل التعبير والتبليغ، وهذا الحب الذي عبر عنه ابن عربي هو دستور الصوفية، وكتابهم المقدس، وسيرة حياتهم، كما قال ابن الفارض:
وعن مذهبي في الحب مالي مذهب() وإن ملت يوما عنه فارقت ملتى
فما أحوجنا في يومنا إلى هذه الأفكار, وما أفقرنا إلى من يتحدث عن نظرية الحب في الثقافات الإنسانية، ويرسي معالم التسامح بما يخدم البشرية جمعاء، ويساعدها على الخلاص من الفتن والقلاقل والحروب والتناحرات العنصرية.
سادسا : وفية الفلاسفة أخذوا من الفلسفة، إن لم نقل أنتجوها، فابن سينا حرر الفلسفة اليونانية وأضاف إليها ما يهذبها، وآخى بين العلم والإيمان، وجعل الإيمان فطرة إلهية تتوخى للإنسان حين شفافية روحه. يقول: يوجد رجال ذو طبيعة طاهرة اكتسبت نفوسهم بالطهر وبتعلقها بقوانين العالم العقلي، لذا هم ينالون الإلهام ويوحي إليهم العقلالمؤثر في سائر الشؤون، ويوجد غيرهم لا حاجة لهم إلى الدرسللاتصال بالعقل المؤثر; لا نهم يعلمون كل شيء بدون واسطة. هؤلاء هم أصحاب العقل المقدس، وهذا العقل لمن السمو بحيث لا يمكنلكل البشر أن ينالهم منه نصيب…وهذا القول صريح في ا نه يقصد بأصحاب العقل المقدس الأنبياء الذين يحظون بالوحي الرباني كما انه اعتراف منه بأصل كبير من أصول الأديان » ويقول الفيلسوف صدر الدين: « واعلم أن أساطين الحكمة المعتبرة عند طائفة ثمانية: ثلاثة منالمليين ثالس وأنكسيمانس وأغاثاذيمون، ومن اليونانيين خمسة، أنباذقلس وفيثاغورث وسقراط وأفلاطون وأرسطو قدسالله نفوسهم، وأشركنا الله في صالح دعائهم وبركتهم، فلقد أشرقت أنوار الحكمة في العالم بسببهم، وانتشرت العلوم الربوبية في القلوب بسعيهم، وكل هؤلاء كانوا حكماء زهادا عبادا متألهين معرضين عنالدنيا مقبلين على الآخرة، فهؤلاء يسمون بالحكمة المطلقة، ثملم يسم أحد بعده هؤلاء حكيما، بل كل واحد منهم ينسب إلىصناعة كبقراط الطبيب وغيره » وهذا يؤكد التشارك الذي زاوج بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية التي يعد التصوف قسما منها، والذي درس الفلسفة الغربية سيرى مدى تأثرها بالتصوف الإسلامي، بالفلسفة الإسلامية خصوصا ما أنتجه الفلاسفة المتصوفون، وسيكتشف الجوانب المضيئة التي منحها التصوف إياها، فابن رشد درست كتبه في الغرب وما زالت، ودانتي تأثر بابن عربي تأثرا بليغا، وجوته الشاعر الألماني كان مناغيا التصوف الإسلامي في مجموعة من قصائده، وهناك مجموعة كبيرة من فلاسفة الغرب كبيرجسون، ونيتشه، وغيرهما يمكن لنا أن نعدهم صوفية بالمعنى الحديث، فالبحث عن الحقيقة، والنقاش في الإنسان الكامل، مواضيع مبحوثة في الفلسفة الغربية الحديثة، وهي من رصيد التصوف الإسلامي، ونظرية الإنسان الكمال هي مشترك آخر فيما بين الديانات والفلسفات القديمة والحديثة، وهنا تلتقي الديانات مع التصوف في وحدة جامعة تسمى صناعة الإنسان الكامل.
وأخيرا، أتمنى أن تزول العقول المكدرة بالوهم عن طريق الحوار ليتم التشارك والتفاعل والمساهمة في بناء مستقبل زاهر تسعد فيه الإنسانية برعاية حق ربها عليها، وماذلك على ربنا بعزيز.
___________
المصدر : موقع الصفوة للدراسات الانسانية .
http://safwaweb.com/modules.php?name=News&file=article&sid=48