إن الأساس الصحيح للتصوف الإسلامي مكون من ثلاثة عناصر :
أولها جعل الإيمان النظري شعوراً نفسياً غامراً وتحويله من عقل يتصور إلى قلب يعي ويتحرك.
ثانيها: تهذيب النفس بحيث يكون الإنسان مستجمعاً للفضائل متنزهاً عن الرذائل حتى يرشحه هذا الترقي لقبول الله له ورضوانه عليه.
آخرها:النظر إلى الوجود الصغير في هذه الحياة على أنه جزء من الوجود الكبير الممتد بعد الموت فلا اغترار بالدنيا ولا استيحاش من الموت ولا ضيق من العودة إلى الله.
وهذه العناصر معروفة في سيرة الرسول وصحبه بل وفي سيرة الأنبياء على اختلاف العصور,وجمع حقائقها تحت اصطلاح علمي تصرف مألوف في المدنيات الإنسانية,فقد قبلنا علم العروض وانتفعنا بدراسته وهو علم لم يعرفه من قبل أئمة الشعر في الجاهلية أو صدر الإسلام,فهم قد سبكوا عواطفهم على إيقاع موسيقى الفطرة وأرسلوها قصائد تروى وتغنى ثم جاء من بعدهم من كشف أسرار هذه الموسيقى وبحورها المختلفة فصاغ منها قواعد وأسس علم العروض وإن كانت مجرد دراسته لا تنشئ شعراً ولا تكوّن ملكة الأدب لكنها تضبط نظم المحدثين وتحميهم من الخطأ.
وسلفنا الصالح كان يستجمع في حياته النفسية والاجتماعية العناصر الثلاثة التي سبق ذكرها لكنه لم يعرف كلمة تصوف بحد ذاتها كما كان يجيد النطق دون معرفة النحو ويجيد التفكير والاستنتاج من غير أن يدرس المنطق ثم نشأت تلك العلوم مع الحاجة إليها..
وظهر التصوف مع ما ظهر من دراسات وإن كان نشأ سلوكاً ونمطاً في الحياة قبل أن يكون علماً ينتمي إلى أسرة العلوم الدينية,ولما كان الإسلام ينبع من أصول معروفة هي كتاب الله وسنة رسوله فإن أي علم من علومه محكوم قطعاً بهذه الأصول,وليس يُتصور أن يتضمن شيئاً مخالفاً لتلك المصادر الأساسية إلا إذا فرضنا مثلاً أن علم النحو يتضمن رفع المفعول ونصب الفاعل؟؟؟!!
فالتصوف نزعة إنسانية عامة تلتقي فيها الطبيعة النفسية لبعض الناس مع طبيعة الإيمان العميق بأي دين لكن لا بد من أساس عقلي صالح ومهاد شرعي كيلا تذهب تلك الشحنات العاطفية -التي تعبر عن حنين الروح لخالقها- عبثاً..
وفي الكتاب والسنة ينابيع لليقين الحي والإخلاص الصافي والناس عموماً تحب صنوف الجمال وتبحث عنها,فإذا كان المرهقون يقصدون الحدائق الغناء ابتغاء الخضرة اليانعة والهواء العذب فإن الأرواح الناشدة للجمال الهافية للخير والرضا تجد في آي القرآن وآثار النبي حقائق يسجد لها العقل وينفسح لها الصدر والتصوف الإسلامي في صورته المقبولة لا يعدو أن يكون مزيداً من الصلة بالله والاعتصام به وهذا ما يجعل العبد عاشقاً للطاعات متبعاً لشعب الإيمان يقيمها في نفسه وفيمن حوله.
إذاً في مجال العاطفة الفوّارة والقلب الخفّاق بحب الله ورسوله ولد التصوف الإسلامي الأول دون أن يحمل بداية هذا الاسم ولا يتصور عاقل أن يخرج عنهما قيد أنملة بيد أن للعاطفة الإنسانية في كل زمان ومكان اهتزازات تحتاج إلى ضبط وهذا ما فطن إليه العلماء الأوائل فأكدوا أن أي انحراف عن الكتاب والسنة هو خروج بصاحبه عن الصراط المستقيم.
والتصوف بعد أن طال عليه الأمد اختلط بأوحال كثيرة حتى آثر البعض الإعراض عنه بالكلية لما طفحت به بعض الكتب من أباطيل وترهات,لكن الإنصاف يقتضي منا التمحيص وتمييز الخبيث من الطيب. وما سعينا وراء هذا العلم إلا لأنه لا غنى عنه ولا بديل ليقوم بوظيفة التربية القلبية والإيقاظ العاطفي للنفس الإنسانية والإسلام لا يستغني أبداً عن هذا الجانب ذلك إن علوم الدين تستهدف صيانة النفس وتلتقي جميعاً عند تكوين الإيمان ومطالبه ولا بد أن يكون بينها علم يقوم على رفع الإنسان إلى مقام الإحسان,علم يعالج العلل العقلية والنفسية التي تحجب المرء عن ربه أو التي تهتم بأشكال العبادات دونما ارتباط بجوهرها وحكمتها,ذلك أن شر ما يصيب المتدينين هو تحول الطاعات إلى عبادات تؤدى في غيبة العقل وغفلة الشعور فتغدو فاقدة لثمارها المرجوّة..
لذا فأمر هام جداً تعهد الناشئة والكبار بما يوجه عواطفهم وآمالهم إلى الله تعالى ولا بد من إقامة ذلك على أسس صحيحة علينا بها الاستعانة بمقررات علم النفس وما ورد في الآداب الإنسانية من تجارب وصور ,ولا أظن أحداً ينكر مدى حاجة الناس إلى هذا اللون من المعرفة والتربية.
فلنسمّ هذا العلم تصوفاً أو تزكية للنفس أو أي اسم آخر فلا مشاحة في التسميات ما دام الهدف معروفاً والطرق إليه مستمدة من صحيح الدين.
إن الدين الذي تهفو إليه الإنسانية ليس جملة معارف يصدقها العقل بعد أن يدرك صحتها ولكنه إحساس بالوجود الإلهي وظمأ الروح إلى خالقها ورضاه.. إنه أنسٌ بالله في صلاة خاشعة وصيام عفيف..ونحن بحاجة إلى علم تُدرس فيه طرق تحويل الحقائق الدينية النظرية إلى خلق لازم وعمل دائم وأسلوب في الحياة معروف الهدف منسق الخطوات..
ليست قيمة المرء فيما يصل إليه من حقائق وما يهتدي له من أفكار سامية,ولكن في أن تكون تلك الأفكار هي نفسه وعمله وحياته الخارجية كما أنها حياته الداخلية فالفكر بلا عمل نقاش عقيم وإنما تُستمد قوة الفكرة من تحويلها إلى عمل ووضعها موضع التجربة وعيب الأفكار السامية أنها إن لم ترتبط بالعمل ولم تعبر عن حقيقة نفس قائليها أو من يملكون تنفيذها ستظل عديمة القيمة والأثر.
فكم من دعوة للإصلاح وجهت في مختلف المناحي ولم يظهر لها أثر ولم نكسب منها إلا أزماناً ضاعت في التفكير وأموالاً فقدت للصرف على الخبراء ومجهودات عقلية في رسم الخطط..ثم؟؟ وقف الأمر حيث ابتدأ لأن السلك الي يمتد بين الفكرة والعمل مقطوع فالتيار لا يتحول لنور ولا حرارة ولا شيء مما ينفع الناس فإذا أردنا الإصلاح الحقيقي فيجب أن نتعلم كيف نحول الفكر إلى تطبيق وممارسة ? كيف نحييها من عالم الخيال إلى عالم الواقع? فلا عبرة بصحة الفكرة أو خطئها مادامت حبيسة عالم الفكر المجرد وما يجب على المسلم هو الالتزام بشريعة الله معنى ومبنى والانفعال بتعاليمها قلباً وقالباً والرقي لمستواها فكراً وعاطفة وسلوكاً………
____
المصدر : موقع الاستاذ عمرو خالد / اقتباس من كتاب ركائز الإيمان بين العقل والقلب للشيخ محمد الغزالي رحمه الله .
http://www.amrkhaled.net/articles/articles2150.html