سر ورود لفظة البلاء في القرآن الكريم (38) مرة على اختلاف مشتقاتها هو رقم اثنين ؛ وذلك أننا إذا جمعنا 8+3=11=2 ورقم الاثنين فيه رمز الاندماج وهذه حقيقة البلاء ؛ إذ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب .
قال نبينا الأعظم سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم : ( من أعطي فشكر ، وابتلي فصبر ، وظلم فغفر ، وأذنب فاستغفر ، ثم سكت عليه السلام ، فقالوا : ما له يا رسول الله ؟ قال : أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) أي لهم الأمن يوم القيامة ، وهم مهتدون في الدنيا ، وقيل لهم الأمن في الدارين وهم مهتدون إلى حضرته في الكونين . وإذا أراد الله أن يطوي مسافة البعد بينه وبين عبده سلط عليه البلاء حتى إذا تخلص وتشحَّر صلح للحضرة كما تصفى الفضة والذهب بالنار لتصلح لخزانة الملك ، وما زالت الشيوخ والعارفون يفرحون بهذه النوازل ويستعدون لها في كسب المواهب (1) .
وسئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ثم يبتلى الناس على قدر دينهم ، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه ، ومن ضعف دينه ضعف بلاءه (2) .
ويعبر لغوياً عن البلاء والابتلاء بمعنى : الاختبار والامتحان ، ويكون إما بالخير أو بالشر ، والنعمة والنقمة ، ويرى الصوفية أن الابتلاء هو امتحان واختبار من الله تعالى لعبده الصادق ليتعرف تعالى على مدى صدقه وإخلاصه في محبته له .
والابتلاء بهذا المعنى في قوله تعالى : إِنّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ القلم (17) ، وكذلك قوله تعالى : وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما في صُدورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما في قُلوبِكُمْ آل عمران (154) ، كما أن الابتلاء بمعنى البلاء الحسن ، أي : النصر من عند الله تعالى ، فالله يختبر عبده المخلص ليظهر كيف يكون حاله بعد البلاء ، وذلك في قوله تعالى : وَلِيُبْلِيَ الْمؤْمِنينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً الأنفال (17) ، وكما في قوله تعالى : هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنونَ وَزُلْزِلوا زِلْزالاً شَديداً الأحزاب (11) ، وهذا البلاء يعني أيضاً اختبار الله تعالى للمؤمنين ، حتى يظهر صدقهم وإخلاصهم وتوكلهم على الله في كل الأمور ، كما جاء في الآية الكريمة وَفي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظيمٌ البقرة (49) .
ويرى الغوث عبد القادر الكيلاني قدس سره : أنه لولا الابتلاء والاختبار لادعى الولاية خلق كثير ولذلك قال بعضهم : وُكِّل البلاء بالولاية كي لا تدعى ، وأن علامة الصحة في الولاية ، الصبر على الأذى ، والتجاوز عن أذى الخلق ، فالأولياء يتعامون عما يرون من الخلق ، فلا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف بالله ولا يتحمل إذاه ولا يقدر عليه إلا الأولياء »(3) .
يقول الشيخ الجنيد البغدادي قدس الله سره عن البلاء : « هو سراج العارفين ، ويقظة المريدين ، وهلاك الغافلين »(4) .
ويقول أبو القاسم القشيري : « البلاء : هو سمة الولاء ، فمن تم بلاؤه صح ولاؤه »(5) .
ويقول الشيخ الأكبر ابن عربي عن البلاء : « هو سوط من سياط الله ، يسوق به عباده إليه ، لتصفيتهم عن صفات نفوسهم ، وإظهار ما فيهم من الكمالات ، وانقطاعهم عنده من الخلق ، ومن النفس إلى الحق ، ولهذا كان متوكلاً بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل »(6) .
وفي أصل الابتلاء يقول الشيخ الأكبر ابن عربي : « الابتلاء أصله الدعوى ، فمن لا دعوى له لا ابتلاء يتوجه عليه ، ولهذا ما كلفنا الله حتى قال لنا : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ الأعراف (172) ، فقلنا : بَلى فأقررنا بربوبيته علينا ، وإقرارنا بربوبيته علينا عين إقرارنا بعبوديتنا له ، والعبودية بذاتها تطلب طاعة السيد ، فلما ادعينا ذلك حينئذ ، كلفنا ليبتلي صدقنا فيما ادعيناه »(7) .
وفي أنواع البلاء يقول الغوث الأعظم عبد القادر الكيلاني قدس سره العزيز : « المبتلى تارة يبتلى عقوبة ومقابلة لجريمة ارتكبها ومعصية اقترفها ، وأخرى يبتلى تكفيراً وتمحيصاً ، وأخرى يبتلى لارتفاع الدرجات … فعلامة الابتلاء على وجه المقابلة والعقوبات : عدم الصبر عند وجودها ، والجزع والشكوى إلى الخليقة والبريات .
وعلامة الابتلاء تكفيراً وتمحيصاً للخطيئات : وجود الصبر الجميل ، من غير شكوى ، وإظهار الجزع إلى الأصدقاء والجيران ، والتضجر بأداء الأوامر والطاعات .
وعلامة الابتلاء للارتفاع : وجود الرضا والموافقة ، وطمأنينة النفس ، والسكون بفعل إله الأرض والسماوات والفناء فيها إلى حين الانكشاف بمرور الأيام والساعات »(8) .
ويقول الشيخ أحمد الرفاعي الكبير قدس الله سره : « الابتلاء على نوعين : إكرام وإهانة ، فكل بلاء يقربك من المولى : فهو في الاسم بلوى ، وفي الحقيقة زلفى ، وكل بلاء يبعدك عن المولى : فهو في الحقيقة بلوى . ألا ترى الله تعالى ابتلى إبراهيم – عليه السلام – وكان سبب ابتلائه الخلة والقربة ، وابتلى إبليس ، وكان سبب ابتلائه اللعنة والفضيحة ، فقال إبراهيم في البلوى : حسبي ربي ، وقال إبليس : حسبي نفسي فنودي لإبراهيم – عليه السلام – بالخلة ، ولإبليس باللعنة »(9) .
وفي فوائد البلاء يقول الإمام علي بن أبي طالب – عليه السلام – : « الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره إخراجاً للتكبر من قلوبهم ، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم . وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله ، وأسباباً ذللاً لعفوه »(10) .
ويقول الإمام محمد الباقر – عليه السلام – : « إن العبد ليكون له عند الله الدرجة السنية العظيمة الشريفة فيبتليه بالبلاء : لكي ينال تلك الدرجة ، فيعيدوا إليه الناس أفواجاً يعزونه ويتوجعون له مما أصابه ، ولو علموا ما آتاه الله من تلك الدرجة لم يتوجع له أحد ولم يعزه أحد » (11) .
ويقول الإمام جعفر الصادق – عليه السلام – : « البلاء زين المؤمن ، وكرامة لمن عقل ، لأن في مباشرته والصبر عليه ، والثبات عنده تصحيح نسبة الإيمان . قال النبي : نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ، والمؤمنون الأمثل فالأمثل ومن ذاق طعم البلاء تحت سر حفظ الله له ، تلذذ به أكثر من تلذذه بالنعمة ، واشتاق إليه إذا فقده ، لأن تحت ميزان البلاء والمحنة أنوار النعمة ، وتحت أنوار النعمة نيران البلاء والمحنة ، وقد ينجو من البلاء ، ويهلك في النعمة كثير . وما أثنى الله على عبد من عباده من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد ابتلائه ووفاء حق العبودية فيه ، فكرامات الله في الحقيقة نهايات بداياتها البلاء ، وبدايات نهاياتها البلاء . ومن خرج من سكة البلوى جعل سراج المؤمنين ومؤنس المقربين ودليل القاصدين . ولا خير في عبد شكى من محنة تقدمها آلاف نعمة ، وأتبعها آلاف راحة . ومن لا يقضي حق الصبر في البلاء ، حرم قضاء الشكر في النعماء ، كل من لا يؤدي حق الشكر في النعماء ، يحرم من قضاء الصبر في البلاء ، ومن حرمها ، فهو من المطرودين »(12) .
أما في كيفية نزول البلاء على القطب وتوزيعه على الخلق ، يقول الشيخ علي الخواص : « [ ينزل البلاء على القطب ] كما ينزل عليه النعم والإمداد [ ثم ينتشر منه ] … ينزل عليه البلاء الخاص بأهل الأرض كلهم ، ثم يفيض عنه . فإذا نزل عنه بلية تلقاها بالخوف والقبول ، ثم ينتظر ما يظهره الله في ألواح المحو والإثبات الخصيصة بالإطلاق والسراح . فإن ظهر له المحو والتبديل ، نفذ قضاء الله وأمضاه بواسطة أهل التسليك : الذين هم سدنة حضرته بحيث لا يشعرون بأن الأمر مفاض عليهم ، ومن قال عرفته وإن ظهر له الإثبات لذلك الأمر وعدم المحو دفعه إلى أقرب عدد ونسبة منه ، وهما : الإمامان ، فيحتملانه ، ثم يدفعانه إلى أقرب نسبة منهما : وهم الأوتاد الأربعة ، وهكذا حتى يتنازل إلى أهل دائرته جميعاً ، فإن لم يرتفع ، تَفَرَّقَتْه الأفراد وغيرهم من العارفين إلى آحاد عموم المؤمنين حتى يرفعه الله بتحملهم . وكثير ما يجد أحد في نفسه ضيقاً وحرجاً ولا يعرف سببه وبعضهم يحصل قلق ، بعضهم يحصل لهم غفلة وكثرة صمت حتى لا يستطيع النطق بحرف واحد ، وكل ذلك من البلاء الذي يوزع عليهم ، ولو لم يحصل توزيع لتلاشى من نزل عليهم البلاء في طرفة عين ، فلذلك قال تعالى : وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذو فَضْلٍ عَلى الْعالَمينَ البقرة (251) »(13) .
وفي علاقة البلاء بالدعاء يقول الإمام علي بن أبي طالب – عليه السلام – : « ما المبتلى الذي قد اشتد به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء »(14) .
ويقول الغوث الأعظم عبد القادر الكيلاني قدس سره : « إنما يبتلي الله طائفة من المؤمنين الأحباب من أهل الولاية ، ليردهم بالبلاء إلى السؤال فيجيب سؤالهم ، فإذا سألوا يجب إجابتهم ، فيعطي الكرم والجود حقهما »(15) .
وفي الفرق بين البلاء والابتلاء ، يقول الشيخ محمد النبهان : « الفرق بين البلاء والابتلاء هو أن الأول : اسم المنتقم ، والثاني : اسم المحب : إذا أحب الله عبداً ابتلاه » (16) .
ويقول الشيخ ابن عطاء الأدمي : « في أوقات البلاء يتبين صدق العبد من كذبه ، فمن كذب في أوقات الرخاء وجزع في أوقات البلاء ، فهو من الكذابين »(17) .
ويقول الشيخ عبد الوهاب الشعراني : « البلاء يكون : على قدر الإتباع ، والإرث لرسول الله محمد » (18) .
ويقول الشيخ الجنيد البغدادي : « ليس من صفات البشر أن يتجلد على البلاء إلا بالنظر إلى المبلي ، إذ ذاك يصير البلاء عنده نعمة »(19) .
ومن وصايا الغوث الأعظم عبد القادر الكيلاني قدس سره : « دع البلية تزورك خل من سبيلها ، ولا تقف ، ولا تجزع من مجيئها وقربها ، فليس نارها أعظم من نار جهنم ولظى ، فقد ثبت في الخبر المروي عن خير البرية وخير من حملته الأرض وأظلته السماء محمد المصطفى أنه قال : أن نار جهنم تقول للمؤمن جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي فهل كان نور المؤمن الذي أطفأ لهب النار في لظى إلا الذي صحبه في الدنيا الذي لمن يمر بها من أطاعها وعصى ، فليطفئ هذا النور لهب البلوى … فالبلية لم تأتك لتهلكك ، لكنها تأتيك لتجربك ، وتحقق صحة إيمانك ، وتوثيق عروة يقينك ، ويبشرك باطنها من مولاك بمباهاته بك ، قال الله تعالى : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدينَ مِنْكُمْ والصّابِرينَ وَنَبْلُوَ أَخْبارَكُمْ محمد(31) … فإذا كان أمره – عز وجل – فتسامع وتسارع وتحرك ، ولا تسكن ولا تسلم للقدر والفعل ، بل ابذل طوقك ومجهودك لتؤدي الأمر ، فإن عجزت فدونك الالتجاء إلى مولاك – عز وجل – ، فالتجئ إليه وتضرع واعتذر ، وفتش عن سبب عجزك عن أداء أمره ، وصدك عن التشوق لطاعته »(20) .
وفي البلاء الحسن يقول الإمام موسى الكاظم – عليه السلام – : « البلاء الحسن : هو أن يفنيهم عن نفوسهم ، فإذا أفناهم عن نفوسهم ، كان هو عوضاً لهم عن نفوسهم »(21) .
____________
الهوامش :-
1-إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة
2-كشف الخفاء للهجويري
3-معجم ألفاظ الصوفية للدكتور حسن الشرقاوي
4-مخطوطة آداب المريدين للشيخ أبو النجيب السهروردي
5-أربع رسائل في التصوف لأبي القاسم القشيري للدكتور قاسم السامرائي
6-تفسير القرآن الكريم للشيخ ابن عربي
7-الفتوحات المكية لابن عربي
8-فتوح الغيب ( بهامش قلائد الجواهر للتادفي ) للشيخ عبد القادر الكيلاني
9-حالة أهل الحقيقة مع الله للشيخ أحمد الرفاعي
10-نهج البلاغة للشيخ محمد عبده
11-مشكاة الأنوار في غرر الأخبار للطبرسي
12-العالم الفكري للإمام جعفر الصادق للكاتب عادل خير الدين
13-مخطوطة الجواهر والدرر للشيخ عبد الوهاب الشعراني
14-نهج البلاغة للشيخ محمد عبده
15-فتوح الغيب ( بهامش قلائد الجواهر للتادفي ) للشيخ عبد القادر الكيلاني
16-الآحاد والمثاني في فضائل الصحابة للطرابلسي
17-مخطوطة آداب المريدين للشيخ أبو النجيب السهروردي
18-لطائف المنن والأخلاق في بيان وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق للشيخ عبد الوهاب الشعراني
19-حقائق التفسير للشيخ أبو عبد الرحمن السلمي
20-فتوح الغيب ( بهامش قلائد الجواهر للتادفي ) للشيخ عبد القادر الكيلاني
21-حقائق التفسير للشيخ أبو عبد الرحمن السلمي .
المصدر :- مكتب الاعلام والارشاد .