إن الإرشاد هو هداية الخلق إلى الحق ، يقول تعالى عن حضرة المرشد الأعظم سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما: { وَإِنَّكَ لَتَهْدي إلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ}(1) ، أي ترشدهم على ما فيه فلاحهم ونجاحهم في الدنيا والآخرة .
والأصل القرآني في الإرشاد يعود إلى ثاني أو ثالث نص قرآني نزل من سماء الحكمة الإلهية إلى أرض الخلافة الإنسانية ، وذلك في قوله تعالى :{ وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الْأَقْرَبينَ }(2) حيث نزل الإذن بتبليغ الرسالة الإسلامية وكانت بداية الإرشاد والدعوة إلى الله .
ثم استمر الإرشاد في طور الدعوة السرية ثلاث سنين ، وبعدها انطلق الإرشاد العلني من دار الأرقم بن أبي الأرقم إلى العالم أجمع ، ولازال ولن يزول حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
مراتب المرشدين عند ظهور حضرة الرسول الأعظم
يمكن تقسيم مراتب المرشدين في زمن ظهور حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليماإلى مرتبتين رئيسيتين :
أولاً : مرتبة المرشد الأعظم
المرشد الأعظم : هو من يكون مأذوناً من الله تعالى بالدعوة ، يقول تعالى : {وَداعِياً إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنيراً }(3) ، وحقيقة هذا الإذن هي مد الله تعالى للمرشد بالقوة الروحية التي تعينه في مهمة الإرشاد ، والآية الكريمة تشير إلى ذلك ، فالمرشد المأذون ليس داعياً إلى الله فقط ، وإنما هو في نفسه سراجاً منيراً ، أي : ممداً لمن يرشده بالهمة والقوة الروحية التي تنور لبصيرته الطريق وتدفعه للسير فيه وتعينه على الاستمرار فيه والثبات عليه .. وكان هذا المرشد هو حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما. وبهذه القوة الروحية استطاع حضرته أن يحول قلوب رجال كانت أقسى من الصخر الصوان إلى أرق من الحرير الناعم ..
إن مرتبة الإرشاد العظمى هي مرتبة الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في كل زمن ، وهذه المرتبة قد نص عليها القرآن الكريم في قوله تعالى :ادْعُ إلى {سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }(4) ، فكان حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليماهو المرشد الأعظم للناس في زمن ظهوره ، وكان يرشدهم بما يناسب كلٌ منهم بالحكمة والموعظة الحسنة .. ولكن ما هي الحكمة ؟
إنها القوة الروحية التي نزلت مع حضرته والتي تمثلت بالمعجزات المحمدية والإفاضات النورانية التي كانت تطهر القلب وتزكي النفس فتنقل الإنسان من عالم إلى عالم في اقل من طرف العين ..
ولقد امتلأ التأريخ الإسلامي بأخبار الذين أخذوا طريق الحق وآمنوا بالله ورسوله بعد رؤية أحد الخوارق الكثيرة بين يديه الكريمتين .
كما وحفل بأخبار الذين تطهرت دواخلهم وصفت قلوبهم وزكت نفوسهم على أثر لمسة من حضرته أو نظرة أو مكاشفة على ما في السر أو دعوة أو غيرها من خواصه الروحية . لقد كان مرشداً روحياً وليس مبلغاً بلسانه فقط ، وإلى هذا أشار القرآن الكريم في قوله تعالى :{هُوَ الَّذي بَعَثَ في الْأُمِّيّينَ رَسولاً مِنْهُمْ يَتْلو عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ }(5) .
وأما الإرشاد بالموعظة الحسنة فلم تعهد ولن تعهد الدنيا من دعا بقوة الكلمة وأثر في قلوب سامعيه بواسطتها كما فعل حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما، فكان من ثمارها الإفاضات الضخمة التي تجلت في السنة النبوية المطهرة .
لقد أشارت الآية الكريمة على أن الداعي إلى الله بإذنه هو من يملك القوة الروحيه ، ولهذا نصت على ضرورة الدعوة بها مقرونة بالموعظة ، فلم يقل الحق تعالى : ادع بالحكمة أو الموعظة بل قال : بالحكمة والموعظة أي بهما معاً . وهذه ميزة خاصة في الإرشاد ما ينالها إلا قليل .
ثانياً : مرتبة المرشد العادي
لقد كان حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما يأمر المسلمين الأوائل من الصحابة الكرام بالإرشاد ، ليبلغوا رسالته إلى الناس ، وكان يختص بعضهم ببعض المهام كل على حسب إمكاناته .
فمنهم من أرسله ليرشد قبيلته ، كالصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه الذي كان لا يفتأ يجهر بالدعوة إلى الله فيوجعه الكفار ضرباً حتى يفقد وعيه ، ولم يوقفه شيء إلا أن أرسله حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما إلى قبيلته غفار التي كانت من أشرس قبائل العرب في السلب والنهب والسطو على القوافل ، فكان أن وفقه الله وهدى على يديه قبيلته وقبيلة اسلم المجاورة لهم والتي كانت لا تقل عن قبيلة غفار في القتل والنهب . ومن الصحابة المرشدين من أرسله إلى غير دياره ، كالصحابي مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي الذي اشتهر بأنه أول سفير في الإسلام ،حيث بعثه حضرته إلى المدينة ، فكان أن وفق في إرشاده في السنة الأولى إلى عدد من رؤساء العشائر اختار منهم أثنى عشر مسلماً قدموا إلى مكة وبايعوا حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما سراً في العقبة ، فكانت تلك أول بيعة في الإسلام ، وبعد إتمام البيعة سما حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما أولئك المبايعين بالنقباء ، وأعطاهم جميعاً الإذن بالإرشاد إلى طريق الحق والهدى ، فكان أن قدموا من قابل في اثنين وسبعين فارساً من فرسان المدينة وبايعوا بيعة العقبة الثانية ، وأعطوا الأذن بالإرشاد جميعهم . ومن الصحابة من اقتصر في إرشاده على نفسه وعلى أهل بيته ، كالصحابي عمار بن ياسر رضي الله عنه . ولكن ما حقيقة هذه المرتبة في الإرشاد ؟ لقد كان الإرشاد في بداية الدعوة الإسلامية متوجهاً بشكل رئيس إلى أمرين : الأول : التوحيد ، ونبذ الشرك . ومفتاح ذلك ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . الثاني : إطاعة الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولاً وفعلاً . وعلى هذا فقد كانت للمرشدين واجبين : الأول : الإرشاد إلى الدخول في الإسلام . الثاني : تعليم الذين يسلمون أمور الدين . وهذا النوع من الإرشاد كان مقتصراً على التبليغ بالموعظة الحسنة ، أي بالكلمة لا بالمعجزة من قبل المرشد . بمعنى أن دور المرشد في هذه المرتبة هو دور النقل فقط دون القدرة على التأثير الروحي في المدعو إلى الإسلام أو الإيمان ، وأما في حالة حدوث خارقة أو تأثير في المدعو إلى الإسلام بين يدي المرشد العادي ، فإن هذا يرجع في حقيقة الأمر إلى قوة المرشد الأعظم الذي يمد المرشد العادي بالقوة الروحية حال الإرشاد ليس إلا . إن حقيقة التأثير النوراني لحضرة الرسول الأعظم في الأشياء قد يظهرها على يد من يشاء من المسلمين مرشداً كان أم لم يكن ، والشواهد على ذلك كثيرة : منها ما أخرجه أحمد بن حنبل عن وكيع عن أبيه قال : كنت مع رسول الله ونزلنا بأرض فيها شجر كثير ، فقال لي :اذهب إلى تلك الشجرتين فقل لهما : إن رسول الله يأمركما أن تجتمعا فذهبت إلى تلك الشجرتين فقلت : أنا رسول رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما وهو يأمركما أن تجتمعا ، فاجتمعتا … [ثم] قال :قل لهما تفترقان فقلت لهما فتفرقا (6) .
ومنها ما روي عن ابن بريدة عن أبيه قال : جاء أعرابي إلى النبي فقال : يا رسول الله قد أسلمت فأرني شيئاً ازدد به يقيناً ،
فقال :ما الذي تريد ؟
قال : ادع تلك الشجرة أن تأتيك .
قال : {اذهب فادعها }.
فأتاها الأعرابي ، فقال : أجيبي رسول الله .
قال : فمالت على جانب من جوانبها فقطعت عروقها ، ثم مالت على الجانب الآخر فقطعت عروقها ، حتى أتت النبي ، فقالت : السلام عليك يا رسول الله .
فقال الأعرابي : حسبي ، حسبي .
فقال لها النبي :{ارجعي فرجعت فجلست على عروقها وفروعها }.
فقال الأعرابي : ائذن لي يا رسول الله أن أُقَبِّلَ رأسك ورجليك ، ففعل ، ثم قال : ائذن لي أن أسجد لك .
قال:لا يسجد أحد لأحد ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة ان تسجد لزوجها(7) .
فما حصل في الحديثين الشريفين هو أن حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما لم يأمر الشجرة بالحركة وإنما أعطي الأذن الوقتي لأحد المسلمين ليقوم بذلك ، وكما مد رسول الله الرجلين بقربه ، فهو يمد المرشدين عند الحاجة لهذا المدد مهما كانت المسافة بينهما ، إذ أن القوة الروحية لا تمنعها الحواجز المادية ولا المسافات الكونية ولقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة هذه القوة المحمدية الفاعلة والمؤثرة بالله في النفوس والأشياء في أكثر من مناسبة ، منها قوله تعالى :{وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمى }(8) ، فحضرته بالله يفعل ويؤثر ويمد ، ومن كان الله مصدر همته وقوته ، فلا محال يقف أمامه لقوله تعالى : { إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقولَ لَهُ كُنْ فَيَكونُ}(9) . إذاً المرشد العادي ليس مصدر همة أو قوة روحية ، وإنما آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر بيده أو لسانه أو قلبه فقط على حسب إمكاناته وقوة إيمانه .
وعلى هذا كان جميع الصحابة الكرام باستثناء الوارث الروحي للحضرة المحمدية المطهرة سيدنا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الذي ناب عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما في مهمة الإرشاد العظمى ، وكما يلي بيانه .
مراتب المرشدين بعد انتقال حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما
سبقت الإشارة إلى إن صحبة المسلمين الأوائل لحضرة الرسول الأعظم لم تكن علاقة ظاهرية فقط وإنما روحية كذلك . إذ بينما كان الصحب الكرام يفيدون من توجيهات مرشدهم الأعظم ومن مراقبتهم لسلوكه ، كان في الوقت نفسه يؤثر فيهم روحياً بما يغدق عليهم من أحواله التي يزكي بها قلوبهم . ولكن هنا مسألة يجدر طرحها : لقد فاز من أكرمه الله تعالى بالخلق في زمن ظهور حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما وهداه على يديه بمراتب كثيرة منها ما نحن بصدد بحثه وهو الاستفادة الروحية من حضرته ، فهل ترك من أرسله الله رحمة للعالمين بقية المسلمين الذين سيخلقون من بعد انتقاله بدون هذه القوة أو الهمة الروحية ؟ لعل قائلاً يقول : إن زمنهم كان يتطلب ذلك بسبب تعلق قلوبهم ونفوسهم بالشرك ، وأما فيما بعد انتشار الإسلام فلا حاجة لذلك . ونقول : فهل انتشر الإسلام في زمنه إلى حد أن جميع المشركين أو الكفار لمسوا من تلك القوة شيء ؟ هل خلت الأرض في زمنه أو بعد زمنه من الشرك أو الكفر ؟ إذا كان الجواب هو : لا ، فإن الحاجة لظهور القوة الروحية لم تنتهي ، والدافع أو السبب الذي كان وراء ظهورها في كل الأمم السابقة ومن ثم في أمتنا لازال قائماً لم
ينتهي ، وعلى هذا يفترض أن لا تنقطع .. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى نقول : هل يا ترى إن هذه القوة نزلت لتحطيم آلهة الحجارة فقط ؟ إذا كان الأمر كذلك فمن لتحطيم آلهة الهوى ؟! إن حقيقة القوة الروحية التي نزل بها حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليماجاءت لتحطيم الباطل كله أنى كان وكيف كان ، جاءت لتري الإنسان آيات الحق في الآفاق والنفس معاً ، يقول تعالى :{سَنُريهِمْ آياتِنا في الْآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}(10) ومازال في الإنسانية من لم يصل أو يطلع على هذه الحقيقة ، فإن هذه القوة المحمدية الروحية باقية تحاول تنوير الطريق له لعله يذكر أو يخشى .. ولنستمع إلى حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليماوما يقول عن ذلك :{إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي . كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وان اللطيف أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فأنظروا بم تخلفوني فيهما} (11) .
فقد حسم حضرته الأمر وصرح ببقاء القوة الروحية ممثلة بالولي المرشد الذي هو قرين القرآن الكريم ، وبهذا يبقى السراج المنير موجوداً ممداً لأرواح المرشدين والمسلمين إلى يوم الدين ، فما دام القرآن موجوداً في الأرض وهو الثقل الأول ، فإن الثقل الثاني الذي يجعل ميزان الإيمان مستقيماً ، وهو الولي المرشد الأعظم موجوداً أيضاً . لقد أكد هذا الحديث النبوي الشريف حاجة الناس إلى المرشد الذي يحكم بكتاب الله العزيز ويهدي إلى الصراط المستقيم بعد انتقاله . ولكي يجعل حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليماالمسلمين على بينة من أمر دينهم والمرشد الرباني الأعظم الذي يجب أن يسلكوا على يديه بعد انتقاله فإنه أبلغ حشد المسلمين عند غدير ( خم ) قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بشهرين تقريباً ، بأن الإمام علي % هو مرشدهم الأعظم الذي سيقوم بينهم مقامه بعد أن يتركهم فقال :{من كنت مولاه فعلي مولاه ، ودعا للإمام قائلاً :اللهم وال من والاه وعادي من عاداه }(12) وجعل حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما بذلك ولاية الإمام علي كرم الله وجههعامةً ، شاملةً ، مطلقة على كل المسلمين .
لقد أورث حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليماالإمام علي كرم الله وجهه علومه الروحية فقال :{أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من الباب}(13) ، وزرع فيه أيضاً أخلاقه النبوية الزكية ، فجعل فيه صفات المرشد الرباني الذي يفيد كل من يصاحبه من غزير علمه النبوي ، وينـزل على قلبه من أحواله الزكية ما يزكيه وينقي نفسه .
ومن الأحاديث النبوية التي تبين حالة التزكية هذه والتأثير الروحي الذي جعله الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما في الإمام علي كرم الله وجهه قوله :{النظر إلى وجه علي عبادة}(14) .
إن إبلاغ حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما المسلمين بأن الإمام علي كرم الله وجهه هو الباب الأوحد للوصول إليه بوصفه مدينة للعلم ، فإنه قد سن سنة تعيين النائب الروحي ، وقد سار الإمام على هذه الشريعة ، فقام بتسمية وارث علومه الروحية وأحواله الزكية وخليفته في إرشاد المسلمين ، وكذلك فعل من جاء بعده . إن التعاقب المستمر في النيابة الروحية عن الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما شكل أحد أهم أعمدة الطريق إلى الله ، وهو ما يعرف في مصطلحات أهل الطريق بـ( سلسلة مشايخ الطريقة ) ومع هذا التعاقب اصطلح على اسم المرشد الأعظم باسم ( شيخ الطريقة ). فشيخ الطريقة : هو الوارث الروحي المحمدي ، و منبع الفيوضات الرحمانية وبنظرته النورانية تتوزع الدرجات وتتغير الأمور وتتم الولايات ، وعلى يده تسير الأمور الظاهرية والباطنية ولا يخفى عليه من مجريات الأحداث ، فهو قطب الوقت وخليفة الرسول وهو عارف بالله ، خبير بطرائق تزكية النفوس ووسائل تربيتها ، وهو وحيد زمانه ، ومأذون بالإرشاد من شيخه ، لتجديد الرسالة المحمدية وإحياء نهجه ، وإعلاء كلمة لا اله إلا الله محمد رسول الله في كل مكان . وإذا كان حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليماقد كتب لمرتبة المرشد الأعظم أو شيخ الطريقة البقاء والخلود ، فإن مرتبة المرشد العادي قد خلدت بالضرورة أيضاً وبقيت كما هي بعد انتقاله ، ولسوف تبقى هاتان المرتبتان في كل جيل فاعلتان ومؤثرتان في الناس إلى يوم الدين .
الإجازة بالإرشاد
إن الإرشاد في الطريقة يبدأ بمرشدها الأعظم ، أي : شيخ الطريقة ، وهو في حقيقة الأمر لا يجعل من نفسه شيخاً ، وإنما تأتيه الإجازة بالجلوس على سجادة مشيخة الطريقة من شيخه ، ولما كان كل شيخ قد أجازه بمشيخة الطريقة شيخه فشيخه إلى حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما ، فحقيقة الأمر إذاً هي أن الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تسليما هو الذي يجعل من الشيخ شيخاً ، ويجيزه بالإرشاد باسم الطريقة ، كما أجازه الله في قوله الكريم :{اُدْعُ إلى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ }(15) .
يقول الشيخ زروق : « كما جاء علم الشريعة مروياً عن الثقاة مسلسلاً ، ولا يتصدر إلى نشره إلا المأذون بعد اختياره ، كذلك علم القوم بتسلسل من شيخ إلى شيخ ، ولا يصح لأحد تلقين غيره إلا بإذن من شيخه المأذون »(16) .
وهكذا فإن كل أمور الطريقة بدءاً بالمشيخة وانتهاءاً بإرشاد المريد للناس ، لا تكون إلا بإجازة .
يقول أحمد الكمشخانوي النقشبندي : « أجمع السلف كلهم على أن من لم يصح له نسب القوم ، ولا أذن في أن يجلس للناس ، لا يجوز له التصدر إلى إرشاد الناس ، ولا أن يأخذ عليهم عهداً ، ولا أن يلقنهم ذكراً ولا شيئاً من الطريق ، إذ السر في الطريق إنما هو ارتباط القلوب بعضها ببعض إلى الرسول إلى حضرة الحق ، فمن لم يدخل سلسلة القوم فهو غير معدود منهم »(17)
صفات الولي المرشد عند الصوفية
الشيخ عبد الغني النابلسي : يقول : « اعلم أن كل من إدَّعى الإرشاد ولم يكن عنده علم بتخليص القلوب لله تعالى فليس بمرشد ، فاعلم أن المرشد : هو من سعي في تخليص قلب فقير من التعلق بغير الله »(18) .
محمد حقي النازلي :يقول : لابد للشيخ المرشد « أن يكون عالماً ، ومعرضاً عن حب الدنيا وحب الجاه ، ومحسناً لرياضة نفسه من قلة الأكل والنوم والقول ، وكثرة الصلاة والصدقة ، ومتصفاً بمحاسن الأخلاق : كالصبر ، والشكر ، واليقين ، والتوكل ، والسخاوة ، والقناعة ، والحلم ، والتواضع ، والصدق ، والحياء ، والوفاء ، والوقار والسكون ، وأمثالها . ومثل هذه الشيخ نور من أنوار النبي يصلح للإقتداء به »(19) .
الشيخ أحمد السرهندي : يقول : « أتدرى من المرشد ؟ المرشد من تستفيد منه طريق الوصول إلى جناب قـدس الحق جل سلطانه ، وتجد منه مدداً وإعانة في الطريق »(20) .
ويقول : « اعلم أن مقام المشيخة والإرشاد ودعوة الخلق إلى الحق وطريق الرشاد مقام عال جداً ، ولعلكم سمعتم : ( الشيخ في قومه كالنبي في أمته ) فأي مناسبة بهذه المنزلة العلية لكل قاصر وعاجز :
هل كل من خلت رجلاً رجل ميدان
أو كل من صار ذا ملك سليمان
فإن العلم بتفاصيل الأحوال والمقامات ومعرفة حقائق المشاهدات والتجليات وحصول الكشوفات والإلهامات وظهور تعبير الواقعات ، كل ذلك من لوازم هذا المقام العالي وبدونها خرط القتاد »(21) .
في ضرورة اتخاذ الشيخ المرشد ووجوبه
بعض آراء مشايخ الطريقة في ضرورة بل ووجوب اتخاذ الشيخ المرشد في السير والسلوك للوصول لله تعالى :
الشيخ أبو يزيد البسطامي يقول : « من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان »(22) .
الشيخ أبو علي الدقاق يقول : « الشجرة إذا نبتت بنفسها ومن غير غارس فإنها تورق لكنها لا تثمر ، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ من طريقته نفساً فنفساً ، فهو عابد هواه لا يجد نفاذاً »(23) .
الإمام القشيري يقول : « يجب على المريد أن يتأدب بشيخ ، فإن لم يمن له أستاذ لا يفلح أبداً »(24) .
الإمام أبو حامد الغزالي يقول : « الدخول مع الصوفية فرض عين ، إذ لا يخلو أحد من عيبٍ أو مرض إلا الأنبياء »(25) .
الشيخ ابن عطاء الله السكندري يقول : « ينبغي لمن عزم على الاسترشاد وسلوك طريق الرشاد : أن يبحث عن شيخ من أهل التحقق ، سالك للطريق ، تارك لهواه ، راسخ القدم في خدمة مولاه ، فإذا وجده فليمتثل ما أمر ولينتهي عما نهي »(26) .
الشيخ الطيبي يقول : « لا ينبغي للعالم ولو تبحر في العلم حتى صار واحد أهل زمانه أن يقتنع بما علمه ، وإنما الواجب عليه الاجتماع بأهل الطريق ليدلوه على الطريق المستقيم »(27) .
ويقول : « أجمع أهل الطريق على وجوب اتخاذ الإنسان له شيخاً يرشده إلى زوال تلك الصفات التي تمنعه من حضرة الله بقلبه لتصح صلاته ، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولاشك أن علاج أمراض الباطن كلها واجب ، كما تشهد به الآيات والأحاديث الواردة في تحريمها والوعيد بالعقاب عليها ، فعلم أن كل من لم يتخذ له شيخاً يرشده إلى الخروج من هذه الصفات ، فهو عاص لله ولرسوله ؛ لأنه لا يهتدي لطريق العلاج ولو تكلف ، ولا ينتفع بغير شيخ ولو قرأ ألف كتاب »(28) .
في ضرورة الإرشاد إلى الطريقة
اتضح مما تقدم أنه لابد للإنسان من التأثير الروحي الذي ينهض به من رقدة الغفلة والبعد إلى روضة الذكر والقرب من الرب ، وهذا لا يتأتى إلا بواسطة شيخ وارث
للطريقة ، إذ الطريقة ليست عملاً علمياً ولا بحثاً نظرياً ، فيتم تعلمها بواسطة الكتب على الطريقة المدرسية ، بل أن كل ما كتبه كبار مشايخ الصوفية أنفسهم لا يستخدم إلا كحاضرٍ مقوٍ للتأمل لا يفهمه إلا من كان أهلاً لفهمه ممارساً لسلوك الطريقة ، فلا يمكن التطهر من النجاسات المعنوية ( الكذب ، الحسد ، الرياء ، الكبر ، … الخ ) إلا بالسلوك على يد شيخ كامل عالم بعلاج أمراض النفوس ليخرجه من رعونات نفسه الأمارة بالسوء ودسائسها الخفية لذا قيل :
من يأخذ العلم من شيخ مشافهـة
يكن عن الزيغ والتصحيف في حرم
ومن يكن آخذاً للعلم من صحف
فعلمه عند أهـل العلـم كالعـدم
ومن هنا ، تبرز أهمية الطريقة في حياة كل إنسان – مسلماً كان أم غير مسلم – جاء ركن الإرشاد إلى الطريقة ضرورة حتمية على مريدي طريقتنا الكسنـزانية ، فكل مريد هو مكلف بتطبيق منهج الطريقة على نفسه وأهله ء ثم إرشاد الناس إليه وتوضيحه لهم : من باب الاقتداء بسنة المصطفى الذي كان يعرض نفسه ودينه على الناس في المحافل والأسواق والطرقات .من باب قوله تعالى :وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرونَ بِالْمَعْروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحونَ (29) .
من باب : وَأَمَروا بِالْمَعْروفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ (30) .
من باب : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (31) .
من باب : خير الناس من نفع الناس (32) .
من باب : الدين النصيحة (33) .
من باب : الدال على الخير كفاعله (34) .
من باب كل النصوص القرآنية الكريمة والنبوية الشريفة التي أمرت أو ندبت على الدعوة إلى طريق الحق والهدى .
____________________________
الهوامش :
[1] – الشورى : 52 .
[2] – الشعراء : 214 .
[3] – الأحزاب : 46 .
[4] – النحل : 125
[5] – الجمعة : 2
[6] – المستدرك الحاكم ج4ص190 رقم 7326 .
[7] – الشيخ ابو نعيم الاصبهاني – دلائل النبوة – ص 332 .
[8] – الأنفال : 17 .
[9] – البقرة : 117 .
[10] – فصلت : 53 .
[11] – صحيح ابن خزيمة : ج 4 ص 62 .
[12] – المستدرك على الصحيحين ج: 3 ص: 419 .
[13] – فيض القدير ج: 1 ص: 36 وغيرهم .
[14] – المعجم الكبير ج 10 ص 76 برقم 10006 .
[15] – النحل : 125 .
[16] – انظر : جمال نصار ولؤي فتوحي – الطريق إلى الطريقة – ص 42
[17] – الشيخ أحمد الكمشخانوي النقشبندي – جامع الأصول في الأولياء – ص 25
[18] – الشيخ عبد الغني النابلسي – مخطوطة اعذب المشارب في السلوك والمناقب – برقم ( 4713 ) ص 10
[19] – محمد حقي النازلي – خزينة الاسرار الكبرى – ص 178 .
[20] – الشيخ أحمد السرهندي – مكتوبات الامام الرباني – ص162
[21] – المصدر السابق – ص 202
[22] – الإمام القشيري – الرسالة القشيرية – ص 199
[23] – المصدر نفسه – ص199
[24] – المصدر نفسه – ص199
[25] – االشيخ أحمد بن عجيبة – شرح الحكم – ج1 ص 7 .
[26] – الشيخ ابن عطاء الله السكندري – مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح – ص 30
[27] – الشيخ امين الكردي – تنوير القلوب – ص44
[28] – الشيخ امين الكردي – تنوير القلوب – ص44 – 45 .
[29] – آل عمران : 104
[30] – الحج : 41
[31] – صحيح البخاري ج: 1 ص: 14 .
[32] – شعب الإيمان ج: 6 ص: 117 .
[33] – المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم ج: 1 ص: 144 .
[34] – مسند أبي عوانة 1 ج: 4 ص: 478 .
المصدر : السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسني – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان – ج9- مادة (ر ش د).