عبد الباقي مفتاح
اخترت مداخلة بعنوان : ” الأمير عبد القادر الجزائري فَتىَ : أنا هو أنت.” للأسباب التالية، أولاً : إشارة إلى مقام الفتوة الذي يتمحور حول فناء الأنانية الشخصيّة بالبقاء في ” خدمة الآخرين ” وهو ما يتحقق به في سلوكهم رجال التربية الروحية، للشيخ محي الدين بن العربي ( 560 – 638 هـ)، أستاذ الأمير عبد القادر (1222 – 1300 هـ)، يعرف الفتوّة فيقول : “الفتوة على الحقيقة إظهار الآلاء والمنن وستر المنّة والامتنان كما قال تعالى- : لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى الآية 264 البقرة – “(1).
ثانيا : في العنوان إشارة إلى مقولة صوفية تلخص كيفية الصلة بين الأفراد في المستويات الثلاثة للدّين التي بينها الحديث النبوي المشهور أي الإسلام والإيمان والإحسان, وهي قولهم : ” عموم الشريعة: أنا أنا وأنت أنت، وطريقتها : أنا أنت وأنت أنا, وحقيقتها : لا أنا ولا أنت بل هو “. أي أن ظاهر الشريعة يتعلق بالنفـس وبالحـسّ في دائرة : كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ الآية 38 المدثر- وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى الآية 164 الأنعام – ] وأما طريقة الشريعة فهي تتعلق بالقلب, وحين تصقل مرآته تتجلى فيه حقيقة : ” أنا أنت وأنت أنا ” كما قال النبي : المومن مرآة أخيه . لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ليست أخوة الدين فقط بل أخوة الإنسانية أيضا. وأما حقيقة الشريعة فلها الروح, والروح من أمر الله, وأمره واحد : وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ الآية 50 القمر. فلا أنا ولا أنت بل هو: تحققا بقوله تعالى : “َأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ الآية 115 البقرة .
ثالثا : اخترت الحديث حول الأمير عبد القادر لأنّه في تقدير جُلّ من عاشروه نموذج كامل لفتوة : ” أنا هو أنت” في الميدانين العرفاني والعملي. ومن الصعب استقصاء مآثر الأمير فيهما, إذ أن مكارم أخلاق الفتوة تلمع فياضة من كل ثنايا سيرته الفريدة, وسأكتفي منها بلمحات :
أولا : في المجال العرفاني السامي لا نجد أحسن شاهد عن تحقق الأمير وتخلقه بحقيقة وأخلاق ” أنا هو أنت” من كتابه المواقف الرائع الجريء جراءة فروسية شهامته الهاشمية, ففي العديد من فصوله عبر بكل وضوح كيف ينبغي أن تكون وشائج المعاملة الصحيحة بين (أنا) و(الآخر). وموقفه في هذا الموضوع يعتمد على حقائق عر فانية, لا على عواطف نفسية, وأهمها أربعة قواعد :
القاعدة الأولى : هي أن المجتهد في الأصول العقائدية مأجور إن أصاب, ومعذور إن أخطأ إذا بذل كل وسعه في صدق الاجتهاد، في الموقف 121 المفتتح بما ورد في صحيح البخاري وغيره عن النبي : إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد يقول الأمير عن هذا الحديث أنه : [ أعم في الحاكم المجتهد في الفروع الشرعية، أو الأصول العقلية الاعتقادية، إذ لا فرق بينهما عند العارفين بالله – تعالى-، أهل الكشف والوجود، فإن كل واحد من المجتهدين في الفروع والأصول فعل ما كلف به، وبذل وسعه، فوصل إلى ما أداه اجتهاده : لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا الآية – 7 الطلاق – ولاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا الآية 286 البقرة. وقد أنكر عامة أهل السنّة والمعتزلة، غير أهل الكشف، القول بأن كل مجتهد في الأصول الاعتقادية مصيب، ونسبوه إلى الكفر، وقرره العارفون بالله، وهو الحق، وقالوا : المجتهد في العقليات، إذا وفىّ النظر حقّه وأخطأ فهو معذور، ويريدون المجتهد نفسه لا من قلّده].
وفي آخر الموقف 229 يؤكد هذه القاعدة الأساسية المزيلة لكل تعصّب ثم يقول : [ ووافق – أي في هذه المسألة – أهل الله حجة الإسلام الغزالي نظرا في كتابه ” التفرقة بين الإيمان والكفر والزندقة”، وإلا فهو من أكابر أهل الله، ووافقهم أبو الحسين العنبري والجاحظ من المعتزلة](2).
القاعدة الثانية – وهي من مستلزمات القاعدة الأولى السابقة – ضرورة حماية حرّية العقيدة، هذه الحرية التي هي من أهمّ أسس الإسلام كما هو واضح في غاية الجلاء في الكثير من آيات القرآن لقوله تعالى : فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ الآية 29 الكهف – وقوله : لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ الآية 256 من البقرة. يقول الأمير في إحدى رسائله : [ إنّ تطبيق التسامح يتمثل في عدم إكراه أي مؤمن بدين على ترك دينه. وكل الشرائع الإلهية، سواء الإسلام وغيره، متفقة في هذه المسألة](3).
القاعدة الثالثة – وهي مكملة للقاعدة الثانية – مرجعها لخطاب الله تعالى جميع الناس- لا المؤمن فقط- بقوله : َا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ الآية 12 الحجرات أي أنّ اختلاف الأمم في نحلهم ومللهم ومعاشاتهم ينبغي أن يكون حافزا لتلا قح المعارف وتكامل المصالح لا للتنازع. ولهذا فالحرب – في نظر الأمير ِوهو المجاهد المغوار- لا تكون مشروعة إلا في حالة الدفاع عن النفس وفي أضيق الحدود ولا يكون هدفها إلاّ استتباب وهيمنة السلام. وأطنب الأمير في العديد من مواقفه – كالموقفين 69 و71 مثلا – في بيان أنّ الجهاد الأكبر هو جهاد هوى النفس الأمارة بالسوء بتحليتها بالفضائل النافعة الرحيمة بجميع الخلق لقول النبي (ص) : ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. فلنستمع إليه وهو يشرح في الموقف 73 قوله :رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر أخرجه البيهقي- : [ إنّه – سمّى جهاد الكفار أصغر،لكون جهاد الكفار وقتلهم ليس مقصودا للشارع بالذات. إذ ليس المقصود من الجهاد إهلاك مخلوقات الله وإعدامهم وهدم بنيان الرب – تعالى- وتخريب بلاده، فإنه ضد الحكمة الإلهية. فإن الحق – تعالى- ما خلق شيئا في السماوات والأرض وفي ما بينهما عبثا. وما خلق الجن ولإنس إلاّ لعبادته، وهم عابدون له، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله. وإنما مقصود الشارع دفع شر الكفار وقطع أذاهم عن المسلمين، لأن شوكة الكفار إذا قويت أضرت بالمسلمين في دينهم ودنياهم، كما قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً – الآية 40 الحج – فلو فرض أنه لا يلحق المسلمين أذى من الكافرين، ما أبيح قتلهم، فضلا عن التقرب به إلى الله تعالى-. بخلاف جهاد النفس وتزكيتها، فإنّه مقصود لذاته، إذ في جهادها تزكيتها وفي تزكيتها فلاحها ومعرفة ربها. والمعرفة هي المقصودة بالحب الإلهي في الإيجاد(…) ولا ريب أن المقصود لذاته أكبر من المقصود لغيره].
القاعدة الرابعة وهي المتوجة للقواعد الثلاثة السابقة هي مشاهدة الحق تعالى في كل اعتقاد، وهو ما عبر عنه في الموقف 246 الذي افتتحه بقوله تعالى: َقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ- الآية 46 العنكبوت – فيقول ما خلاصته : [ فإلهنا وإله كل طائفة من الطوائف المخالفة لنا واحد وحدة حقيقية (…) وإن تباينت تجلياته ما بين إطلاق وتقييد وتنزيه وتشبيه. وتنوعت ظهورا ته، فظهر للمحمديين مطلقا عن كل صورة في حال ظهوره في كل صورة من غير حلول ولا اتحاد ولا امتزاج، وظهر للنصارى مقيدا بالمسيح والرهبان، ولليهود في عزير والأحبار، وللمجوس في النار، وللثنوية في النور والظلمة، وظهر لكل عابد شيء من ذلك الشيء من حجر وشجر وحيوان ونحو ذلك، فما عبد العابدون الصور المقيدة لذاتها، ولكن عبدوا ما تجلى لهم في تلك الصورة من صفات الإله الحق – تعالى- فالمقصود بالعبادة واحد من جميع العابدين، إلاّ أنّ تجليه يتنوع بحسب استعداد المُتَجَلىَّ لهُ، والمتجلي تعالى واحد في كل تنوع وظهور ما تغير من الأزل إلى الأبد. فاتفقت جميع الفرق في المعنى المقصود بالعبادة، فالكل مسلمون للإله الواحد فليس في العالم جاحد للإله مطلقا من طبائعي ودهري وغيرهما، وإن فهمت عباراته غير هذا فإنما ذلك لسوء التعبير. فالكفر في العالم كله إذن نسبي] (4).
وفي أبيات من قصيدة في مقدمة المواقف يعبر الأمير عن هذا المفهوم النابع من قوله تعالى : وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ 49 النحل – فيقول :
ففي أنا كـل ما يأملــه الورى
ومن شاء توراة ومن شاء إنجيل
فمن شاء قرآنا ومن شاء فرقان
ومن شاء مزمارا زابورا وتبيانا
معاني هذه الأبيات مطابقة لأبيات أخرى مشهورة للشيخ الأكبر محي الدين في ديوانه ” ترجمان الأشواق ” وهي :
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
وبيت لأوثان وكعبة طـائـف
أدين بدين الحب أنى توجـت
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وألواح توراة ومصحف قرآن
ركائبه فالحب ديني وإيماني
فهل معنى هذا أن الأمير والشيخ الأكبر يؤمنان بتكافؤ الأديان الناسخة والمنسوخة والعقائد القويمة والسقيمة ؟
الجواب : كلا وحاشا. فسيرتهما وأعمالهما وأقوالهما الأخرى التي يصعب إحصاؤها كلها تنفي ذلك. وإنما ذلك تعبير عن شهود القهر الإلهي العام والإرادة النافذة للحق تعالى في خلقه سعيدهم وشقيهم، فهو الذي خلقهم وما يعملون وما يعتقدون، وجاعل كل حزب بما لديهم فرحين، فهو الهادي وهو المضل، وهو جاعل الظلمات والنور. فلنستمع للشيخ الأكبر وهو يشرح بنفسه أبياته السابقة في” ذخائر الأعلاق، ” فيقول ما خلاصته : [ إن في القلب صورة بيت الأوثان، كما كانت الحقائق المطلوبة للبشر قائمة به والتي يعبدون الله من أجلها، فسمّى ذلك أوثانا، وأن قلبه مجلى لواردات العلوم العيسوية والموسوية من الدين المحمدي القائم على الحب، فما ثمّ دين أعلى من دين قام على المحبّة والشوق، فإنّ محمد له من بين سائر الأنبياء مقام المحبّة بكاملها وورثته على منهاجه ].
خلاصة القول في هذا الموضوع أنّه ينبغي التمييز الواضح بين نظرية تكافؤ كل الأديان، وهو ما لا يقول به مسلم ولا متدين بدين آخر، ونظرية قبول الله تعالى لعبده المجتهد والباذل وسعه في طلب الحق ورضوانه، فهو مأجور إن أصاب ومعذور إن أخطأ، سواء في الأصول والفروع، وهذا ما يقول به الأمير وأمثاله من العارفين لأن القرآن يقرره، حسب فهمهم وكشفهم.
بعد هذه الجولة مع مفاهيم الأمير، يطرح السؤال : هل طبق الأمير في مواقفه العملية ما أعلنه في مواقفه العرفانية ؟
الجواب بكل تأكيد : نعم. وأكتفي بالإشارة إلى حوادث في حياته بمراحلها الثلاثة : الجهاد ثم السجن ثم الاستقرار في الشام.
أما خلال جهاده البطولي الطويل الذي دام خمس عشر ة سنة، فحتى أشرس أعدائه اعترفوا بوسع رحمة إنسانيته ومثالية معاملاته خصوصا مع الأسرى والمغلوبين والمستضعفين، حتى أن السفاح الجنرال بيجو يشبهه في إحدى رسائله بالمسيح (5). قصده مرة أحد الأساقفة الفرنسيين للتفاوض معه قصد إرسال رجل دين لخدمة الأسرى من الجنود المسيحيين، فيستجيب الأمير لطلبه ويضيف قائلا : ” إنني متأكد من أنّ عملي هذا يرضي ربي إذ أتيح لبعض عباده ذكر ربهم واتباع شرائع دينهم، لأن كل فرد يتبع دين آبائه، والله يحب العباد الصالحين “(6).
وحتى تحت وطأة شماتة الأعداء الذين نكثوا عهدهم فَعوَض َتركه حرا ليذهب إلى المشرق عند ما وضع حدا لكفاحه سجنوه مع أمه العجوز ونحو المائة من رفقائه الأوفياء، مات منهم نحو الخمسة والعشرين في الاعتقال، رغم تلك الشدائد المرّة لم تتغير سماحة هذا الشهم أمير الجهادين الأصغر والأكبر، وإلى ذلك يشير الجنرال دو ماس الذي كان مكلفا بحراسته في السجن في رسالة بعثها إلى أسقف الجزائر ” دو بوش ” الذي كانت له مع الأمير مراسلات، فيخاطبه قائلا يصف حالة الأمير في السجن : [… إنك ستجده أعظم وأجل في محنته منه في عزه، انه ما يزال كما عرف عنه يسموا إلى أعلى الدرجات. إنك ستجده معتدلا بسيطا جذابا متواضعا ثابتا لا يشكوا أبدا، معتذرا لأعدائه – حتى أولئك الذين ما زال يمكن أن يعاني على أيديهم كثيرا – ولا يسمح أبدا أن يذكروا بسوء في حضرته. ورغم أنه قد يشكوا عن حق من المسلمين أو المسيحيين، فإنهم سواء يجدون منه الصفح…] (7).
وفي سنة (1269 هـ – 1852 م) يطلق سراح الأمير، ويلقاه بباريس الجندي الفرنسي ” أيبوليت لانغلوا Hyppolyte Langlois ” الذي كان أسيرا عند الأمير من قبل، وتحدث ” لانغلوا ” عن هذا اللقاء في كتابه : ” مذكرات أسير عند عبد القادر ” فقال : [ إنني رأيت الرجل نفسه بوجهه الرصين، وبنظرته الملهمة، وكلامه القليل، عليه مسحة الأنبياء، فكأنه كان يعيش في عالم علوي مترفعا عن كل مبتذل] (8).
هذا ومن المشهور الموقف الشجاع لفتوة الأمير حين تزعم المهاجرين الجزائريين في الشام لإنقاذ ما يربو على خمسة عشر ألف مسيحي من القتل في الفتنة التي اشتعلت في دمشق بين الدروز والنصارى سنة 1860 ووقف متحديا جموعا هائجة مندفعة لقتلهم ودوَّى بصوته قائلا : [ إن الأديان وفي مقدمتها الدين الإسلامي أجل وأقدس من أن تكون خنجر جهالة أو معول طيش أو صرخات بذالة تدوي بها أفواه الحثالة من القوم… أحذركم من أن تجعلوا لسلطان الجهل عليكم نصيبا، أو يكون له على نفوسكم سبيلا].
وخطابه الحازم هذا ما كان إلاّ تطبيقا للحديث النبوي الشريف : ألا من ظلم معاهدا أو ذميا أو أحدا من أهل الكتاب أو كلفه فوق طاقته أو أنقصه شيئا من حقه أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا خصمه يوم القيامة. (9)
وإنه لمن النبل المجيد أن نرى عملاقا آخر في الجهاد دفاعا عن وطنه، ويشبه كثيرا الأمير عبد القادر في سيرته وشخصيته ومراحل حياته، وهو إمام الطريقة النقشبندية الشيخ شاميل (1799 – 1871) الذي قاد الجهاد ضد الروس دفاعا عن بلده القفقاز نحو الثلاثين سنة، ثم سجن، وسعى الأمير في سراحه إلى أن تحقق، نراه وهو معتقل عند النصارى الروس يسارع إلى إرسال رسالة إلى الأمير يهنئه ويشكره على دفاعه عن نصارى الشام لما ظلموا ويذكر له الحديث الشريف السابق. ويجيبه الأمير بجواب، من جملة ما يقول فيه : [فإنه وصلني الأعز كتابكم، وسرّني الألذ خطابكم، والذي بلغكم عنا، ورضيتم به منا، من حماية أهل الذمة والعهد، والذب على أنفسهم وأعراضهم بقدر الطاقة والجهد، هو – كما في كريم علمكم – مقتضى أوامر الشريعة السنية والمروءة الإنسانية، فإن شريعتنا متممة لمكارم الأخلاق، فهي مشتملة على جميع المحامد الموجبة للائتلاف (…) والبغي في كل الملل مذموم، ومرتعه وخيم ومرتكبه ملوم (…) فإناّ لله وإنا إليه راجعون على فقد أهل الدين وقلّة الناصر للحق والمعين حتى صار يظن من لا علم له أن أصل دين الإسلام الغلظة والقسوة والبلادة والجفوة. فصبر جميل والله المستعان…](10).
وفي نفس الموضوع يكاتبه أسقف الجزائر بافي Pavy ، شاكرا صنيعه فيجيبه الأمير برسالة يقول له فيها ما خلاصته : [ما فعلناه من خير للمسيحيين، ما هو إلاّ تطبيق لشرع الإسلام واحترام لحقوق الإنسان، لأن كل الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله. إنّ كل الأديان من آدم إلى محمد عليهما السلام تعتمد على مبدأين : تعظيم الله جل جلاله والرحمة بمخلوقاته, وما عدا هذا ففرعيات ليست بذات أهمية كبيرة. والشريعة المحمدية، من بين كل الشرائع، هي التي تعطي أكبر أهمية للاحترام والرحمة والرأفة وكل ما يعزز التآلف وينبذ التخالف. لكن المنتسبين للدين المحمدي ضيّعوه فأضلهم الله، فجزاؤهم من جنس عملهم] (11).
إن الدوافع التي جعلت الأمير نموذجا للسماحة المطلقة، والتفتح العاقل، والإطلاع الواسع، والرحمة بجميع الخلق، هي تخلقه بالقرآن الكريم، وتربيته الروحية في أحضان الصوفية.
فمن القرآن سمع قـول الله تعالى : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ – الممتحنة : 8 – فانظر كيف قدم البر على القسط مع أهل الملل الأخرى، ومن القرآن تخلق الأمير بقول الله تعالى : وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ – العنكبوت : 46- فلم يقل : “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالحسنى” بل بالتي هي أحسن، أي اجتهدوا في انتقاء أفضل وأجمل أساليب الحوار مع النصارى واليهود من أهل الكتاب، بل مع جميع الناس، فقال تعالى : وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً – البقرة : 83 – كما قال : ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ – النحل : 125 – وبين أن الإسلام دين السلام وأن أفضل المعاملات مع الأعداء ليس الصراع، وإنما حسن العلاقة فقال : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. فصلت 33، 34، 35.
ومن القرآن تعلم الأمير الإنصاف والموضوعية والأدب في الحوار مع المخالفين في العقيدة كما في قوله تعالى يعلمنا الخطاب معهم : َإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ – سبأ : 24 – فليس هناك دعوى مسبقة باحتكار الحقيقة بل تحكيم للمنطق السليم بالبرهان المقنع. وكذلك قوله : قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ – سبأ : 25 – فانظر كيف نسب المخاطبون أهل الحق الإجرام إلى أنفسهم كما يزعمه المخالفون لهم، ولم ينسبوه إلى من يخاطبونهم بل نسبوا إليهم العمل لا الإجرام، فهل فوق هذا الأدب الجم العظيم أدب ؟ ونهى الحق تعالى عن الانحراف عن العدل مهما كان طغيان المتعدي فـقـال : وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى- المائدة : 8 -.
وقد تجسّدت هذه الأخـلاق القرآنية في من كان خلقه القرآن أي رسول الله الذي اختصر الحق تعالى غايات رسالته في وظيفة واحدة جامعة، وهي شمول الرحمة، فقال له : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين – الأنبياء : 107- وسبب نزول هذه الآية هو ما ذكره الأستاذ الروحي للأمير، الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، في الباب 34 من الفتوحات المكية، عند بيانه أن العارف الكامل هو المتحقق باسمه تعالى : (الرحمن) فهو رحيم بجميع الموجودات، ثم يقول : [قال تعالى لسيد هذا المقام، وهو محمد حين دعا على قبائل رعل وذكوان وعصية بالعذاب والانتقام لقتلهم غدرا نحو السبعين من خيار قراء الصحابة بعثهم النبي لتعليم القرآن وشريعة الإسلام، فقال النبي في دعائه عليهم : عليك بفلان وفلان، وذكر ما كان منهم، فقال الله له : إن الله ما بعثك سبّابا ولا لعانا ولكن بعثك رحمة فنهاه عن الدعاء عليهم وسبهم (رغم إجرامهم الشنيع) وأنزل الله : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ فعم العالم، أي لترحمهم وتدعو لهم لا عليهم، فيكون عوض قول : لعنهم الله، قول : تاب الله عليهم وهداهم، كما قال حين جرحوه : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمونيريد من كذبه من غير أهل الكتاب والمقلدة من أهل الكتاب…].
فالأمير كان الوارث الأكبر لهذه الأخلاق القرآنية المحمدية الأكبرية. ثم إن صحبته طول حياته للصوفية وتحققه بأذواقهم العالية رسخت فيه تلك الأخلاق. وقد نهل الأمير من مشارب أربع طرق صوفية : القادرية والتقشبندية والمولوية والدرقاوية الشاذلية. فمثلا علاقات الأمير بغير المسلمين هي امتداد لما كانت عليه معاملات شيوخ تلك الطرق معهم. وهو ما جعل الكثير منهم يسلمون على أيدي أولئك الشيوخ، كما هو مشهور في سيرة الشيخ عبد القادر الجيلاني (ت 561 هـ) الذي كان يقول : [فتشت الأعمال كلها فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، ولا أشرف من الخلق الحسن. أودّ لو كانت الدنيا بيدي أطعمها الجائع. لو جاءني ألف دينار لم تبت عندي ].
ومن المعلـوم في سيـرة إمام الطريقـة المولوية جـلال الدين الرومي (ت 672 هـ) أنه لما خرجت جنازته ازدحم عليها أهل بلده، وشيعها حتى النصارى واليهود وهم يتلون الإنجيل والتوراة، وكان المسلمون ينحونهم فلا يتنحون، وبلغ ذلك حاكم البلد قونيه، فقال لرهبانهم : مالكم ولجنازة عالم مسلم فأجابوه:[به عرفنا حقيقة الأنبياء السابقين، وفيه رأينا سيرة الأولياء الكاملين ]. نموذج آخر نجده في سيرة الشيخ العربي الدرقاوي (ت 1239 هـ) إمام الدرقاوية الشاذلية، وهي الطريقة التي ختم بها الأمير تربيته الصوفية لما انخرط فيها وعمره 55 سنة على يد شيخه ومربيه الشيخ محمد الفاسي بمكة المكرمة. يقول الشيخ بوزيان الغريسي، وهو من علماء منطقة معسكر، في كتابه : “زمزم الأسرار في مناقب مولاي العربي الدرقاوي وبعض أصحابه الأخيار” (مخطوط بالمكتبة العامة بالرباط، رقم 2339، ص : 5) : [ سمعته أي الشيخ العربي الدرقاوي يقول : منذ سبعة أيام وأنا مريض من أجل بعض اليهود باتوا بزاويتنا ضيوفا وأطعمناهم ونسيت أن نهيء لهم موضعا يرقدون فيه، وكانت الليلة باردة. وكان يقول : يهون علي أن تقطع رقبتي ولا أن أغضب مسلما].
فهؤلاء الرجال الربانيون هم الذين تربى الأمير عندهم، وشعارهم قول شيخهم الأكبر:
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب د يـني وإيماني
وخير ما نختم به قول الله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. – الآية 62 البقرة – صدق الله العظيم.
__________
الهوامش :
1 – ابن العربي : الفتوحات المكية – دار صادر بيروت – ج 2 باب 146، ص 232.
2 – حول كون المجتهد في الأصول مأجورا أو معذور ينظر: – الفتوحات المكية لابن العربي : ج 3، ص 328 – 329. – كتاب المواقف للأمير عبد القادر – دار اليقظة العربية دمشق 1966 : الموقف 121، ص 265 (ج 1) والموقف 228، ص 511 ( ج 2).
3 – مجلة مسالك العدد الثاني- جوان جويلية 1998، ص 21.
4 – حول مشاهدة الحق في كل اعتقاد ينظر مثلا : الموقف 246 (ص 561) – 254 (ص767) – 308 (ص 1003)- 358 (ص 1212). – وفي الفتوحات المكية (ج 1) ص : 238-405-589 (ج2) ص : 85-92-212-326-498 (ج 3) ص : 232 (ج 4) : 100-415. – وفي فصوص الحكم لابن العربي الفصين الرابع والسابع والعشرون.
5 – .M. Chodkiewicz : Ecrits Spirituels, Ed. Seuil 1982, p. 16
6 – محمود بو عياد : عبد القادر والإنسان – مجلة الثقافة – عدد خاص : 75 ماي جوان 1983- ص 282.
7 – شارل هنري تشرشل، حياة الأمير عبد القادر- ترجمة سعد الله بلقاسم- الجزائر 1982، الطبعة الثانية، ص 257-258.
8 – محمود بو عياد- المرجع السابق، ص 284.
9 – جواد المرابط : تصوف الأمير عبد القادر، دمشق 1966 ص 46.
10 – الأمير محمد بن الأمير عبد القادر : تحفـة الزائر، الإسكندرية 1903- ج 2، ص 114-115، حول العلاقات والمقارنات بين الأمير عبد القادر والإمام شاميل ينظر كتاب بسائح بوعلام بالفرنسية :
“L’Emir Abdelkader et l’imam Chamil”
11 – مجلة مسالك- العدد الثاني- جوان جويلية 1998، ص 21.
المصدر : مجلة حوليات التراث.
http://annales.univ-mosta.dz/texte/ap04/08meftah.htm