عدَّ مشايخ الطريقة ( الأدب ) شرطاً أساسياً في كل ركن من أركان الطريق إلى الله ، فالأدب عندهم لا يدخل على شيءٍ إلا زانه ولا يفارق أمراً إلا شانه ، إذ سوء الأدب يفسد السلوك كله ، فهو يفسد العمل ، ويفسد القلب ، ويفسد آثار الذكر وآثار الصمت وآثار الخلوة والعزلة ، ويستحيل مع سوء الأدب الأخذ من الشيوخ ، ومن ثم تأصلت القاعدة الصوفية : ( لا سير بلا أدب مع الحق والخلق) وأهل الطريقة لم يعّدوا هذا الباب شرطا أساسيا في الطريق إلى الله تعالى إلا لكونه انعكاساً عملياً وسلوكياً لصحيح العمل بالقرآن الكريم والسنة المطهرة من الناحيتين الظاهرية والروحية ، ولهذا قالوا :
- « التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف »(1).
- من تحبسه الأنساب فإنما تطلقه الآداب ، أي : من تحبسه الأنساب عن الارتقاء في المراتب تطلقه الآداب المرضية إلى أعلى المراتب .
- العلم بالأدب بلا عمل وسيلة بلا غاية.
- بالأدب تطوى المسافة ، وبه يذهب عنك ما في الطريق من مخافة .
- كل عبادة تخلو من الأدب فهي قليلة وإن كثرت .
- إذا خرج المريد عن حد استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء .
- ما الشأن وجود الطلب إنما الشأن أن ترزق حسن الأدب .
الآداب وشموليتها
يقول حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني ( قدس سره) : « كل من ليس له أدب ممقوت الخلق والخالق ، كل وقت ليس فيه أدب فهو مقت ، لابد من حسن الأدب مع الله عز وجل »(2) ، فالأدب عنوان المحبة والقرب كما أن ترك الأدب علامة المقت والبعد من الخلق والخالق ، ولما كان العبد لا يخلو أن يكون إما مع الخلق أو الخالق ، فإن الأدب لابد أن يكون ملازماً له في كل أوقاته وجميع حالاته ، ولهذا كان للصوفية كما يقول الشيخ السرّاج الطوسي : « آداب في سفرهم وحضرهم ، وآداب في أوقاتهم وأخلاقهم ، وآداب في سكونهم وحركاتهم . وهم مختصون بها من غيرهم ومعروفون بها عند أشكالهم وعند أبناء جنسهم ، يُعرف بذلك تفاضل بعضهم على بعض . وبهذه الآداب تَمَيُّزٌ بين الصادقين والكاذبين والمدعين والمحققين »(3) أي أن « التصوف كله آداب ، ولكل وقتٍ أدب ، ولكل مقامٍ أدب ، فمن لزم آداب الأوقات ، بلغ مبلغ الرجال ، ومن ضيع الآداب ، فهو بعيد من حيث يظن القرب ، ومردود من حيث يرجو القبول »(4) ، ولهذا وصف الشيخ ابن عربي ( قدس الله سره) الأدب بأنه « جماع الخير »(5) ، لأنه يجمع للعبد خيري الدين والدنيا .
وما زال الكاملون يوصون مريديهم به قائلين : « الله الله بالأدب مع
الله ، فإن خلق الله حجب وأبواب ، فإن أدركتم سر الأدب مع خلق الله فتحت لكم أبواب القبول عند الله ، وإن جهلتم أمر الأدب مع خلق الله حجبتم بالخلق عن الله »(6) ، وما زالوا يحملونهم على الأدب بقالهم وحالهم لأنه باب الأرب (7) كما يقول الرفاعي الكبير ( قدس الله سره) ، وكيف لا يفعلون ذلك والآداب كلها منحصرة في متابعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قولاً وفعلاً وحالاً وخُلُقاً ، فالصوفي آدابه تدل على مقامه (8) .
الآداب وأثرها في العبادة
إن كل عمل يخلو من أدب فهو مردود على صاحبه ، والله تعالى لا يقبل من العبادة الا ما صفى منها من الشوائب وفاحت منه رائحة الأدب والصلاح .
قال تعالى : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (9)
وروى عن جابر أنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا قامَ الرجلُ في الصلاةِ أقبلَ اللهُ عليه بوجههِ فإذا التَفَتَ قال : يا ابن آدم إلى مَنْ تَلتَفت ؟ إلى مَنْ هوَ خيرٌ لكَ مني ؟ أَقبِلْ إليَّ . فإذا التفتَ الثانية قالَ مثلُ ذلك ، فإذا التفتَ الثالثةَ صرفَ اللهُ تَباركَ وتعالى وَجههُ عنه (10) . فاستعمال الأدب في العبادة يورث العبد قرباً من الله تعالى ، حتى يصل في الإسلام إلى درجة قال فيها الشيخ السري السقطي ( قدس سره) : صليت وردي ليلة من الليالي ومددت رجلي في المحراب ، فنوديت : يا سري هكذا تجالس الملوك ؟
فضممت رجلي ثم قلت : وعزتك لا مددت رجلي أبداً .
قال الشيخ الجنيد ( قدس سره) : فبقي ستين سنة ما مدَّ رجله ليلاً ولا نهاراً (11) .
ويقول حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني ( قدس سره) : « ما دام العبد يحفظ الآداب ويتعاهدها فالشيطان لا يطمع فيه ، فإذا ترك الأدب طمع الشيطان في السنن ، ثم في الفرائض ، ثم في اليقين »(12) .
ومعنى هذا : إن الأدب حصن حصين يغلف العبادة فيحفظها من الشيطان ، ويردعه عنها ، فإذا ما قصر العبد في آداب العبادة فقد فتح على نفسه منافذ يستطيع الشيطان من خلال الوساوس أن يصل إلى النفس ليشغلها ويلهيها عن عبادة ربها ، فتفقد العبادة صفة الإخلاص ، وإذا فقدت العبادة نور الإخلاص ، صارت عبارة عن حركات ورسوم بلا معانٍ أو آثار روحية ، وبالتالي يفقد العابد حالات الخشوع في العبادة ، وشيئاً فشيئاً يصيبه البرود والملل ، فتضعف همته للعبادة ، ويركن إلى التسويف ..
لذا وفي هذا الباب يوصي مشايخ الطريقة بأخذ الأدب بجدٍ واجتهادٍ وعزيمةٍ وعدم الركون إلى الرخصة فيه بأي شكلٍ من الأشكال ، لأن كل خطوة إلى الله تعالى تتبعها خطوات وكل تنازل يلحقه تنازلات .
« إنَّ العبادة بصورتها الظاهرة دون توافر هذه الأمور الباطنة – القلبية – لا قيمة لها ، ومن ثم فإذا كانت الأعمال الظاهرة مطلوبة بوصفها داخلة في الدين ، من حيث هي تعبير عن طاعة الله ، فإنها لا قيمة لها بغير أعمال القلوب ، لأنها من أصول الإيمان وقواعده »(13) .
« ولئن كانت العبادة هي الخضوع والطاعة لله وحده ظاهراً وباطناً ، فإن الاقتصار على هذا الجانب بالذات لا يكفي وحده أيضاً ، وإنما يلزم أن ينعكس أثر هذه العبادة على سلوك الإنسان في علاقته بالخلق بحيث يكون ما عليه مع الحق . وهذا هو التدين الحقيقي ، الذي يعى رسالة الدين ، وجوهر العبادة الحقيقية لله تعالى ، وهو ما يستقيم فعلاً مع عقيدة دين الإسلام وعباداته ،وما لم تكن العبادة على هذا النحو بالذات ، فإنها تصبح حقا صورة لا روح فيها ، أو هيكلاً فارغاً من المضمون »(14) .
« وإذا كانت حقيقة العبادات على هذا النحو ، ظهر لنا جلياًً كيف استطاع أهل الطريقة النفاذ إلى حقيقتها أو بالأحرى إلى مضامينها الخلقية والروحية في آنٍ واحد ، بحيث تصبح عاملاً أساسياً في توكيد صلة الإنسان بالحق تعالى من ناحية ، وبحيث تكون كذلك تحقيقاً للحياة الخلقية مع الخلق من ناحية أخرى » (15). من هنا نذهب إلى أن : ( من لا آداب له لا سلوك له ، لأن الطريقة الأدب والأخلاق ) ، ويحث مُريدوا الطريقة على أخذ هذه المسألة بقوة وعدم التهاون فيها بحال من الأحوال ، لقوله تعالى : يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (16) الأمر الذي يعني ضرورة التزام المريد بكل الأخلاق الإسلامية والآداب الصوفية وأخذها بقوة في العلم والعمل .
الآداب وتربية الظاهر والباطن
يحاول مشايخ الطريقة تربية المريدين على تزكية بواطنهم وتصفية قلوبهم وتطهير نفوسهم ، لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إلى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ (17) .
فإذا وجد الله تعالى قلب العبد حاضراً متأدباً متوجهاً لإرادة وجهه الكريم ، هداه واجتباه وجعله من المقربين ، ومن الوسائل التي توصل المريد إلى هذا التأدب الباطني ، هو تربية ظاهر العبد على الالتزام بالآداب الشرعية ومكارم الأخلاق الإسلامية ، بل ان الظاهر مرآة الباطن ، يدلك على هذا : ان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خَشعَ قلب هذا لَخَشعَت جوارحهُ (18) .
وإنما تكون الصلاة كذلك إذا أقيمت بأركانها وسننها وتحقق صاحبها بأدب الظاهر والباطن ، ومن آداب الظاهر أداؤها كاملة بالجوارح ، ومن آداب الباطن الخشوع فيها .
وإنما تؤدي الزكاة والإنفاق دوراً في تزكية النفس إذا لوحظ فيها أدب الظاهر والباطن ، بكافة أركانها الظاهرة والباطنة .
أما الصيام فبالإضافة إلى انه كَفُّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة ، فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام ، ثم صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله جل جلاله بالكلية .
ولكي يؤدي الحج ثمراته كاملة لا بدّ من مراعاة الآداب والأعمال القلبية فيه في كل عمل ظاهري فيه وأولها معرفة موقع الحج في الدين – ثم الشوق إليه ثم العزم عليه ، ثم قطع العلائق المانعة منه ، ثم استتمام الأفعال الظاهرة ، وفي كل واحدة منها ، تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر وتنبيه للمريد الصادق وتعريف وإشارة للفَطِن ، على مفاتحها حتى إذا انفتح بابها وعرفت أسبابها انكشف لكل حاجّ من أسرارها ما يقتضيه صفاء قلبه وطهارة باطنه وغزارة فهمه .
ومن هذا يتبين أنَّ : حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن وهذا ما قاله الشيخ أبو حفص النيسابوري (19) .
فالمظاهر لها آثارها الايجابية والفعالة على باطن المريد حيث تنقله بالتدريج من التخلق إلى التعلق ومن التعلق إلى التحقق ، من هنا ذهب الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى القول : « بالعلم تهتدي إلى ربك ، وبالأدب تحسن خدمة ربك ، وبأدب الخدمة تستوجب ولايته وقربه »(20) .
يقول الشيخ أحمد الرفاعي الكبير ( قدس الله سره) : « من التزم الآداب الظاهرة دخل في جنسية القوم ، وحسب في عدادهم . ومن لم يلتزم الآداب الظاهرة فهو فيهم
غير ، لا يلتبس حاله عليهم ، لأن استعمال الآداب دليل الجنسية ، بل تكون علة الضم … وهذا الأدب الذي أشارت إليه الطائفة أدب الشرع »(21) .
الأدب وتلازمية العلم والعمل
يقول الشيخ محيي الدين بن عربي ( قدس الله سره ) : « الأدب إذا لم يجمع بين العلم والعمل لا يعول عليه »(22)، إذ لا فائدة عند أهل الطريقة من العلم بلا عمل ، مهما عظم ذلك العلم ، ولا يختلف الأمر في معرفة الآداب ودراستها ما لم تقترن بالعمل ، والى هذا أشار حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني ( قدس سره ) في قوله : « العلم كالسيف والعمل كاليد ، سيف بلا يد لا يقطع ، واليد بلا سيف لا تقطع ، تعلموا ظاهراً واخلصوا باطناً »(23) .
ثم إن استخدام الأدب في مجالس أهل الكمال لها الأثر الواضح في تزكية المريد ، يقول الشيخ عبد القادر الكيلاني ( قدس سره ) : مجالس العلماء العمال بالعلم تجلو القلوب وتصفيها وترقيها وتزيل قساوتها (24) ، ولهذا قال الشيخ عبد الله إبن المبارك : « نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم »(25) .
ولكي يربي مشايخ الطريقة المريدين على هذه التلازمية فإنهم يحملوهم
بقالهم وحالهم على التطبيق العملي للأخلاق القرآنية والآداب المحمدية
المطهرة ، لكي تنعكس أنوار هذه الآداب على بواطنهم فتنورها وتغير الرذائل فيها إلى فضائل ، الأمر الذي يثمر المؤمن الصالح في نفسه المصلح لغيره .
الهوامش:-
(1) – انظر : إحياء علوم الدين – ج 3 ص 53 .
(2) – السيد الشيخ محمد الكسنـزان – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر- ص 9 .
(3) – الشيخ السراج الطوسي – اللُّمَع في التصوف – ص 144 .
(4) – الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي – طبقات الصوفية – ص 119 .
(5) – الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 2 ص 233 .
(6) – الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي – طبقات الصوفية – ص 105
(7) – الشيخ أحمد الرفاعي – البرهان المؤيد – ص 28 .
(8) – المصدر نفسه – ص 21 .
(9) – فاطر: 10 .
(10) – مجمع الزوائد – ج 2 ص 80 .
(11) – السهروردي – عوارف المعارف – ص 151 .
(12) – إبراهيم حلمي القادري – مدارج الحقيقة في الرابطة عند أهل الطريقة – ص11 .
(13) – ابن تيمية – التحفة العراقية في الأعمال القلبية – ص 37 .
(14) – الدكتور أبو الوفا التفتازاني – مدخل إلى التصوف الإسلامي – ص 15 .
(15) – الدكتور أحمد محمود الجزار – قضايا وشخصيات صوفية – ص 5 .
(16) – مريم : 12 .
(17) – صحيح مسلم – ج4 ص 1986 – رقم 2564 .
(18) – سنن البيهقي الكبرى – ج2 ص 285 – رقم 3365 .
(19) – الإمام القشيري – الرسالة القشيرية – ص 221 .
(20) – علي الطبرسي – مشكاة الأنوار في غرر الأخبار – ص 135 .
(21) – الشيخ أحمد الرفاعي – البرهان المؤيد – ص 21 .
(22) – الشيخ ابن عربي – رسالة لا يعول عليه – ص 9 .
(23) – السيد الشيخ محمد الكسنـزان – جلاء الخاطر- ص 67 .
(24) – المصدر نفسه – ص 44 .
(25) – الإمام القشيري – الرسالة القشيرية – ص 221 .