لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويجلونك ، وأن العلماء يحبونك ويكرمونك ، لكان ذلك سبباً إلى وجوب طلبه ، فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة ! ولو لم يكن من نقص الجهل ، إلا أن صاحبه يحسد العلماء ويغبط نظراءه من الجهال ، لكان ذلك سبباً إلى وجوب الفرار عنه ، فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة ! ولو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به ، إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية ، ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم ، وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس ، لكان ذلك أعظم داع إليه ، فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره ! ومن أقلها ما ذكرنا مما يحصل عليه طالب العلم ، وفي مثله أتعب ضعفاء الملوك أنفسهم ، فتشاغلوا عما ذكرنا بالشطرنج ، والنرد ، والخمر ، والأغاني ، وركض الدواب في طلب الصيد ، وسائر الفضول التي تعود بالمضرة في الدنيا والآخرة ، وأما فائدة ، فلا فائدة .
لو تدبر العالم في مرور ساعاته ماذا كفاه العلم من الذل بتسلط الجهال ، ومن الهم بمغيب الحقائق عنه ، ومن الغبطة بما قد بان له وجهه من الأمور الخفية عن غيره ، لزاد حمداً لله ، عز وجل وغبطة بما لديه من العلم ، ورغبة في المزيد منه .
من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه ، كان كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البر ، وكغارس الشعراء حيث يزكو النخل والزيتون .
نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم ، كإطعامك العسل والحلواء من به احتراق وحمى ، أو كتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع من احتدام الصفراء .
الباخل بالعلم ، ألأم من الباخل بالمال ، لأن الباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده ، والباخل بالعلم بخل بما لا يفنى على النفقة ، ولا يفارقه مع البذل .
من مال بطبعه إلى علم ما وإن كان أدنى من غيره فلا يشغلها بسواه ، فيكون كغارس النارجيل بالأندلس ، وكغارس الزيتون بالهند، وكل ذلك لا ينجب .أجل العلوم ما قربك من خالقك تعالى ، وما أعانك على الوصول إلى رضاه .
أنظر في المال والحال والصحة إلى من دونك ، وانظر في الدين والعلم والفضائل إلى من فوقك .
العلوم الغامضة كالدواء القوي ، يصلح الأجساد القوية ، ويهلك الأجساد الضعيفة . وكذلك العلوم الغامضة . تزيد العقل القوي جودة وتصفية من كل آفة ، وتهلك ذا العقل الضعيف .
لا تضر بنفسك في أن تجرب بها الآراء الفاسدة ، لتري المشير بها فسادها فتهلك ، فإن ملامة ذي الرأي الفاسد لك على مخالفته وأنت ناج من المكاره ، خير لك من أن يعذرك ويندم كلاكما ، وأنت قد حصلت في مكاره .إياك وأن تسر غيرك بما تسوء به نفسك فيما توجبه عليك شريعة أو فضيلة .
وقف العلم عند الجهل بصفات الباري ، عز وجل .لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها ، وهم من غير أهلها ، فإنهم يجهلون ، ويظنون أنهم يعلمون ، ويفسدون ، ويقدرون أنهم يصلحون .
من أراد خير الآخرة ، وحكمة الدنيا ، وعدل السيرة ، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها ، واستحقاق الفضائل بأسرها ، فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره ما أمكنه ، أعاننا الله على الإتساء به ، بمنّه آمين .
غاظني أهل الجهل مرتين من عمري : أحدهما بكلامهم فيما لا يحسنونه أيام جهلي ، والثاني بسكوتهم عن الكلام بحضرتي ، فهم أبداً ساكتون عما ينفعهم ، ناطقون فيما يضرهم . وسرني أهل العلم مرتين من عمري : أحدهما بتعليمي أيام جهلي ، والثاني بمذاكرتي أيام عملي .
من فضل العلم والزهد في الدنيا ، أنهما لا يؤتيهما الله عز وجل إلا أهلهما ومستحقهما ، ومن نقص علو أحوال الدنيا من المال والصوت ، أن أكثر ما يقعان في غير أهلهما وفيمن لا يستحقهما .
من طلب الفضائل لم يساير إلا أهلها ، ولم يرافق في تلك الطريق إلا أكرم صديق من أهل المواساة ، والبر ، والصدق ، وكرم العشيرة ، والصبر ، والوفاء ، والأمانة، والحلم ، وصفاء الضمائر ، وصحة المودة . ومن طلب الجاه والمال واللذات ، لم يساير إلا أمثال الكلاب الكلبة ، والثعالب الخلبة ، ولم يرافق في تلك الطريق إلا كل عدو المعتقد ، خبيث الطبيعة .
منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة ، وهو أنه يعلم حسن الفضائل فيأتيها ولو في الندرة ، ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ولو في الندرة ، ويسمع الثناء الحسن فيرغب في مثله ، والثناء الرديء فينفر منه ، فعلى هذه المقدمات يجب أن يكون للعلم حصة في كل فضيلة ، وللجهل حصة في كل رذيلة ، ولا يأتي الفضائل ممن لم يتعلم العلم إلا صافي الطبع جداً ، فاضل التركيب ، وهذه منزلة خص بها النبيين عليهم الصلاة والسلام لأن الله تعالى علمهم الخير كله ، دون أن يتعلموه من الناس . وقد رأيت من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه ، ولكنه قليل جداً . ورأيت ممن طالع العلوم وعرف عهود الأنبياء عليهم السلام ووصايا الحكماء ، وهو لا يتقدمه في خبث السيرة وفساد العلانية والسريرة شرار الخلق ، وهذا كثير جداً ، فعلمت أنهما مواهب ، وحرمان من الله تعالى .
المصدر :- كتاب الأخلاق والسير لابن حزم – ج1ص3 – 4