هو ثبوت النية على الاعتقاد وصدق تلك النية , لان الإخلاص مسالة روحية عميقة سرية تترجم عنها الى الظاهر التصرفات والأفعال الظاهرية . قال تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلص له الدين)(1), ولما كان الاخلاص مسالة سرية فهي متعلقة بالقلب فيبدا المريد بتطهير قلبه من الأدران المتراكمة فيه واخراج اية محبة دنيوية منه حتى يفرغ تماما استعداد لحلول محبة الله فيه ويتم ذلك بذكر الله فيه قال تعالى : ( ألا بذكر الله تطمن القلوب)(2), والإخلاص في محبة الله يبدا بالإخلاص في محبة الشيخ العارف والصدق معه والطاعة العمياء له لان حب الشيخ من حب الرسول ﷺ طالما كان الشيخ وريثا للرسول ﷺ وسائرا على نهجة وحب الرسول وطاعته فيكون الشيخ العارف عاملا امرا بامر الله ورسوله فحبه والاخلاص له ياتي من حب الله ورسوله والاخلاص معهم قال تعالى : ( قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)(3) , فالمريد قد قطع على نفسه عهدا للشيخ وأشهده بان يخلص لله توحيدا وصبرا وشكرا وان يرفض الدنيا ويطلب الله سبحانه وتعالى ويعرض عنها ويقبل عليه جل جلاله ويستوحش الناس ويأنس بذكر الله .
والقلب يرتبط بالعقل الذي هو مصدر التكفير وعنه تصدر التصرفات فاذا خلص القلب تبعه العقل بتوجيه التصرفات نحو ما يرضاه الله والابتعاد عن نواهيه عز وجل ولهذا ترى الإسلام اهتم بالقلب لأنه متى صلح القلب تبعه التصرفات الظاهرة بحـــق وحقيــــقة وعـــمل خالــص مــن أي شــرك او رياء ، قــال رسول الله ﷺ : ( الا ان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسدت فسد الجسد كله)(4) , وقال ﷺ : ( ان الله لا ينظر الى اجـسامكم ولا الـى صــوركم ولــكن ينـظر الى قلوبكم)(5) , وقال ﷺ : (ان لكل حق حقيقة وما بلغ احد حقيقة الاخلاص حتى لا يحب ان يحمد على شيء من عمل الله) , فحقيقة الاخلاص في العبادة هي ان يرى المريد نفسه مقصرا تجاه خالقه مهما بذل من طاقات وان لا يجعل لعمله قدرا كبيرا ويستصغره دائما لان الله سبحانه وتعالى لو طالب العبد ان يفي له بالنعم التي انعمها عليه لعجز العبد عن ذلك ولو وزن اخلاصه في العبادة مهما بلغ لما ساوى بذلك نعمه واحدة من نعم الله عليه .
قال الرسول ﷺ : ( من احب ان يعلم ماله عند الله فليعلم ما لله عنده).
فاي عمل يقوم به المريد في طلب وجه الله سبحانه وتعالى ليس ان يطالب الناس بالتقدير انما ذلك على الله لانه خاص به خالص له والا فقد وقع في الرياء , لذا يجب ان يكون العمل لله خالصا من الافات القلبية والنفسية فلا يعجب المريد من نفسه واخلاصه لله ويراه دائما قليلا .
قال الامام جعفر الصادق عليه السلام (الاخلاص يجمع فواضل الاعمال وهو معنى مفتاحه القبول وتوقيعه الرضا فمن تقبل الله منه ورضي عنه فهو المخلص وان قل عمله , ومن يتقبل الله منه فليس بمخلص وان كثر عمله اعتبار ا بادم وابليس عليه اللعنه وعلامة القبول وجود الاستقامة ببذل كل محاب مع اصابة علم كل حركة وسكون والمخلص ذائب روحه باذل مهجته في تقويم ما به العلم والاعمال والعامل والمعمول بالعمل لانه اذا ادرك ذلك فقد ادرك الكل واذا فاته ذلك فاته الكل ,وهو تصفية معاني التنزيه في التوحيد كما قيل الا هلك العاملون الا العابدين , وهلك العابدون الا العاملين , وهلك المخلصون الا المتقين , وهلك المتقون الا الموقنين ,وان الموقنين لعلى خطر عظيم قال الله تعالى : (واعبد ربك حتى ياتيك اليقين)(6) , وقال ايضا (ادنى حد الاخلاص بذل العبد طاقته ثم لا يجعل لعلمه عند الله قدرا , فيوجب به على ربه مكافاة بعمله, انه لو طالبه بوفاء حق العبودية لعجز . وادنى مقام المخلص في الدنيا السلامة من جميع الاثام , وفي الاخرة النجاة من النار والفوز بالجنة )(7) .
وقال السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره (يا غلام عليك بالاخلاص في العمل لله عز وجل في صلاتك وصيامك وحجك وزكاتك وجميع افعالك اتخذ عنده عهدا قبل وصولك اليه ما هذا العهد الا خلاصا وتوحيدا وسنة وجماعة وصبرا وشكرا وتفويضا للخلق رفضا وله طلبا وعن غيره اعرضا وعليه اقبالا بقلبك وسرك ولا جرم يعطيك في الدنيا قربا وله حبا واليه شوقا وفي الاخرة يعطيك من قربه ونعمه ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )(8) .
وقال قدس الله سره : (يا مخلص اهرب من الشرك إلى باب ربك , فقد عنده ولا تهرب عند مجيء الافات ,اذا وقفت على بابه و جاءتك الآفات من خلفك فتعلق بالباب فانها تدفع عنك بتوحيدك وهيبة صدقك فاذا جاءتك الافات فعليك بالصبر والثبات )(9) .
وقال ايضا قدس الله سره : ( يا عابد بغير قلب حاضر مثلك مثل الحمار المشدود العين وهو يطحن يظن انه مشى فراسخ كثيرة وهو من مكانه ما برح , ويلك تقوم وتقعد في صلاتك وتجوع وتعطش في صومك بلا ذرة من الاخلاص والتوحيد فماذا ينفعك ؟ ما يقع بيديك غير التعب ؟ تصلي وتصوم وعين قلبك الى ما في بيوت الناس وجيوبهم واطباقهم تنظرهم حتى يهدوا لك وتريهم عبادك وتعلمهم بصومك ومجاهدتك , يا مشركا, يا منافقا , يا مرائيا , يا مدبرا عن وصف الصدقين الروحاني الربانيين )(10) .
قال ابن عجيبة : (الاعمال كلها أشباح وأجساد واروحها وجود الاخلاص فيها كما لا قيام للاشباح الا بالارواح والا كانت ميتة ساقطة كذلك لا قيام للاعمال البدنية والقلبية الا بوجود الاخلاص فيها والا كانت صورا قائمة واشباحا خاوية لا عبرة بها )(11) .
وقال الجنيد البغداديقدس الله سره : ( الاخلاص ما اريد به الله من أي عمل كان )(12) .
وقال ابو يعقوب السوسي : (الخالص من الاعمال مالم يعلم به ملك فيكتبه ولا عدو فيفسده ولا النفس فتعجب به )(13) ,فيجل النفس بعيدة عن المريد في عمله لانها العدو الاول السالكين طريق التصوف والتوحيد الخالص فتراه يوجه عمله الى ربه وحده ويخيفه عن النفس كي لا تعجب من اخلاصها لله فتقع في الحذور .
ويرى ابن عجيبة ان الاخلاص هو توحيد القصد تجاه الله سبحانه وتعالى وان يكون السالك ملكا لله وحده روحا , ونفسا , وفكرا , وقلبا لا شريك له جل علاه ولا ارادة للسالك في أي عمل كان فيقول : ( الاخلاص اخراج الخلق عن معاملة الحق وافراد الحق تعالى بالقصد )(14) .
والاخلاص هو صفاء الاعمال وخلوصها من الشوائب وهو على درجات
الاولى : اخلاص الناس العامة فيكون في اخراج المخلوقات عن الهدف في اعمال العبادة وبمعنى اخر الابتعاد عن الرياء في العبادة .
الثانية : اخلاص السالكين ويمكن في عدم التفكير في الجزاء والثواب على العبادة لا في الدنيا ولا في الاخرة وانما يكون العمل من احل محبة الله فيعبد حبا لله ولا سيء غير ذلك متجاهلا الثواب والعقاب يوم الحساب .
واما اخلاص اهل الطريقة العارفين بالله فيكون بتجردهم عن القوة والارادة في العباده سواء بالقصد او الحركة وعدم الشعور بوجود غير الله حتى تكون عبادتهم من الله والى الله ولا احد سواه فاذا صام راه الله واذا قام فالحول والقوة من الله واذا شكر فالشكر من عند الله , اما العبد فهو مسخر ذائب في امر الله به يقوم وبه يصلي وبه يذكر وهذه اعلى درجات الاخلاص وذلك يحصل لهم لانهم مخلون قد صفاهم واستخلصهم ربهم فهم يفعلون ذلك بامره سبحانه وتعالى , قال ابو عثمان المغربي (اخلاص الخواص هم ما يجري عليهم لا بهم فتبدو منهم الطاعات وهم بمعزل عنها ) (15) , والاخلاص لله واجب حتما سواء كان ذلك في الرضا العبد ام لم يكن لان الله قاهر قادر وقضى بالاخلاص له في عبادة قال تعالى : ( ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها)(16) . فالاخلاص الحق يكون في معرفة الانسان خالقه صاحب النعمة عليه مع رؤيته للنعمة فلا ينكر المنعم ولا النعمة وانما يرى النعم كلها ويدرك في قلبه انها خلقت لتسبيح الله وحمده وانما انتفاعنا بها امر من الله لا قتضاء الضرورة .
قال محي الدين ابن عربي : (لا يصح وجود الاخلاص الا ان من المخلصين )(17) .اذ ان هذه الطائفة وهم اهل الطريقة قد استخلصهم الله واعتنى بهم عناية فائقة فلا يرون الفعل والاشياء الا خادمة مطيعة لمن اوجدها سبحانه وتعالى فلما حصل لهم المضار والنفع نظروا ببصيرتهم الثاقب المنورة الى واضع هذه الاسباب وعملوا حاجتهم اليه فكانوا بذلك عبادا مخلصين احبوه حبا شغلهم عن التكفير بما كان السبب في معرفتهم سبحانه وتعالى .
الهوامش :
(1) البينة : 5 .
(2) الرعد : 28 .
(3) ال عمران : 31 .
(4) رواه البخاري .
(5) رواه مسلم وابن ماجه .
(6) الحجر :99 .
(7) عادل خير الدين – للامام جعفر الصادق – العالم الفكري- ص 283 .
(8) جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص30 .
(9) جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص30 .
(10) المصدر نفسه .
(11) ابن عجيبة – ايقاظ الهمم في شرح الحكم – ج1 – ص 25.
(12) التعرف لمذهب اهل التصوف الكلاباذي .
(13) المصدر نفسه .
(14) ابن عجيبة – معراج التشوف الى اهل التصوف .
(15) الرسالة القشيرية .
(16) الرعد :15 .
(17) الفتوحات المكية لابن عربي .
المصدر :
السيد الشيخ محمد الكسنزان – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية – ص231-236 .