ميثم الجنابي (بروفيسور عراقي يعيش في موسكو)
من الصعب تحليل جميع آراء المتصوفة للبرهنة على نموذجها المتميز في مواقفه ونظراته من أدب السلوك . فالمتصوفة تشترك أيضا في تباينها. بصيغة أخرى إن تباين الطرق الصوفية في “تقنين” سلوكها يقوم في افتراض كل منها كون المبادي، الأولية لطريقته هي الأسهل والأدق لتربية المزيد في بلوغ ما أسمته الصوفية بدرجات التوحيد. فالنقشبندية على سبيل المثال بنت طريقتها على ما دعته بـ “التعرض والقاء الجذبة المقدمة على السلوك ” ، في حين أن بقية الطرق تقوم في تقديم السلوك على الجذبة . ولهذا قالوا: بداية الطريقة النقشبندية نهاية الطرق ! وهناك من جعل العكس هو أسلوب التربية الصوفية ، أما في الواقع فليس هنا من تناقض جوهري. فالمتصوفة لم تبحث في ذلك عن أسس نظرية لقناعاتها أو تنظير عقلاني لأطروحاتها وممارساتها. لقد حاول كل منهم اكتشاف حقائق اللانهاية بطريققه الخاصة .
الا أن لهذه “المحاولة ” أسسها الفكرية والثقافية . فقد استمدت المتصوفة سواء في منطلقاتها الفكرية الأولية أو في حوافز وعيها الاخلاقي، الكثير من قيم اسلام الدعوة والرسالة . أي من ذلك الرصيد الذي لم تشوهه بعد مهارة الجدل ومكر السياسة ومصالح السلطة . وقد وجد ذلك انعكاسه ليس فقط في مبدأ الزهد، بل وفي مبدأ نزع الارادة الظاهرية من خلال صياغة مبدأ الارادة المجردة أو الكيان اللا مرئي الذي يتحكم في كل ما هو موجود. أو هو ذاته الرجوع الى المبادي، الأولى في ادراك حقيقة الوجود ومعنى الفعل (الانساني) .
واذا كانت هذه المحاولات الأولى قد سارت في أدب السلوك الاسلامي التقليدي (السني أو العرف المتسامي) فلأنه الاسلوب الواقعي الممكن لظهور وتبلور المجرد (الحقيقي). فقد سلكت المتصوفة الأولى في سلوكها أسلوب ما ينبغي. الا أنها لم تنظر اليه نظرتها الى غاية نهائية وحتى حال غياب تجزؤ الغاية والوسيلة كقيم وكيانات قائمة بحد ذاتها في منظوماتها اللاحقة ، فانها لمن تعترف ، إن جاز التعبير، إلا بشرعية النفي الاخلاقي. وفي هذه العملية الدائبة والمتناقضة تبلورت تقاليد أدب الروح الصوفي .
فالتصورات الشائعة عن أدب التصوف وقواعد سلوكه تتضمن عنا~ متكافئة في خطئها وسطحيتها سبراء أيدت ، أو عارضت ، مدحت أو ذمت ، أقبلت عليه أو أدبرت عنه . والقضية هنا ليست فقط في أن الثصوف “بحر مفرق ” ، بل وفي تلك الميوعة التي لا يمكن الامساك بها إلا من خلال رمي قيود النفس ،.أي بلوغ تلك الحالة التي تنقشع فيها قواعد “الجهل المعرفي ” وفي ميدان السلوك تلك الحالة التي تصبح فيها قواعد التصوف “المجردة ” خلفية وأسلوب وباعث الممارسة الحياتية في سعيها نحو المطلق . غير أن هذه الحصيلة النظرية في تاريخيتها كانت نتاجا معقدا لتفاعل وتداخل التاريخي والوجداني _ المنطقي ، الذي بحث عن تآلف له في منظومة فريدة في عالم الاسلام .
فأدب السلوك الصوفي بهذا المعنى هو نتاج لعالم الاسلام ، وهو في الوقت نفسه نفي لأدب العوام وديانات الامم . انه المثل النخبوي لقواعد الحق (المطلق ) في السلوك . الا أن المتصوفة لم “تنظر” لهرمية التعالي ، بل لهرمية التسامي ولكن في وحدة الكل . وهذا ما يمكن العثور عليه في استيعابها الخاص لعلاقة أدب تربيتها وسلوكها بآداب الاسلام .
فقد صاغت المتصوفة آدابها بالطريقة التي رأت فيها نموذج الحقيقة الناصعة لروح الاسلام . أي أنها طابقت سعيها التربوي وقواعد سلوكها بالصيغة التي تتجاوب فيه تعاليم الاسلام مع ثلاثية العلم والحال والعمل . ولهذا انطلق سراج الدين الطرسي (ت – 378هـ) في استعراض مقدمات الأدب الصوفي من الآية القرانية : لايا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نار الا معتبرا اياها تحذيرا ووصاية على ضرورة التربية والأدب والتعلم من أجل وقا يتهم ، اما القشيري (ت-475هـ) فانه استند الى الآية : ( ما زاغ البصر وما طغى) باعتبارها التمثيل الأعمق لحفظ آداب الحضرة الالهية (1).
بينما استفاض السهر وردي (ت _ 632هـ) في تأويلاته للآية الآنفة الذكر بحيث وضعها في أساس نظرية متكاملة عن الأدب والسلوك أو ما أسماه بـ “آداب الحضرة الالهية لأهل القرب “(2) ان افتراض المتصوفة وجود “آداب الحضرة الآلهية ” أو “أدب القرب ” هو النموذج الثقاذ – التاريخي للمطلق ، أو وحدة الاسلامي – الانساني أو الأنا – الجميع أو السر – المعنى. وهذا ساجعل من الممكن الحديث عن النبي محمد تيئو كمجمع للآداب ظاهرا وباطنا، ومن الآية ط ما زاغ البصر وما طفى9تجل رمزي للممارسة . فالمتصوفة في ددتنظيرهادد لأدب السلوك لم تنهمك بتضحية “الأولوية ” و” الثانوية “، الجوهري والعرمي، بل بأدب الفعل المتوهج بالسر الروحي للقناعة الذاتية . وقد فسح ذلك المجال لتنوع هائل في خضم الوحدة . ولكنها أبقت مع ذلك على كيان التجربة الفردية كنموذج لتجلي “الاعتدال المطلق “. ولهذا كان من الممكن بالنسبة للتنظير الصوفي لأدب السلوك أن يجد في أقوال المتصوفة تأييدا لاطروحاته العامة . وقد أعطى ذلك لعلمها وعملها في أدب السلوك تنوعا هائلا. الا أن اتجاهيته العامة كانت تقوم على تجاوز أدب العوام الى أدب الحق (المطلق ). أي تجاوز أدب العوام في الشريعة أو الطريقة والحقيقة . أي في مكونات الوجود الجوهري للعلم والعمل . غير أن هذا التجاوز لا يستند الى آلية رد الفعل أو التصور المسبق عن ضرورة “البديل “، بقدر ما أنه ينبع من مقوماته الجوهرية كنبع الدمع من العين .
إن سعي الصوفية للو حدة أو الكل أو الفناء في التوحيد ما هو إلا الصياغة الظاهرية لإبداع وحدة الهم الداخلي ، الذي يضمحل هو ذاته حال بلوغه . ويهذا المعنى فان أدب المتصوفة الروحي هو أدبهم الجسدي. والعكس هو الصحيح . والقضية هنا ليست في تبديل العبارات والمفاهيم ، بقدر ما إن تقاليد الصوفية وسعاها النهائي ينصب في اتجاه الفاء وتذليل ثنويات الروح والجسد، بل وكل ثنويات الوعي واشكالاته المدرسية . وبالقدر الذي تشكل ثلاثية الشريعة والطريقة والحقيقة مستويات وثنويات الوعي الثقافي في تاريخيته ورمزيته الدينية – الميتافيزيقية ، فانها تمثل في الوقت نفسه أسلوب تذليلها.
فالجوهري في هذه الثلاثية لا يقوم في قواعدها العامة أو الخاصة ، بل في مصدر يتها وروحها الداخلية . فالمتصوفة لم تبن آراءها هذه استنادا الى ادراكها أهمية الأدب في سلوك الطريق فحسب ، بل ولا دراكها وعورة قواعده ذاتها. ففي هذه الوعورة يكمن معيار وأسلوب شحذ أدب امتلاك الأدب . أي وعي النفي الدائم في السمو الاخلاقي. ولهذا أكدت على أن الأدب هو كمال الأشياء ولا يصفو إلا للأنبياء .
والصديقين -. في حين وجد القشيري حقيقة الأدب في اجتماع خصال الأدب ~ أ:. الا أنهم لم يقصدوا بالأدب هنا سوى أدب الفعل لا أدب القول . وأن تشديد المتصوفة على أن الأدب أدبان : أدب قول وأدب فعل لا يسعى لوضع أحدهما بالضد من الآخر، بقدر ما إنه يعبر عن أهمية الفعل وجو هريته في سلوك الطريقة . ويرتبط هذا التشديد بأولويات التصوف أي بضرورة الفعل كمقدمة للسير في “طريق الحق” . اذ أن أدب الفعل كما يقول كلثوم الغساني، فاقرار الصوفية بدرجات الأدب يتضمن في آن واحد الاعتراف بتباين المستويات (العوام والخواص ) وواقعية وتفاؤلية التطور الأخلاقي (الأدبي). فالمتصوفة لم تصغ مبدأ النخبوية الاجتماعية بل مبدأ التسامي الأدبي. وأن أسلوبها في تربية المريد هو أسلوب تذليل الأنا الاجتماعية الضيقة باسم المبدأ الأعلى . أي أنه التجاوز الواقعي (الثقافي ) والمثالي (الأخلاقي – المطلق ) لأدب العوام . فالمتصوفة لم تضع قيودا خارجية في الأدب . واذا كانت القواعد الأدبية المرعية في سلوك الطريق تتخذ صيغة المبادي، الصارمة ، فلأنه أسلوب تذويبها في “القهر” الأدبي. أو ما سبق وأن عبر عنه التستري (ت – 273هـ) بعبارة : “من قهر نفسه بالأدب لم فهو يعبد الله بالاخلاص”(6) غير أن قهر النفس بالأدب هو من مصير العارفين . وقيما بين قهر العوام والخواص يكمن ذلك البون الشاسع ، الذي لا يذلـله سوى عملية “بذل الروح” ، التي تفترض توبة الحقيقة كمقدمة فعلية للتأدب الشامل . أي مريق التربية الذي يبدأ وينتهي بوحدة العلم والعمل كأسلوب لتهذيب القلب (الاخلاقي). فالجوهري في أدب التصوف هو طهارة القلوب ومراعاة الأسرار. أي عالم الروح الأخلاقية . فهي لا تخضع في آدابها لقوى ما خارجية مقننة . بمعنى أنها تزيل مفعول وشرعية القوانين الرسمية لتستعيض عنها بقواعد الروح الاخلاقية . ولهذا قال ذو النون المصري (ت- 245هـ) بأن ددأدب العارف فوق كل أدب لأن معروفه مؤدب قلبه “. أي أنه لا يخضع إلا لما يمليه عليه قلبه الصوفي أو حقيقة القلب . وقد جعل ذلك من أدبها في مظهريته يبدو كنفي لقواعد العرف أو التقاليد، أو انتهاكا لقيم وقواعد الفقه . الا أن هذا التصور هو مجرد انعكاس ايديولوجي لـ”سوء الأدب “.
لقد بحثت المتصوفة في نموذج أدبها وقواعده عما يمكنه أن يكون وسيلة رقيها الاخلاقي. ويهذا تكون قد افترضت طريقا نخبويا للخير المطلق لا يتعارض في الكثير من سماته مع حقائق الوجود الكبرى. فدخول الطريق الصوفي يستلزم في قواعده الأدبية الاقرار اللساني – الفعلي بالتوبة الحقيقية. أي تذليل الرذيلة وتحقيق الفضيلة . وحدد ذلك لدرجة كبيرة الوحدة المتناقضة أو الديناميكية الحية للسمو الاخلاقي، التي “يفزلها” تفاعل التجربة الفردية والسلوك الطرائقي.
إذا كان التصوف مبنيا بمعنى ما على أساس ايجاد النسبة الحقيقية بين الظاهر والباطن ، فان تجلياتها الأدبية تصل الى الذروة التي ينبغي أن تنحل فيها كل مماحكات الوعي وتباينات الوجود الشرطية ففي الوقت الذي يشكل الظاهر تجلي الباطن ، فانه يقيده في اتجاه تطهيره . والعكس هو الصحيح . وبغض النظر عن تباين أطروحات المتصوفة بصدد أولوية الظاهر أو الباطن في أدب السلوك ، الا أنهم يتفقون في ضرورة وحدتهما الداخلية وحركتهما الدائمة . والخلاف الذي يمكن أن يحدث هنا ينبع من تباين المبادي، وأولويتها في تربية المريد، أو نتيجة لحال الصوفي وأحكامه في درجات التربية . ويهذا المعنى يمكن فهم مضمون الاتفاق في الاختلاف بين عبارات الجنيد(ت- 297هـ) وأبي حفص (ت – 260هـ)، عندما اعترض الأول تأدبا على الثاني بعد أن شاهد ما شاهد من سلوك اتباعه قائلا : لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين !! فأجابه أبو حفص : حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الا أدب في الباطن ! (7) لقد طالب الاول بحريه – الروح الصوفية وتلقائية الأدب القلبي، بينما لم يجد الثاني في أدبهم “السلطاني” سوى تجلي الأدب الباطني (الصوفي ) . ولهذا قال بعضهم : الزم الأدب فناهرا وباطنا. فما أساء أحد الأدب فلاهرا إلا عوقب ظاهرا، وما أساء أحد الأدب باطنا الا عوقب باطنا(8).
فالمتصوفة لا تعمق هنا تجربتها الخاصة فحسب ، بل وتجارب التربية الاخلاقية ككل . الا أن منظورها الحاد يتسم بالحساسية المرهفة في قواعد سلوكها بفعل وحدته الداخلية . فهي لم تعن بالعقوبة هنا سوى عرقلة تسامي الروح . فالأخير تستلزمه الطريقة بالترو الذي يحدد هو بها سلوك الصوفي في تجاوز “مقامات اليقين”. أي أن الأدب يلعب هنا دور المرشد الصوفي أو شيخ الحقيقة السري. فهو يمثل هنا دور الملازم الدائم في تقوية السعي نحو ادراك جوهر الحقائق الكبرى. واذا كان الفكر الصوفي قد أبدع في منظوماته المختلفة صياغة مضامينه الخاصة لعلاقة الأسماء والصفات والافعال (الالهية )، فانه لم يتطرق اليها في تقاليد الجدل الكلامي واجتهادات الفرق بل في إطار الكل الاخلاقي وتكامل الذات الانسانية (الشيخ – القطب ). أي أنه حولها الى عالم السلوك الأدبي كمثل أعلى . ويهذا يكون بإمكانها أن تتحول في مجرى الطريقة الى معالم بلوغ الحقيقة . ولهذا قال بعضهم على لسان الحق : أدمن ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب . ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب . فاختر أيهما شئت الأدب أو العطب (9).
أي تلك العملية التي تؤدي حسب عبارة السهر وردي (ت- 932هـ) الى أن تتلاشى الآثار بالأنوار مع لمقات نور عظمة الذات وقد أدى ذلك ال تباين المتصوفة في شخصياتهم . الا أن ما وراء سلوكهم الأدبي تكمن تلك الوحدة التي لا يمكن تحسسها ولمسها أي كيانهم الخاص . وان هذا الكيان في ميدان الطريقة يقوم بالاقرار بأولوية الأدب وضرورة التمسك به حسب اقتضاء الوقت والحال . أي القضاء الذي ينبغي أن تحدده يقينية القناعة الذاتية المتدفقة في وحدة العلم والعمل . فالأدب بهذا المعنى يؤدي في الطريقة وظيفة الرابط لحلقاته اللامتناهية . غير أن هذا اللامتناهي المجرد يتخذ على الدوام في تجلياته الملموسة قيم الثقافة السائدة كأسلوب للتعبير عنها. وفي حالة الأدب الصوفي شكلت الشريعة النموذج السائد والأساس الثقافي _ العقائدي ، والمحك الوجودي لقواعد السلوك (الصوفي ). وبالتالي كان أدب الشريعة بالنسبة للمتصوفة موازيا لأدب السلوك العقائدي، أو بصورة أدق لأدب السلوك الأخلاقي.
ذلك لا يعني بأن المتصوفة نظرت الى الشريعة نظرتها الى وسيلة ظاهرية . على العكس ! فأدب الصوفية ظل في أعمق أعماقه أيضا أدبا إسلاميا. ولكن لا بالمعنى الفرقي أو المذهبي أو حتى العقائدي، بل بمعنى الوحداني .الحقائقي . أي أنهم نظروا الى الشريعة بعين الحقيقة . ويهذا تحولت نصوص الشريعة الى رموز الروح الاخلاقي. فالعلاقة القائمة فيما بين الشريعة والحقيقة في طريقة المتصوفة هي ليست علاقة أطراف سائبة ، بل علاقة الحركة الدارجة في السير نحو الحق . “قد عبر القشيري عن نموذج معين في استيعاب هذه العلاقة عندما كتب يقول : “الشريعة أمر بالتزام العبودية والحقيقة مشاهدة الربوبية . فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول . فالشريعة جاءت لتكيف الخلق والحقيقة أنباء عن تصويف الحق . فالشريعة أن تقيده والحقيقة أن تشهده . والشريعة قيام بما أمر والحقيقة شهود لما قضى وقدر(11) . وقد ترتب على ادراك هذه العلاقة والتمسك بها مواقف متباينة في نوازعها وغاياتها، تجلت فيما دعته المتصوفة بآداب الشريعة التي يقوم فحواها في اظهار العنصر الاخلاقي لا الفقهي الباطني لا الظاهري مع الاحتفاظ بوحدتهما الحقة .
واذا كانت المتصوفة في أدبها تمثل تقاليد الأدب الاسلامي الورع في تقليديته الظاهرية ، فانها امتثلت في خميرة افكارها تجارب الحق الانساني في مثله المطلقة . وهذا ما يفسر أسباب تحررها الفردي وتساميها الروحي وقدرتها المرنة على توليف التباين الثقاذ في وحدة مبدئية متجانسة . فهي لم تسع في آدابها الا لمشاهدة الربوبية (الحق ) أي أن أدبها هو ليس أدب الخضوع والخنوع لغاية ما معينة ، بل أدب الارتقاء الروحي لأجل تقبل وحدة الكل .
ان وحدانية الأدب الصوف وكليته تستلزمها دوامة الانقطاع والمواصلة بين قطبي قطع العلائق (بالعالم ) وازالة العوائق (من القلب ) بالانتساب الى المطلق (الله) . ولهذا ما كان بإمكان المتصوفة كما يقول الطرسي ، أن يتخلفوا عن استعمال الأدب لأنهم تركوا المكاسب وقطعوا العلائق وانقطعوا الى الله ونسبوا الى الله (12). فالطابع الوجداني لأدب الصوفية متأت من جوهر ممارستها ولهذا تكلم المتصوفة أيضا عن مقام الصلاة . أي أنهم لم يتطرقوا اليها من وجهة النظر الفقهية ومفاهيم الفرض والواجب ، بل في إطار ومسار قطع العلائق في درجات التوحيد. بصيغة أخرى، إن عملية النفي الدائمة التي يفترضها مسار السلوك الصوفي في آدابه من جدلية الفناء والبقاء ومستوياتها الطرائقية – العملية (المقامات ) وتجلياتها الوجدانية – الاخلاقية (الأحوال ) هو الذي يدرج في مجرى صقل الروح تقاليد العبادات بتحويلها الى جزء من الكل الأدبي الشرائعي. ولهذا وجدوا في الصلاة “مقام الوصل والدنو، والهيبة والخنوع والخشية والتعظيم ، والوقار والمشاهدة والمراقبة والاسرار والمناجاة مع الله . وقد جزء بعض المتصوفة هذه الفكرة أو حد سنانها الأدبي من خلال التلاعب الظاهري بالكلمات . أي أنه حاول ربط الوجدان بالمعاني الكبرى للحروف ، حيث طالب المريد في أن يكون مصحوب قوله اته : التعظيم مع الألف والهيبة مع اللام والمراقبة مع الهاء (14) ، فتكون كلمة اته في فمه تجل للتعظيم والهيبة والمراقبة . واذا كان من الممكن تباين آراء المتصوفة في الموقف من أساليب الأدب وأشكاله في الشريعة ، فان هذا التباين يبقى من حيز الاجتهاد الطرائقي. فعندما حاول القشيري ان يكشف عن هوية المتصوفة التقا ليد الاسلامية فانه وجد فيها الاستمرارية الأرقي في عصرها – “الصفوة المحمدية “. أي النموذج في الأدب (الدين )(15) . بصيغة أخرى، أن حقيقة الأدب الصوفي في مجال العبادة يقوم كما لخصه الجنيد بعبارته عندما سئل عن فريضة الصلاة قائلا :”هي قطع العلائق وجمع الهمم والحضور بين يدي الله “(16) أي نفس العلاقة التي نعثر عليها في أدب المتصوفة تجاه كل أنواع ومستويات العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج .
فالصوفي لا يبحث عن غاية ما قائمة بحد ذاتها. اذ ليست هذه الغاية سوى السر الذي يكتشف فيه المرء بفعل غنى عمق تجربته الفردية ملامح رؤيته له . ولهذا أصبح من الممكن تحول الأدب الى وسيلة الصوفي وغديته . وبالتالي الى أسلوب تذليل خلافهما من خلال العملية الدائبة لبلوغ البقاء في الفناء. وقد جعل ذلك ممكنا البحث الدائم عن معنى الكل في جميع دقائق الأدب . ولهذا ليس من الغرابة أن يقول الشبلي (ت –334هـ) يوما لرجل : “تحسن أن تصوم الأبد؟ وعندما تساءل الرجل : “فكيف الأبد؟ أجابه الشبلي : “تجعل ما بقي من عمرك يوما وتصومه (17). أي تجاوز الصوفية في ممارساتها واحكامها لحدود الفقه ونصوص الشريعة الظاهرية باسم الحق . فهم يعرفون ، كما يقول الطرسي ، مقدار الزكاة ولكنهم يلزمون أنفسهم بالكل . وقد ترتب على ذلك نتيجة جوهرية في مجال العبادات تقوم في تجاوز أدبهم شريعة التقليد الظاهرية .
وقد نبع من ذلك طابع التسامي النخبوي المميز للأدب الصوذ، وأولوية الروح على النص . ولهذا لم يلزموا أنفسهم بحدود صارمة باستثناء حدود الأدب العامة وتجلياته الخاصة في ميدان الشريعة . فقد سعت المتصوفة في جميع آدابها الى التكامل . ويهذا المعنى فان أدبها الشريعي هو أدب التكامل والوحدة . وأن تبايناته تؤدي في حصيلتها العامة الى وحدة الكيان الصوفي لأنه أدب يستند الى قواعد عامة تشكل في جمعيتها ما يمكن دعوته بروح الأدب .
ان الجوهري في أدب التصوف ، هو بذل الروح . ولا يعني ذلك سوى التمسك بتلك القواعد التلقائية التي يحددها” حسب عبارة الصوفية ، حقيقة الوقت . بصيغة أخرى أن أدب المتصوفة في بذل الروح لا يطالب بشيء مقابل فعله سوى لذة المعنى. أي أنه أدب المعنى الباحث عن القيم الكبرى. انه أدب البحث عن المعنى في كل فعل وعن قيمته الوجدانية . أي أنه الاستدامة المعمقة لاحتواء العالم في الذات . وقد جعل ذلك منه ، إن أمكن القول ، أدب الوفاء بالبلاء. أو أدب الربط الدائم بين العلم والعمل . ولهذا كرهوا كما يقول الجنيد، أن يجاوز لسانهم معتقد قلوبهم . في حين قال أبو تراب النخشبي (ت- 245هـ) :منذ عشرين سنة لا أسأل عن مسألة الا كانت منازلتي فيها قبل قولي “(18). وقد أعطى هذا الاهتمام بالكلمه قوى تعادل في فعاليتها معنى الفعل . ولهذا اتخذ ربط الحقيقة بلسان الحال قيمة دائمة يتعمق محتودها في ممارسة أدب بذل الروح ، التي يقطعها الصوفي في طريقه الخاص . ويهذا يمكن فهم مغزى العبارة التي تفوه بها يوما أبوبكر الزقاق ، عندما قال : “سمعت من الجنيد كلمة في الفناء منذ أربعين سنة هيجتني وأنا بعد في غمارها”(19) .
أن روح الأدب الصوذ وكينونته المتعاظمة في مسار بذل الروح هو التجسيد الأخلاقي لأحد الحلول النموذجية التي أبدعتها ثقافة الاسلام (الثقافة العالمية ككل ) في التعامل مع معضلات وتناقضات الوجود الانساني وسعيه نحو المطلق . وسواء جرى الاقتناع بصحة آرائها وأحكامها عنه وسبل بلوغها إياه لا، فإنه مما لا شك فيه إسهامها الهائل في تعميق الروح الاخلاقية . اذ أنها وضعت بلوغ الحقيقة في صلب آدابها، وليس صدفة أن يقول أحدهم : “اذا رأيت الفقير قد انحط من الحقيقة الى العلم ، فاعلم انه قد فسخ عزمه وحل عقده. وليست هذه الحقيقة سوى حقيقة البذل الدائم . أي التمسك الأدبي بقواعد الروح الاخلاقية المؤدية الى صقل القلب وتسوية الارادة . من هنا يبدو واضحا بأن أدب المتصوفة لا يخضع لـ” قواعد” جامدة . وأنه في جوهره أدب تجاوز الحدود الظاهرية . أي أنه يذوب الحدود الظاهرية في بوتقة الأدب الطرائقي. ويهذا المعنى تكف فكرة الحواجز عن أن تمتلك معنى في ذات الصوفي ولهذا قال أبو يعقوب السوسي في آداب السفر: “أن المسافر يحتاج في سفره الى أربعة أشياء : علم يسوسه وورع يحجزه ووجد يحمله وخلق يصونه (21) اي نه بحث عن “اشياء” الباطن . بينما “اشياء”، الباطن في العرف الصوفي هي السر، والكيان اللامرئي المتحكم في الوقت نفسه بحقيقة الفعل . فعندما قال رجل من الصوفية في مجمع “أنا جائع ” !! رد عليه آخر: “كذبت !
وعندما قيل للأخير: “لم قلت له ذلك ؟” أجاب : “أن الجوع سر من سرالله ، موضوع في خزائن من خزائن الله لا يضعه عند من يفشيه “(22). أي انه مثالبه بأدب الصمت الصرفي والتأمل المعرفي _الاخلاقي للذات السائرة .
فقذ رفعت الصوفية مبدأ المراقبة (الذاتية ) الى مصاف الأدب الدائم ، أو الخلفية التي تنعكس فيها حقائق الوقت وتجليات السر. إلا أن مراقبة النفس عندهم لم تكن لتلبية احتياجات ومتطلبات السياسة والقوى ، بقدر ما إنه يعبر عن فاعلية القيمة الاخلاقية في الكيان الصوفي ككل . فهي لا تشكل قاعدة بالمعنى الشكلي للكلمة . انها العصب اللا مرئي في وجود الصوفي الذي لا يقف عند حدود المراجعة الانتقادية أو عند عتبات التقويم القسري. ولهذا لا تعترف ولا تشجع المتصوفة قيم وقيود وسيكولوجية القادة _القاعدة ولا مؤسساتها، بل تضع على الدوام مهمة التفتيش الذاتي كجزء من العملية الدائبة لنفي الرذيلة . أي أنها تعي شسور الذات الأخلاقية كأسلوب لتسوية الارادة وصيرورة الهم الموحد. فللووح أيضا قوانينها التي تتطابق في التصوف مع القناعة الفردية أو اليقين الحق . ولهذا كان بإمكان المتصوفة أن تقول بأن العوام يمكنها الاستعانة بتقليد العلماء، أما المتصوفة فلا تقلد الا الحق . وقد حدد ذلك بالضرورة أهمية التجربة الفردية في الأدب الصوفي ، أو التمسك الصارم بن حدة العلم والعمل . أي الأدب الصارم لمراقبة دقائق الروح والفعل . اذ يحكى في نوادع الصوفية أن رجلا جاء الى أبي عبد اثو أحمد بن يحيى الجلاء وسأله عن مسألة في التوكل ، فلم يجبه . ثم دخل بيته وأخرج اليهم هوة فيها أربعة دوانق وقال اشتروا بها شيئا، ثم أجاب الرجل عن سؤاله . وعندما استفسروا عن ذلك أجاب :”استحيت من الله أن أتكلم في التوكل وعندي أربعة دوانق (23). ويحكي عن المزن الكبير (تـ328هـ) أنه كان في سفره مع ابراهيم الخواص (ت-291هـ) فاذا عقرب يسعى على فخذه ، فقام ليقتله فمنعه قائلا: “دع كل شيء مفتقر الينا ولسنا مفتقرين الى شي ء”.(24) أي كل تلك الممارسات التي عبر عنها الخواص في أحدى كلماته قائلا: “لا يحسن هذا العلم الا لمن يعبر عن وجده وينطق به فعله “. ان هذه القناعة الجارفة بحقائق التصوف ، التي تلازم بلورة إرادة المريد تتحول بالارتباط مع ارتقائه ال كيانات نوعية (مقامات وأحوال ) وتبقى في الوقت نفسه هي هي ذاتها. فالجوع ، كما يقول يحيى بن معاذ (ت – 258هـ) هو “للمريدين رياضة ، وللتائبين تجربة ، وللزهاد سياسة ، وللعارفين مكرمة”(25). واذا كان من الصعب المطابقة بين الرياضة والتجربة والسياسة والمكرمة في عرف ومنطق وقواعد التحليل العلمي الشكلي ، فان هذه الخلافات تضمحل في “منطق” الروح الاخلاقي. اذ ليست هذه الخلافات في الواقع سوى درجات بذل الروح التي تخلق في تجلياتها صيغ الروح الأدبي (الصوف ). ومن الممكن أن تتخذ هذه الصيغ الأدبية في القناعات الفردية أشكالا غاية في التباين ، الا أنها تعكس في وحدتها ثبات القناعة ، أن أدب القناعة الفردية يدفع بالصوفية الى أن يسلك السلوك الوحيد الضروري. أي أدب التجربة الفردية ولا يقصد هنا بفردية الأدب نزعته الانزوائية . رغم أن الانزواء يشكل بحد ذاته جزءا من “منظومة” تسوية الارادة الصوفية .
ففي الوقت الذي يفترض الأدب الصوفي التمسك بقواعد الحق وتسوية الارادة ، تستلزم الروح الأدبية تأثرها بهما. وقد حدد ذلك ما يمكن دعوته بديناميكية التقيد بالمطلق وأدأبه . ففي الوقت الذي يستلزم على سبيل المثال ، تربية المريد وجود الشيخ ، فإنها تطالبه ببذل الروح الفردية . وف الوقت الذي .عتلك الشيخ قواعد طريقته الخاصة في السلوك ، تتعايش في “ذاكرته” اللانهائية سلسلة الوجود الصوفي في شيوخها وحكمائها. ولهذا كان بامكان أبي علي الدقاق ان يقول بأنه أخذ الطريق (الصوفي ) عن النصر ابادي عن الشبلي عن الجنيد عن السري السقطي عن معروف الكرخي عن داوود الطائي عن التابعين(26). ويقف عند هذا الحد. وكان بامكانه ان يربطه في نهاية المطاف بالحق (الله ) والا يقف عند ذلك ، بفعل سيطرة “الأن الدائم ” وحقائق الوقت التي تطالبه على الدوام بتسوية الارادة . ولهذا قال الجريري (ت-311هـ) في أدب العزلة عندما سئل عنها : أدهي الدخول بين الزحام وتمنع سرك الا يزاحموك ، وتعزل نفسك عن الانام ويكون سرك مربوطا بالحق “(27) في حين قال ذو النون المصري : “ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة كمن احتجب عنهم بالله (28) ولا يعني الاحتجاب بالله هنا سوى الظهور بدوافع الحق وغاياته . اذ اننا لا نعثر على صوفي لم يتحدث عن سعيه للحق . بل يمكن القول ، بأن ما يميز الصوفية في التراث الاسلامي كونهم “السائرين الى الحق” وكونهم “أهل الحق” . فقد حولت المتصوفة مفهوم الحق الى بؤرة وجودها الجوهرية . وجعلت منه وسيلة وغاية وجودها الأدبي الأخلاقي. بل إنها أعطته كل “صلاحياتها ، وبنت عليه نظرياتها ومواقفها تجاه كل قضايا الفكر والوجود الكبرى.
وحاولت في سعيها العملي وآدابها ان تجسد نفسها باعتبارها ممثلة الحق في يقينيته . ومن غير الممكن توقع ميدان آخر لهذه اليقينية غير ميدان الروح الاخلاقي. فهو الاطار الوحيد الذي يمكنه أن يحوي نفسه والمطلق .
____________________
الهوامش:
1- القشيري: الرسالة القشيرية في علم التصوف، القاهرة 1957،ص128.
2- السهروردي: عوارف المعارف ( مع ملحق احياء علوم الدين للغزالي) بيروت، دار المعرفة(ب.ت)، ص 150.
3- الطوسي: اللمع في التصوف، ليدن 1914، ص142.
4- القشيري: الرسالة القشيرية، ص129.
5- الطوسي: اللمع، ص142.
6- القشيري: الرسالة القشيرية، ص129.
7- القشيري: الرسالة القشيرية،ص 129.
8- السهرودي: عوارف المعارف ص 151.
9- القشيري: الرسالة القشيرية ص 129.
10- السهرودي: عوارف المعارف ص 153.
11- القشيري: الرسالة ص43.
12- الطوسي: اللمع في التصوف ص 150.
13- نفس المصدر السابق ص150.
14- نفس المصدر السابق ص152-153.
15- القشيري: الرسالة القشيرية ص7.
16- السهرودي: عوارف المعارف ص168.
17- الطوسي: اللمع في التصوف ص166.
18- الطوسي: اللمع في التصوف ص179.
19- نفس المصدر السابق ص181.
20- نفس المصدر السابق ص 179.
21- نفس المصدر السابق ص190.
22- نفس المصدر السابق ص203.
23- نفس المصدر السابق ص 179-180.
24- نفس المصدر السابق ص 189.
25- نفس المصدر السابق ص 302.
26- القشيري: الرسالة القشيرية، ص134.
27- نفس المصدر السابق ص 51.
28- نفس المصدر السابق ص 51.
___________________
المصدر : http://www.nizwa.com/volume9/p97_102.html