تَمْهِيــدٌ
خلال أربعة عشر قرناً من الزمان ، تراكمت خبرات طويلة الأمد فى حياة الإسلام والمسلمين ، حتى صارت تلك الخبرات بمثابة مخزونٍ ثقافىٍّ هائل، يلعب دوراً كبيراً فى تشكيل الوعى الحاضر بالنسبة للفرد والجماعة . وليس بالإمكان – عملياً- فصل اللحظة الحاضرة من حياة فرد أو جماعة ، عن ذلك المخزون المتراكم عبر التاريخ ، بل يمكن القول أن هذه (اللحظة الحاضرة) ماهى إلا امتداد لذلك المخزون الذى نسميه : التراث ، والذى هو ممتد فينا سواءً شئنا أم أبينا . غير أنه قد يغيب عن الفرد أو الجماعة ، حقيقة (الوعى) بذلك التراث وسياقاته ودلالاته ، وقد تحتجب عن الأنظار طبيعة الأسس والمكونات التراثية فيؤدى ذلك إلى وعىٍّ زائف بالذات ، يؤدى بدوره إلى اختلال فى الرؤية والمنهج والسلوك .
ومما يؤدى إلى ذلك الوعى الزائف ، المؤدى بدوره إلى الاختلال ؛ النظرُ إلى جانب واحد من التراث الممتد فينا ، وإهمال بقية الجوانب .. فعلى سبيل المثال ، قد ينظر بعضهم إلى انتشار الإسلام فى العالم القديم ، من ناحيةٍ واحدة هى (الفتوحات) ويهمل الجانب الآخر لانتشار الإسلام، وهو الدعوة السلمية التى توغَّل بها الإسلام فى أفريقيا الوسطى وبعض أواسط آسيا .. وقد ينظر بعضهم إلى تراثنا الفكرى ، فلا يرى إلا الفرق الدينية المتشدِّدة – كالخوارج- ولا يرى الإبداع الإسلامى فى الفلسفة والفنون والآداب .. وقد ينظر بعضهم إلى لحظات العنف فى التاريخ الإسلامى ، ولايلتفت إلى أزمنة السلم والأمان الفردى والجماعى .
ولاشك فى أن هذه الرؤى الناقصة ، التى تكون فى بعض الأحيان (قصدية) من شأنها تشويه الوعى الإسلامى المعاصر ، كما من شأنها تعميق الاختلال الفكرى والسلوكى .. ومن هنا تأتى ضرورة الكشف عن الأسس والمكونات الفعلية للتراث – الممتد فى الحاضر – خاصةً تلك الأسس والمكونات التى غابت عن أذهان بعض معاصرينا .
الأَسَاسُ الرُّوحىُّ
لكل حضارة إنسانية أُسس تقوم عليها . فالحضارة الأوروبية الحديثة قامت على أُسسٍ مثل : العقـل والمنهـج ، محاولة السيطرة على الطبيعة ، نهب ثروات الشعوب غير الأوروبية ، الرأسمالية الصناعية .. إلخ . بينما قامت الحضارة اليونانية القديمة على أُسس راسخة من : النزعة الفردية ، الفلسفة ، نظام دولة المدينة Polis City State / ، الألعاب الأوليمبية .. إلخ .
وإدراك روح كل حضارة إنسانية ، أمرٌ هامٌ ومهم ؛ فمن دون ذلك ، لايمكن تبيُّن صورة الشخصية العامة والسمات الأساسية لهذه الحضارة أو تلك .. فإن غامت الصورة ، غابت الرؤية ، وكان التعسُّر والتعثُّر ! يقول بعض الباحثين : إنما تتعثَّر الحضارات لأن المفكرين فيها ، لايستطيعون أن يستشفوا روح حضارتهم ، وروح كُلٍّ من سائر الحضارات ، فلا يعرفون تفرقةً ولا يدركون تمييزاً بين ما يصحُّ أن يُقتبس وما يلزم الإعراض عنه .. نقطةُ البدء إذن فى كل نهضة ، أن يستشف المفكرون وقادة الرأى روح حضارتهم ومواهبها الكامنة ، وأن يفجِّروا الطاقات الخلاَّقة .. وبذلك يمكن الإفادة من التاريخ ، والإستفادة من دراسة الحضارات(1) .
والحضارةُ العربيةُ الإسلاميةُ ، فى أساسها العميق ، حضارةٌ روحية .. فقد ابتدأ بزوغ شمسُها من كتابٍ سماوىٍّ ظل على مَرِّ السنين، بمثابة النصِّ المحورى الذى انتقل به الناسُ من حالةٍ جاهلية إلى حالةٍ تحضُّرٍ طويل .. فكان القرآن الكريم طيلة تاريخنا الممتد ، معيناً لتوليد الدلالات لاينضب ، ولوحة ربَّانية لايكفُّ تذوُّقها . ومع الدلالات المتجدِّدة ، والأذواق ؛ تنوَّعت وتوالت التجلياتُ الحضارية فكراً وفناً .. وعلماً ، فلم يقتصر دور المصحف الشريف على إنشاء وتطوير الأدب والنحو والتفسير ، وغيرها من علوم الدين وإنما تعدَّى دورُه الكبيرُ إلى علوم الدنيا ؛ فإذ يوجِّه القرآنُ النظرَ إلى السماء والنجوم، يتطوَّر علمُ الفلكِ عند المسلمين كعِلْمٍ مرغوبٍ مندوبٍ إليه .. وإذْ يحرِّمُ القرآنُ المسكرات ، ينشأُ عند أَهْل العِلْمِ مبحثٌ كاملُ (الأشربة) لدراسة التخمُّر وأثر الأوانى فى علمية التخْمير ، وغيرِ ذلك من النقاطِ المتعلِّقَةِ بصميم الطبيعةِ والكيمياء .. وإذْ يجرِّمُ بعضُ الفقهاءِ التصويرَ ، ويحرِّمون التزيين ! يخرجُ الفنانُ المسلمُ من هذا المأزق بالقرآن .. فيعكف عليه ، مُزخرفاً ، مُلوناً ، مُبدعاً أسمى آياتِ الفن الإسلامِىِّ الذى بدأ بأغلفة المصاحف ، ثم تجسَّد فى عمارةِ المساجدِ والدُّور والنوافذِ ؛ وهكذا كان المصحف هو الأصل الذى عنه تجلّى فـنٌّ كامِلٌ ارتبط بالحضارةِ العربية .. وهو الفن الذى يُقال له اليوم : الأرابيسك!
مما سبق ، يظهرُ لنا أنَّ أهميَّةَ الكتابِ العزيزِ فى حضارتنا ، وفى ثقافتنا المعاصرةِ أيضاً ، لاتنَبعُ مِنْ كونهِ كتاب دينٍ فحسب .. بل هو كتابُ الدِّينِ والدُّنيا معاً(2) .
وكان النصُّ الآخر ، المؤسِّس للحضارة العربية الإسلامية ، نصٌّ حىٌّ ناطق، يعيش بين الناس ويجسِّد لهم مفهوم الإسلام ؛ ذلك هو النبى الخاتم الذى رُسمت لوحات حياته فى علومٍ وفنون ، مثل : الحديث ، السيرة ، المدائح .. وعلى الحديث الشريف سوف تقوم المذاهب الفقهية ، ومن السيرة النبوية تتفرَّع الاتجاهات الأخلاقية ، بينما تحتل المدائح والبديعيات مكانة خاصة بين فنون الشعر العربى ؛ ابتداءً من : بانت سعاد .. حتى : نهج البردة .
كان أساسُ التحضُّر العربى الإسلامى ، إذن ، روحياً .. استمد انطلاقته القوية ، وامتدادته ، من كتابٍ سماوىٍّ ، ومن حياةِ نبىٍّ . وكلاهما احتوى على البذور الروحية التى مالبثت أن أثمرت مع توالى السنين على أصعدة الفكـر والمنهـج والسلـوك .
البُذُورُ الأُولى
احتوى القرآنُ الكريم على الصور الجنينية للحياة الروحية فى الإسلام، إذ أفصحت آياتُهُ ، بقوة ، عن رابطةٍ خاصة ، متميِّزة ؛ تجمع العبد بربه .. هى الحب والمحبة . ومن بين أربعٍ وثمانين مرة ، وردت فيها كلمة الحب ومشتقَّاتها فى آى القرآن ؛ جاءت هذه الآياتُ مخبرةً عن حُبِّ الله لعباده ، وحُبِّهم إياه : ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ..(3) إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين .. (4)قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله (5) بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين ..(6)والله يحب المحسنين(7) والله يحب الصابرين .. (8) والله يحب المطَّهَّرين ..(9) إن الله يحب المتوكلين..(10) إن الله يحب المحسنين(11)إن الله يحب المقسطين(12) إن الله يحب المتَّقين..(13) .
ثم تُخبر الآيات ، أن الحبَّ بين الله وعباده ، سيكون البديل الإلهى ، إذا ارتدَّ العوام عن الإســلام ! يقـول تـعالى : يا أيهـا الذين آمـنوا مَنْ يرتـد منـكم عن دينـه فسـوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه .. (14) .
والعجيب فى الأمر ، أن الحب الإنسانى ورد ذكره مرتين فى القرآن الكريم ، فى مقابل ستة عشرة آية عن الحب الإلهى .. وفى هاتين المرتين ، جاء ذكر الحب الإنسانى مرتبطاً بذكر الضلال المبين ! قال تعالى إذ قالوا ليوسف وأخوه أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبة ، إن أبانا لفى ضلال مبين ..(15) وقال نسوةٌ فى المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً إنا لنراها فى ضلال مبين ..(16) .
وقد يلقى الله على الناس، حُبَّه لعبدٍ من عباده .. فيحبُّ الناسُ العبدَ المحبوب من الله ، بحبِّ الله له ! وإلى هذا المعنى أشارت الآية القرآنية التى خاطب الله فيها موسى بقوله وألقيتُ عليك محبة منى ولتُصنع على عينى..(17) وهو ما صرَّح به الحديث الشريف إذا أحبَّ الله عبداً من عباده قال : يا جبريل إنى أحبُّ فـلاناً ، فأحبُّوه . فينادى جبريل فى السماوات : إن الله عز وجل يحبُّ فلاناً ، فأحبوه . فيُلقى حُبَّه على أهل الأرض فيُحبُّ (18).
ثم يصل الحب فى السيرة النبوية إلى ذرى عالية وآفاق رحيبة ، فيتوجَّه من القلب إلى الله .. ثم إلى خَلْقه ، بل يصير رابطة بين الإنسان والجماد ! وهو ما تجلَّى فى الحديث النبوى الوارد فى الصِّحَاح ، حيث رُوى أن النبى غاب عن مكة ، وفى طريق عودته إليها رأى جبل أُحد .. فقال : هذا جبلٌ يحبنا، ونحبه(19) .
ولا تكاد الأحاديث الشريفة الواردة فى الحب والمحبة تقع – من كثرتها- تحت الحصر .. وما يهمنا هنا ، هو الإشارة إلى أن بذرة المحبة فى القرآن وفى السيرة النبوية ، ما لبثت أن نمت ، وأثمرت ، فى أرض العلاقة بين العبد وربِّه ، لتكون أساساً تقوم عليه كافة الاتجاهات الروحية فى الإسلام . ولاشك فى أن رابعة العدوية كانت من أهم الشخصيات التى قامت بدور كبير فى إنماء وإثمار هذا التوجُّه فى الرابطة بين الله والإنسان . وقد اشتهرت أبياتها – التى ينسبها البعض لذى النون المصرى(20) – القائلة :
أُحبُّك حبين ، حبَّ الهـوى
وحبّاً لأنك أهـل لذاكا
فأما الذى هو حُبُّ الهوى
فشغلى بذكرك عما سواكا
فأما الذى أنت أهلٌ له
فكشفك الحجبَ حتى أراكا
فلا الحمدُ فى ذا، ولا ذاك لى
ولكن لك الحمدُ فى ذا ، وذاكا
وثم تفنَّن الصوفية المتأخرون على رابعة – وذى النون- فى الكلام على المحبة ، حتى استقر الأمر فى الوجدان الصوفى على أن : المحبةُ آخرُ درجة من درجات العلم ، وأولُ طورٍ من أطوار المعرفة(21) .. والمراد بالعلم هنا ، المعرفة الظاهرية بالله والعالم ؛ أما المعرفة ، فهى العلم بالله والرؤية بنوره .
ونعود للبذور الأولى للتراث الروحى فى الإسلام ، فنجد إلى جانب هذا الجانب الركيزى : المحبة .. جوانب أخرى تجلَّت فى حياة الرسول ودلَّت عليها أحواله وأقواله . فقد كان نبىُّ الإسلام نموذجاً كاملاً ، حيّاً ، للإسلام . وهو التطبيقُ العملىُّ الكامل لدين الله ، وسيرتُهُ الشريفة هى المستند التالى مباشرةً للكتاب السماوى المنزَّل . ولما كان نبىُّ الإسلام r صاحبَ أحوالٍ وأقوال مالبثت هى الأخرى أن صارت أبواباً رئيسة للاتجاهات الروحية . فقد جعله الصوفية على قمة سلاسل التلقِّى واقتدوا بأصوله ، فأرجعوا حال الفناء -مثلاً – إلى ما رُوى من أن السيدة عائشة دخلت على النبى وهو فى حالٍ من الوجد ، فلما رآها سألها : مَنْ أنت ؟ قالت : عائشة ! قال : مَنْ عائشة ؟ قالت : ابنة الصدِّيق ! قال : ومَن الصِّدِّيق ؟ قالت : حمو محمد ! قال : ومَنْ محمد ؟ .. فلزمت الصمت(22) .
ولسنا هنا بصدد تأصيل الحياة الروحية فى الإسلام ، وبيان منابعها الأولى فى الكتاب والسُّنَّة ؛ فهذا أمرٌ تفصيله يطول ، وقد أفردنا له مكاناً فى أعمال سابقة(23) . وإنما المراد هنا ، محض الإشارة إلى أن تراثنا الروحى بدأ تشكُّله منذ اللحظة الأولى فى تاريخ الإسلام ، انطلاقاً من المفاهيم القرآنية وحياة الرسول والصحابة والتابعين ؛ حتى انتهى الأمر إلى التصوف ، الذى انتهى أمر تعريفه إلى أنه : الجلوسُ مع الله بلا هَمٍّ(24) .. وقيل فى سبب تسمية التصوف هذا الاسم :
تنازعَ الناسُ فى الصُّوفىِّ واختلفوا
وظنُّوه مشتقــاً من الصُّـوفِ
ولستُ انحلُ هذا الاسم غير فتـىً
صَفَا فصُوفى حتى سُمِّىَ الصُّوفى(25)
مِنَ المحبَّةِ إلى الرَّحَابَةِ
لم تتوقف مسيرة التصوف عند هذه البدايات الأولى ، وإنما انطلق التيار الروحى مع امتداد التاريخ الإسلامى، بفضل أفراد (الأولياء) وجماعات (الطرق الصوفية) حتى كان التصوف دوماً ، ملمحاً أساسياً من ملامح الواقع الإسلامى فى كل عصر .
وتطورت الرؤية الصوفية مع تطور العصور . ولا يمكننا فى هذا البحث الموجز ، استعراض كافة أشكال التطور فى الرؤية الصوفية عبر القرون ، فهى عالم واسع من الرؤى العميقة تجاه الله والعالم والإنسان . ولذا فسوف نقتصر فيما يلى على ملمح واحد من ملامح هذا التطور، وهو الملمح أو الناحية المتعلقة برحابة النظرة الصوفية ، وما انطوى عليه التراث الصوفى (الحى) من تسامح أدى دوماً إلى قبول الآخر (المختلف) والانفتاح عليه، ونبذ العنف فى التعامل معه .. وتأتى أهمية إبراز هذا الجانب، تحديداً ، مما نراه فى العالم اليوم من تجليات للعنف الفردى والجماعى باسم الدين الإسلامى ، وكأن العنف سمةٌ أساسية من سمات الإسلام ! وهى مغالطة كبرى يروِّج لها أصحاب الأغراض – الخفية والمعلنة- بهدف تحقيق مصالح ذاتية.. وكأن الأديان الأخرى ، سماوية وغير سماوية ، لا تعرف العنف ! وتلك مقولة تخالف أشهر وقائع التاريخ الإنسانى ، وإلا فكيف نفسر العنف المسيحى القديم فى الإسكندرية وفى الحروب الصليبية والجديد فى أيرلندا ؟ وكيف نفسر العنف اليهودى المعاصر فى فلسطين ؟ وعنف الهندوس وغيرهم من أصحاب الديانات والملل والنحل ؟
وعلى الحقيقة ، فإن للعنف أسبابه الموضوعية الخارجة عن الارتباط بدين معين .. ومن أهم تلك الأسباب ، افتراض أن (الحقيقة المطلقة) هى ملك لجانب واحد فقط ، يرى الآخرين دوماً على ضلال ! فقد وجد المسيحيون فى الإسكندرية القديمة أنهم وحدهم أصحاب (الهداية الإلهية) فخربوا كل مظاهر الحضارة اليونانية ، وقتلوا عالمة الرياضيات الشهيرة هيباثيا لأنها فيثاغورية تنتهى إلى العهد الوثنى ، ودمروا المعابد ودور العلم .. ومن بعدهم بقرون ، اعتقد مسيحيو أوروبا أنهم وحدهم أصحاب (الدين) فتتالت الحملات الصليبية على ديار المسلمين .. إلى آخر هذه الأمثلة التى لاتكاد تنتهى فى تاريخ البشرية، والتى يجمع بينها أمرٌ واحد ، هو توهُّم الأفضلية على الآخرين ، والاعتقاد بأن الطريق الوحيد للحقيقة هو طريقهم . وهنا ، وفى المقابل من هذه النظرة المتعصِّبة ، يأتى التصوف الإسلامى ليقول على لسان واحد من أهم أقطابه :
لقد كنت قبلَ اليومَ أُنكر صاحبى
إذا لم يكُنْ دينى إلى دينه دانى
وقَدْ صار قلبى قابلاً كل صُورةٍ
فمرعى لغزلانٍ وديـرٌ لرهبانِ
وبيتٍ لأوثانٍ وكعبـةِ طائـــفٍ
وألواحِ تـوراةٍ ومُصحفِ قُرآنِ
أُدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهـت
ركائبه فالحبُّ دينــى وإيمانى(26)
وهذه الأبيات البديعة ، لشيخ الصوفية الأكبر : محيى الدين بن عربى (المتوفى 638 هجرية) الذى بلغ فى تاريخ التصوف الإسلامى مكانةً لايكاد يدانيها صوفىٌّ آخر فى تاريخ الإسلام .. وهو الذى بلغ بالمحبة والتسامح مبلغاً عبَّرت عنه الأبيات السابقة ، كما عبَّرت عنه بقية مؤلفات ابن عربى التى بلغ ما حُصر منها -فقط- أكثر من 900 كتاب ، تشتمل على 1395 عنواناً(27) . وقد ظل ابن عربى فى مؤلفاته الكثيرة ، ينوِّع هذا اللحن العلوى ، مؤكداً : ما ثم دينٌ ، أعلى من دينٍ قام على المحبة والشوق لمن أُدين به(28) .. ومؤكداً ما انتهى إليه الباحثون فى تراثه الروحى ، من أن العبادات كلها عنده : تلتقى عند غاية أو هدف واحد ، هو تحقُّق معنى العبودية لله ، ومن ثم نوال مقام الإحسان، وذلك لا يتحقَّق إلا بأن نتوجَّه إليه تعالى وحده(29) .. بل يصل المقام بابن عربى إلى أن يقول :
عَقَـدَ الخلائِقَ فى الإله عقائداً
وأنا عَقَدتُ جميعَ ما عَقَدُوه(30)
ولم يكن ابن عربى متفرِّداً بين الصوفية فى تبنِّيه هذه (الرؤية) الرحيبة المتجاوزة للتعصب وضيق الأفق ، المحلقة فى سماوات المحبة والمعرفة بالله ؛ فقد قرَّرها من قبله ، وأكَّدها من بعده ، كبارُ الصوفية .. فمن قبل ابن عربى بأكثر من مائة عام ، كان الشيخ نجم الدين كبرى ، المستشهد بخوارزم (وهو يواجه -وحده- جيش المغول) سنة 618 هجرية ، يقرر أنه لايمكن لإنسان أن يحتكر الصلة بالله ويقصرها على نفسه ، وهو ما تعبِّر عنه عبارته البديعة : الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق(31) .. فلكل إنسانٍ طريقه إلى معرفة الله ، وليس من حق أحدٍ أن يحجر على الآخرين ويزعم أنه وحده على حقٍّ والآخرون على الباطل . وقد تكون هناك طريقة (أقرب) إلى الوصول إلى الله ، لكن ذلك لا يعنى بطلان الطرق الأخرى .. ويرى نجم الدين كبرى أن الطريق الأقرب إلى الله ، محصورة فى عشرة أصول : التوبة ، الزهد فى الدنيا ، التوكل على الله ، القناعة ، العزلة، ملازمة الذكر ، التوجُّه إلى الله ، الصبر ، المراقبة ، الرضا(32) . وكلها كما نرى ، أصول تنشغل بالباطن وإصلاحه وترقيته ، ولا تلتفت إلى الآخر لنفيه أو إلغائه .
ثم تتأكَّد هذه المفاهيم الرحيبة لدى متأخرى الصوفية ، فنجد عبد الكريم الجيلى (المتوفى 826 هجرية) ينطلق من قوله تعالى وإن من شئ إلا يسبِّح بحمده(33) وقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون(34) لينتهى إلى أنه : ما من موجود ، إلا وهو مجبولٌ على عبادة الخالق ومفطورٌ على طاعته، غير أن الاختلاف وقع بين أهل الأهواء والملل ، لما اتجهت ظواهرهم لعبادة الله فى أحد المظاهر الإلهية أو بعضها ، دون أن يدركوا الطريق إلى عبادته تعالى على الإطلاق والتنزيه ، كما جاء فى دين الله الحنيف(35) . ومع ذلك، فإن بواطنهم تظل فى حالة تسبيح لله، حتى وإن لم يدركوا هم ذلك .. وعلى ضوء هذه الرؤية ، يرى الجيلى أن الوجود بأكمله فى حالة جمال دائم، وأن (القبح) هو أمرٌ متوهَّم فى الخيال ، أو أمرٌ محدِّد باعتبارات مخصوصة ؛ فالكون هو مجلى الجمال الإلهى ، ولذا لايوصف إلا بالحسن، وما القبح فى الأشياء إلا بالاعتبار والنسب ، فهناك (فعل قبيح) باعتبار النهى عنه ، وهناك (كلمة قبيحة) باعتبار السياق الذى قبلت فيه .. إلخ ، أما القبح (المطلق) فلا وجود له. يقول:
تجلَّى حبيبى فى مرائى جماله
ففى كُلِّ مَرئَى للحبيب طلائعُ
فلما تجلى حسنه متنـوِّعاً
تسمَّى بأسماء فهن مطالعُ
وأبرز منه فيه آثارَ وصفه
فذلكم الآثار مَنْ هـو صانعُ
وكل قبيحٍ إن نسبتَ لحسنه
أتتك معانى الحسن فيه تسارع(36)
ولم يكن هذا التسامح الصوفى قاصراً على مجال الفكر والنظرية، بل ظهر ذلك فى السلوكيات اليومية للصوفية . ومن أجمل الأمثلة على ذلك ، مارواه الشيخ محمد كبريت (محمد بن عبد الله الموسوى المدنى ، المتوفى 1070 هجرية) حين قال: ومن أحسن ما يُحكى ، أن رجلاً كان مع بعض الصالحين، فمرَّ على جماعة يشربون ويغنون . فقال الرجل : ياسيدى ، ادع على هؤلاء المجاهرين بالمنكر .. قال الشيخ : اللهم كما فرَّحتهم فى الدنيا، فرِّحهم فى الآخرة ! فبهت الرجل .. ولم تمض مدةٌ، حتى اهتدى كل منهم وحسن حاله(37) .
خَاتَمِـةٌ
إن هذه الروح السمحة ، المتعالية ، التى تجلَّت عبر التاريخ الإسلامى كتقاليد صوفية راسخة فى ميدانىْ العلم والعلم – أو النظرية والتطبيق العملى- هى معين لا ينضب لاستلهام القيم الروحية فى المجتمع المعاصر . ولو غفل أهل الزمان عن الاستفادة من هذا الرصيد الروحى العظيم ، فلا شك أن خسارتهم ستكون كبيرة .
وتجدر الإشارة ، أخيراً ، إلى هذه الروح السمحة للتصوف ، لم تؤد إلى انعزال المتصوفة وتحليقهم فى الفراغ ، بل كان للصوفية -دوماً- دوراً كبيراً فى مجتمعاتهم . فقد عمل مشايخ الصوفية منذ وقت مبكر على إحياء الدين فى النفوس ، وبثُّوا فى العبادة سورة الروح المتأجِّجة .
لقد أحيا الصوفية مراسم الدين حين جعلوا من أنفسهم أنموذجاً للاحتذاء لم يلجأوا يوماً للعنت والعنف، وإنما دعوا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان أثرهم عميقاً فى الحضارة العربية الإسلامية عبر تاريخها الطويل. وقد سبق لنا استعراض هذا الأثر فى بحثنا : التراث الروحى فى الحضارة العربية الإسلامية(38) . ورصدنا فيه عديداً من الأمثلة الدالة على فعالية التصوف خلال قرون الإسلام وعبر حدوده الواسعة ، سواء داخل الدولة أو فى مواجهة الاستعمار الخارجى .. وهى مسألة تفاصيلها تطول – وليس هذا موضعها – غير أن مرادنا هنا ، هو تأكيد أن التسامح الصوفى ، لا يؤدى إلى السلبية الفردية والجماعية .. وإنما يرشِّد خطوات الفرد والجماعة فى كل حين .
_________
الهوامش :
(1) د. أحمد محمود صبحى : فى فلسفة الحضارة (مؤسسة الثقافة الجامعية ، الإسكندرية ، بدون تاريخ ! ) ص 240 .
(2) د. يوسف زيدان : بدائع المخطوطات القرآنية بالإسكندرية (الهيئة العامة لمكتبة الإسكندرية 1997) ص 10، 11 .
(3) سورة البقرة ، الآية 165 .
(4) سورة البقرة ، الآية 222.
(5) سورة آل عمران ، الآية 31.
(6) سورة آل عمران ، الآية 76.
(7) سورة آل عمران ، الآيات 134، 148 .
(8) سورة آل عمران ، آية 146.
(9) سورة التوبة ، الآية 108 .
(10) سورة آل عمران ، الآية 159 .
(11) سورة المائدة ، الآيات 13، 93.
(12) سورة المائدة ، الآية 42 – سورة الحجرات ، الآية 9 – سورة الممتحنة ، الآية 8
(13) سورة التوبة ، الآيات 4، 7 .
(14) سورة المائدة ، الآية 54 .
(15) سورة يوسف ، الآية 8 .
(16) سورة يوسف ، الآية 30 .
(17) سورة طه ، الآية 39 .
(18) أخرجه الإمام البخارى فى صحيحه (تفسير القرآن، الحديث رقم 4357 ) والترمذى فى سننه (الدعوات ، الحديث رقم 3413) وابن حنبل فى مسنده ( مسند الأنصار ، الحديث رقم 20199، ورقم 22620) .
(19) أخرجه البخارى فى صحيحه (الزكاة ، الحديث رقم 1387) ومسلم فى صحيحه (الحج ، الحديث رقم 2428) والإمام مالك فى الموطأ (الجامع ، الحديث رقم 1382) والإمام أحمد فى مسنده (المكثرين ، الحديث رقم 8664) والترمذى فى سننه (المناقب ، الحديث رقم 3857) .
(20) انظر : د. كامل الشيبى : الصلة بين التصوف والتشيع (دار المعارف بمصر ، الطبعة الثانية ) ص 299 وما بعدها .
(21) د. يوسف زيدان : قصيدة النادرات العينية للجيلى ، مع شرح النابلسى (دار الجيل بيروت 1988) ص 14 .
(22) د. محمد جلال شرف : دراسات فى التصوف الإسلامى (دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية 1991) ص 40 .
(23) د. يوسف زيدان : عبد القادر الجيلانى ، باز الله الأشب (دار الجيل – بيروت 1991) ص 14 وما بعدها .
(24) راجع تعريفات التصوف فى :
التعرُّف لمذهب أهل التصوف ، للكلاباذى / اللمع ، للسراج الطوسى / الرسالة ، للقشيرى/ كشف المحجوب ، للهجويرى / نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام (الجزء الثالث ) للدكتور النشار / المدخل إلى التصوف ، للدكتور أبو الوفا التفتازانى .. وغير ذلك الكثير .
(25) الأبيات لأبى الفتح البستى وهى من بحر البسيط .. وفيها يُرجع الشاعرُ التصوف إلى الصفاء، متخلِّصاً من الجدل الذى ثار حول أصل كلمة تصوف من حيث الدلالة والاشتقاق .
(26) ابن عربى : ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق ، تحقيق محمد الكردى (مطبعة السعادة – القاهرة ) ص 50 .
(27) د. عثمان يحيى : مؤلفات ابن عربى ، تاريخها وتصنيفها ، ترجمة د. أحمد الطيب (دار الصابونى – دار الهداية ، القاهرة ، 1992) ص 16 .
(28) ابن عربى : ترجمان الأشواق ، ص 50 .
(29) د. كرم أمين أبو كرم : حقيقة العبادة عند محيى الدين بن عربى (دار الأميـن – القاهـرة 1997) ص 276 .
(30) ابن عربى : الفتوحات المكية (طبعة بولاق) 3/132.
(31) نجم الدين كبرى : الأصول العشرة . ضمن كتابنا : فوائح الجمال وفواتح الجلال ، دراسة وتحقيق (دار سعاد الصباح – القاهرة 1993) ص 90 .
(32) نجم الدين كبرى : فوائح الجمال ، ص 95 .
(33) سورة الإسراء ، آية 44 .
(34) سورة الذاريات ، آية 56 .
(35) يوسف زيدان : عبد الكريم الجيلى فيلسوف الصوفية (الهيئة المصرية العامة للكتاب- سلسلة أعلام العرب) ص 128 .
(36) الجيلى : النادرات العينية ، بتحقيقنا (دار الجيل – بيروت) الأبيات 136 ، 137 وما بعدها.
(37) محمد كبريت : الجواهر الثمينة فى محاسن المدينة (مخطوطة مكتبة بلدية الإسكندرية ، رقم 2627/ب ، رحلات) ورقة 161 .
(38) محاضرات الموسم الثقافى ، المجمع الثقافى بأبو ظبى ، 1998 .
المصدر : موقع الدكتور يوسف زيدان .
http://www.ziedan.com/research/ABS1.asp