عبدالله الغزال – ليبيا
الآن وقد صار بوسع الدارس الاطلاع على العديد من البحوث التي ترى أن الرواية العربية قد بدأت تنتهج لنفسها نهجا صوفيا، وأن اللجوء إلى التجربة الصوفية أو الاغتراف من بحورها العميقة قد صار ممارسة إبداعية ووجها جديدا من وجوه الرواية العربية الجديدة، مستندة في ذلك إلى الزعم القائل بأن المعين الصوفي هو المورد الرئيس لتوليد الشعري في الكتابة الروائية؛ الأمر الذي لم يعد خافيا في الكثير من النصوص، وتقول بأنه قد بات واضحا أن البعد الصوفي قد بدأ يتجلى في العديد من النصوص من خلال ظهور ملامح التناص مع الخطاب الصوفي، والحضور اللفظي والتوليفات اللغوية الصوفية، وصوفنة الشخصيات كرؤية جديدة لفلسفة الحياة والكون، فإن السؤال الذي تطرحه هذه الورقة الموجزة هو: إلى أي مدى أفلحت تلك البحوث في استيفاء المعايير الدقيقة ليتسنى لها القول بصحة رؤيتها النقدية، والحكم بأن نصا معينا يحمل عبقا صوفيا وبالتالي تصح نسبته إلى ذلك التطور؟
ولكن قبل ذلك، لا مناص من الاعتراف نسبيا بصحة ما ورد في تلك البحوث في بعض ما ذهبت إليه من حيث إشارتها إلى أن محاولات انفتاح النص الروائي العربي – رغم تأخر هذا الانفتاح زمنيا- على عالم المتصوفة الغامض والمغرق في الرمزية عبر لغته الإشارية العالية من شأنه أن ينير السبيل أمام الممارسات الأدبية للوصول إلى تخوم جديدة؛ قد يُمَّكن الجَوْسُ خلالها من اكتشاف أجناس أخرى ذات مواصفات فنية وسردية جديدة. ولكن حتى وإن بات واضحا للوهلة الأولى صحة ذلك الزعم، فإنه لا سبيل أمام هذه الورقة إلا الجهر بالقول بأن هنالك ثمة اعتقاد يقول ببعض اللبس الذي يعتري الكثير من تلك البحوث لوقوعها في أكثر المناطق اضطرابا وتعقيدا، وهي تلك المناطق التي تتداخل وتتشابك عندها ما تلقيه كلمة “الصوفية” من ظلال ضمن حقلها الدلالي الكبير، وما يتبع ذلك من حيرة وارتباك يقع فيها الدارس أمام تحديد التخوم البعيدة والقريبة التي يصل إليها ذلك الحقل الدلالي لهذه الكلمة، الأمر الذي قد يفضي إلى نتائج غير دقيقة.
ورغم أن هذه الورقة الموجزة لا تدَّعي بأنها تملك القدرة للإجابة على السؤال الذي طرحته آنفا حول أحقية نيل بعض النصوص لما يسمى بصوفية النص الروائي، إلا أنها ستحاول وفق نظرة ذاتية خالصة مدعومة بحس ارتيابي؛ تبيان رؤيتها الخاصة حول صوفية الرواية العربية من خلال محاولتها إنارة الحدود المظلمة والمثيرة للبس الواقع حول التعريف الدقيق لمصطلح “الصوفية”، وكذلك محاولتها رصد تلك العلاقة المعقدة بين الخطاب السردي والخطاب الصوفي، وكيف يتحقق – وفق ظروف معينة- بما يمكن تسميته بالخطاب السردي الصوفي.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يكفي حضور المصطلح الصوفي، وتحسس دعاوى المتصوفة في البنية النصية؛ وهل يكفي العثور على ملامح تناص مع الخطاب الصوفي ممثلة في المواجيد والأوراد والأذكار، والعثور على آثار العلم الصوفي داخل نسيج النص؟ هل يكفي كل ذلك ليخرج النص الروائي حيا يتنفس نفحا صوفيا خالصا محققا عبر بنيته الكاملة ما يسمى بالحياة الصوفية الكاملة للنص؟
وثمة سؤالان آخران ربما يكونان أكثر أهمية، الأول هو: هل تملك اللغة الروائية ما يؤهلها للصمود أمام الدفق اللانهائي الكامن في العبارة الصوفية، والبراح الكافي لتتشرب وتستوعب الخطاب الصوفي بمعناه الأشمل؟ والآخر: هل من المحتم أن تتوافر العوامل السابقة داخل نسيج النص لتتحقق صوفيته، أم أن هذا التحقق قد يتجلى دون توفر أي من هذه العوامل؟
بالعودة إلى المشكل الأساسي وهو النظر إلى الهالة السَّرابية التي تغلف كلمة “الصوفية” كمشكل قائم، ومحاولة تبديدها لتتضح رؤية الحدود المتداخلة للحقل الدلالي للمصطلح ولو على نحو مموه، ربما يكون من المفيد أن تطرح هذه الورقة رؤيتها للمصطلح باعتباره مشكلا رئيسا مهما، وهذه الرؤية ستكون ممثلة في تقسيم جزافي يشتمل على أربعة أنواع من الدلالات المختلفة:
أولا: الصوفية الاجتماعية، أو الدراويشية، أو الطرائقية التي تستمد رؤاها ومفاهيمها وحركتها في الواقع والتاريخ من أخلاط الموروث الصوفي للطرق الصوفية المعروفة، وهو موروث ينبع من فرعين مختلفين وهما الاعتقاد الديني، والتراث الشعبي، وإن بدأ هذا النوع من الصوفية تشكل في مجمل حالاتها الآن نوعا من الفلكلور الشعبي أو المظهر الاجتماعي الاحتفالي.
ثانيا: الصوفية الذاتية، أو الصوفية الخاصة التي تتكشف في الكتابات الروائية المشغولة أبدا بالمحنة الوجودية لصاحبها، وهي غالبا ما تتجلى ضمن الحركة السردية في مظاهر العزلة والتفرد والشعور بالغربة والنأي باطنيا عن السير ورفض المشاركة في الحياة الاجتماعية انطلاقا من يقين ذاتي بحقيقة الحياة المرة، وتأكيد هذا الرفض بالاكتفاء بالعيش داخل دائرة تفكير متواصل في الهم الخاص، والتسلح بنظرة أحادية إلى الواقع الإنساني باعتباره موقفا مأساويا ميئوسا منه، وهي بذلك تكون أقرب للنظرة التي تصب في معين الأدب التشاؤمي، وإن بدت في ظاهرها لا تخلو من ملامح صوفية.
ثالثا: الصوفية العارضة، أو المؤقتة، وهي ما تظهره الكتابة الروائية من خلال رصدها للمشاعر الإنسانية لحالة الشخصيات داخل النص، وما ينتابها – بحكم طبيعتها البشرية – من هواجس مؤقتة كالندم مثلا، أو الحسرة، والشعور الذنب بعد اقتراف خطيئة ما، أو الإحساس بالجمال، أوالتَّوْق إلى الحق والعدل، أو تلك الحالة الوجدانية العابرة المصاحبة لردود الفعل العاطفية التي تتناوب الظهور على النفس وخاصة حين يتعلق الأمر بتسليط الضوء على العلاقة الغرامية بين الرجل والمرأة.
رابعا: الصوفية العرفانية، أو الصوفية الحقانية، وهي تكشف عن مغزاها ودلالاتها الإيحائية في حقيقة خطابية مغرقة في الرمز ولغة الإيماء، وتكثيف العبارة، نائية بنفسها عن أي مظهر من المظاهر الشعبية، وتكون دالة بطريقة ما على هاجس فطري عظيم يؤجج جذوة تلك الحرقة الوجدانية الدائمة لدى هؤلاء المتصوفة في رحلة بحثهم الطويلة عن الحقيقة، معتمدين في ذلك على تسخير طاقة هائلة من الأشواق، وعن طريق إرهاف السمع الباطني لكل ما هو مخبوء وراء مظاهر الأشياء، وإفساح المجال أمام عين القلب والبصيرة، والعيش في عالم ملئ بالإشراقات والتجليات من أجل تحسس الطريق عبر مشوار مضن للارتواء من المنبع الأول أو النقطة الأولى التي لبست منها الأشياء حلة الوجود. وهذه النظرة العميقة إلى الكون والحياة لا تحمل معنى ظلاميا لهبة الحياة، بل تحاول وفق قدرات خاصة يمتلكها العارف نفسه، ويجاهد عن طريقها الولوجَ إلى أفق جديد من الآفاق المجهولة المحيطة بالسؤال الكبير وهو هذا الوجود العظيم.
وبناء على هذا التقسيم الافتراضي، يمكن القول -رغم ما توحيه الشواهد- بأن الوصول بسهولة إلى نتيجة واضحة تتبنى حكما يقينيا حول صوفية نص معين عبر اختبارات ما يسمى بالمناهج النقدية المطروحة الآن سيكون من العسر بمكان، لأن نتائج هذه الاختبارات لن تكون قاطعة بصور حاسمة لاصطدامها بعقلانية العلم التي أعتبرها من العقبات الكبرى للتقدم في تصنيف نص روائي ذي طبيعة تستمد قواها الفاعلة عن طريق استلهام حدوس غير عقلانية، وخاصة حين يتعالج هذا النص الروائي مع المنطقة الدلالية الرابعة لكلمة الصوفية وهي الصوفية العرفانية أو الصوفية الحقانية. وإذا أخذ في الاعتبار أن الرؤية النقدية هي ذلك الرصد المنظم لظواهر تاريخ تطور الكتابة السردية، ومن ثم تحليلها استنادا إلى تفسير عقلاني؛ فربما يكون من الأخطاء المؤثرة التي أضعفت تلك البحوث؛ هو الافتراض بأن على الروائي الذي يلج باب هذا النوع من الكتابة الروائية أن يستمد القوة الرئيسية الباعثة للحياة في النص المكتوب من النموذج الواقعي أو التاريخي للمجتمع الإنساني المحكوم أساسا بإطاري الزمان والمكان الأرضيين، أو إلى مهارته في التحكم ببراعة بخصائص الخطاب السردي. كما يظهر الخطأ نفسه عند أولئك الذين يرون في الرواية ظاهرة من الظواهر التجريبية التي تصب في معين الأدب الإنساني كله، لأن ذلك سيدفع الكاتب إلى اللجوء للاستعانة بمدلول الصوفية بمعناها الأول والثاني وهما الصوفية الدراويشية و الصوفية الذاتية في الكتابة الروائية، حيث لن يتأتى له التخلص من الوقوع في أسر الخصائص المعروفة للخطاب السردي، وبذلك لا يعدو ظهور هذا النوع من الممارسة الإبداعية أن يكون ضربا من ضروب الكتابة المحاطة بشكل محكم بإطاري التاريخ والواقع، وعليه سيلجأ للتحرر من هذا الأسر -من أجل الارتفاع بنصه- إلى طلب العون من المعجم والاستعانة ببعض الألفاظ الشائعة مثل: نشوة الحال، الكشف، الخمر، الفناء، الرسم، الرؤية، السر، الفيض، والإغراق في محاكاة غير دقيقة للحالة الصوفية الوجدانية عن طريق تعمُّد خلق تناصَّات تتاخم في سياقها الخارجي الدعاوى الصوفية. وربما تصح النظرة نفسها إلى تلك الكتابات التي يتعمد كاتبها أن تكون غامضة وتتسم بأبعاد النبوءة، وخاصة عند التعرض للمسائل الفلسفية المغلقة التي لا يمكن حلها دون اللجوء إلى التفاسير الصوفية، وبناء على هذا سيغدو التسلل إلى العالم الصوفي عبر المعجم اللغوي والتناص حيلة غير ذات جدوى، وهذا بحد ذاته سيقود إلى الانحدار لترصيع النص بالألفاظ المؤثرة وإلباسه حلة صوفية خاوية تقريبا من ذلك الفيض المتصل بطريقة ما بالروح المهيمنة على الخطاب الصوفي، الأمر الذي قد يخلع عن مفهومه العميق أبهى حلله، وتكون نتيجته أن يفقد السالك اتجاهه وتسود النص المكتوب حالة من التخبط فيخرج خليطا منهكا لا روح فيه، وقد يخرج خادعا إذا استطاع أن يلعب لعبة المحاكاة بمهارة.
أما المفهوم الثالث للمصطلح، وهو الصوفية العارضة، فإن اقتفاء آثاره داخل النص من خلال العثور على فصوص اصطلاحية لن يكون اكتشافا مدهشا، ولن يجدي نفعا، ولن يقود إلا إلى رؤية مشوشة وحالة من التخبط، لأن الزعم به سيكون كافيا لأن يقود إلى الوقوع في إشكال أكبر وهو اشتمال جميع النصوص الروائية على حالات رصدٍ للمشاعر الإنسانية المختلفة، وبذلك، – ووفقا لتلك المعايير- لن يبقى نص روائي إلا ويكون مؤهلا للمطالبة بتصنيفه ضمن النصوص التي لا تخلو من الأثر الصوفي.
بالطبع قد لا يكون هذا الطرح مقنعا لأولئك الذين لا يستطيعون التخلص من السيطرة شبه الكاملة للنموذج الواقعي على الخطاب السردي، أو أولئك الذين تقوم تجربتهم الإبداعية على تدعيم رؤاهم السردية بثنائية الواقعي والمتخيل، كثنائية صلبة واتخاذها قاعدة للانطلاق في صياغة الكتابة السردية، إذا تسلحوا بالفكرة التي تقول بالأمل في أن يتمكن العقل الإنساني في الجمع بين ما هو علمي وما هو غيبي، ومن ثم يستخلصون آراءهم من القيم العليا التي يطرحها ذلك النوع من الكتابات.
ولكن إذا تم النظر إلى هذه الثنائية في ضوء المطلق الذي يحاول الخطاب الصوفي الاقتراب منه والسبح فيه؛ فإنها بلا ريب لن تبدو بالعمق والرهبة اللذان يغلفان العبارة الصوفية العصية. لأن الأمر سيصطدم بحاجز الممارسة العقلانية، فبقدر ما يجهد الكاتب عقليا في خلق نسخة شديدة الشبه بالعالم الصوفي وإشراقاته الغامضة، بقدر ما يكون ذلك الأداء القصدي منفيا ومعدوما لدى الحالة الأصلية عند المتصوف في خطابه الرمزي البعيد كل البعد عن قصدية التعبير عن النسخة الواقعية أو التاريخية للوجود الإنساني فوق الأرض في مرحلة ما من مراحل الزمن، واستنادا على ذلك، يكون تعيين نسخة مطابقة أو شديدة الشبه بالعالم الإشاري المنشود في الخطاب الصوفي ضربا من ضروب المستحيل لسقوط الخطاب السردي في هوة بعيدة الغور وهي تلك المسافة اللانهائية بين الحالة الإشراقية الخالصة المحيطة بالحالة الصوفية، وبين قلة الحيلة في التخلص تماما من الرصيد الواقعي أو التاريخي التي تسيطر على عقل الكاتب، وبقدر ما يجهد كاتب النص الروائي في خلق ذلك النموذج الإنساني داخل النص المكتوب بقدر ما تنأى الكتابة الصوفية عن القصدية في تحقيق أي تواصلية مع هذا الواقع.
ويظهر لبس آخر يحمل القدر نفسه من الأهمية، وهو الخلط بين مكونات الخطاب الصوفي ودعائم الخطاب السردي مثل الزمن والشخصية والحدث، فأسس البناء الزمني في الخطاب السردي: الزمن الشخصي أو الزمن التاريخي، أو زمن الحدث قد تنهار أمام القوة الفاعلة الكامنة في الزمن الصوفي، حيث يستحيل الزمان براحا برزخيا متصلا مفارقا بخصائصه المطلقة لتصانيف هذه الأزمنة المعروفة. كما قد يطرأ انهيار أكبر على فاعلية الوظيفة الحيوية للمكان، ولا يعود له معنى أو حاجة في الفعل السردي إلا مد ذلك الجسر الخفي بين الكاتب والمتلقي لتحقيق التواصلية. وبذلك فإن هذين الفرضين الأساسيين وهما التاريخ والواقع سوف يصبحان أقل تأثيرا، وقد يتضاءلان إلى نقطة بعيدة تومض في خفوت بحيث لا يصل نورها إلى تلك الأركان المعتمة التي يدور فيها النص حين لا تغني العبارة المقتطعة من أسس تأملية خالصة. وإذا كانت هذه التواصلية المنشودة في الخطاب السردي الصوفي لا تتم إلا ضمن هيمنة وجدانية متحررة من أي قيد حسي أو واقعي أو تاريخي، ولا تتحقق إلا بإنارة السبيل أمام المتلقي، فإن الروائي لا يملك إلا أن يتحسس طريقه عائدا إلى الواقع أو التاريخ، وبذلك لن يكون هذا النوع من الكتابة الروائية سوى إطلالة خاطفة من باب موارب لا يلبث إلا أن ينغلق، وبالتالي لن يكون في مقدورها تعيين نسخة مشابهة للعالم الصوفي المقصود، ولكن يكون في الإمكان تحقيق إلا ما يمكن تعريفه بالاقتراب التقديري من عالم المتصوفة الغامض من خلال الممارسة السردية.
ولكن رغم ذلك، قد يُكتشف البرهان على تحقق الصوفية في النص الروائي بمحاولات لا واعية مسترشدة بإلهام فطري خاص ذي طبيعة جمالية استشراقية بدل من أن يتم اكتشافه بتفكير عقلاني.
ولعل أشد الجوانب إثارة في هذا الموضوع هو ظهور نوع من الكتابة الروائية المتفردة بخاصيتها التأملية العليا السارية عبر نسيج النص كله، والبعيدة كل البعد عن تلك التي تتخذ من التفكير العقلاني مطية للوصول إلى الآفاق البعيدة المختفية وراء بحور الصوفية، والمتلازمة في الوقت ذاته مع نسخة مكانية مموهة من الواقع. ونجحت إلى حد بعيد في قطع خطوات مرضية على طريق الاقتراب التقديري من ملامسة ما يدور وراء تخوم الصوفية العرفانية.
في رواية “بر الخيتعور” لإبراهيم الكوني – التي أعتبرها من أشد النصوص الروائية قوة وكدحا في طريق الاقتراب التقديري لملامسة ذلك التحقق الصوفي في النص الروائي- وإن بدت للوهلة الأولى أنها تنتهج نهج أولئك يفضلون الركون إلى الجانب التخييلي، أو الأسطرة، فإن ما يظهر بجلاء هو نجاح الممارسة إلى حد بعيد في الوصول إلى المنطقة الخطابية التي يتماهى عندها الخطابان السردي والصوفي محققا تقدما ما سبق تعريفه بالاقتراب التقديري بطريقة مرضية. حيث يمكن إسقاط الدور الحيوي للمكان، وحيث يموت دفق الوقت أو الزمن بأقسامه الثلاثة، ويتحول براح الزمان إلى لحظة واحدة طويلة متصلة ممتدة بامتداد الدهر، وحيث تقع الشخصية في غيبوبة السبح في المطلق عبر نسيج العالم الرمزي الموازي للعالم الواقعي أو الأسطوري دون أن يكون لها دور حيوي مؤثر على مستوى الفضاء السردي.
” متى انبثق الينبوع أول مرة؟ متى رأى الدفقة تلاحق الدفقة، والغمر يتسلق حجر العثرة لينزل صلدا، ويقفز إلى أعلى بعناد طائر قرر أن يستوطن السماء إلى الأبد فيلتحم بسيل الضياء، ليكتب في الفراغ القاسي نبوءة، ثم يهوي إلى أسفل ليخط على الشط رمزا،… إن الزمن كالينبوع الذي تدفق في قلبه يوما، لا يعرف أحد متى بدأ، ولا يعرف أحد متى ينتهي، بل لا ينتهي أبدا، لأنه لم يبدأ أبدا. فإلى أين يذهب الماء؟ وفي أي ركن يتوارى الزمن الزائل؟ “
يلوح هنا أن هناك قوة مركزية أخرى باعثة لتحقق البعد الصوفي العرفاني في النص نقطتها الروائي نفسه عبر ممارسة شديدة التعقيد تحاول الجمع بين الخطابين السردي والصوفي في منطقة واحدة، دون أن يكون من اشتراطاتها الاستعانة بالمعجم أو الخطاب الصوفي الطرائقي لترصيع النص، وهذه القوة تشتد شيئا فشيئا كلما تحقق الالتفات إلى العالم الرمزي الموازي:
” تستمر بهجة الالتحام غمضة في حساب الزمن الصحراوي، ولكنها تدوم في حساب الزمن الآخر، الزمن الذي يتخفى في ظلمات القفص الصغير دهرا.”
وفي مقطع آخر شديد الغموض يتأكد التماهي بين الخطابين: السردي والصوفي بعرفانيته الموغلة في السر، ليتخلق ما سبق تسميته بالخطاب السردي الصوفي: “بعدها يأتي الختام فيضع نهاية العناق، تتشتت الكتلة إلى ذرات، تتناثر الذرات في الفراغ الكبير رذاذا تافها، يتراجع نسيج الخيتعور ويتخلى عن الحبيبات الشقية فتشحب، وتتغير، وتفقد اللون الخفي، وتزداد شقاء ووهنا وبؤسا…، تسقط الحبة في اليم الأبدي، الشاحب اللامبالي، وتستعيد لونها الميت، لون التراب، لتختفي في السيل الذي يركض إلى الوطن المجهول”. ولاجتناب تشتت الانتباه والوقوع في حالة من الحيرة والبهت التام نتيجة السبح الطويل في العالم الرمزي، فإنه لامناص من العمل على تحقيق التواصلية التي لا تتم إلا من خلال خصائص الخطاب السردي العادي: ” ويقول آخرون إن النهر لم يختف تماما، لأن عابرين كثيرين عثروا عليه مرات كثيرة كما عثر آخرون مرات أكثر على الواحة الضائعة” يستمر العمل على تأكيد تلك التواصلية، ولكن دون أن يتخلخل الخطاب الصوفي كثيرا في أكثر تخومه عمقا وغموضا: ” وفي كل عام تلتئم الصبايا في العراء، ويقبل الفرسان على ظهور المهاري ليرقصوا ويغنوا حزنا على النهر الضائع الذي صنع لهم بغيابه، من الصحراء صحراء، كما التأم الأسلاف في حشود أقدم ليرقصوا ويغنوا وينوحوا حزنا على اختفاء واو المجيدة”. حسْبُ هذه الورقة ما أشارت إليه، لأن المجال لا يتسع للاشتغال على الرواية كلها، وتخلص إلى أن تحقق الخطاب الصوفي في النص الروائي لن يكون إلا اقترابا نسبيا، وإذا كانت الحجة البالغة عند الكثير ممن ينادون بأن الرواية العربية بدأت تنتهج نهجا صوفيا استنادا على عاملين أساسيين وهما: المعجم الصوفي والخطاب الصوفي؛ فإن هذا بحد ذاته يثير سؤالا تراه الورقة من الأهمية بمكان، وهو: هل تصح النظرة ذاتها – إذا تم العثور على بعض فصوص المعجم القرآني أو ملامح الخطاب القرآني في نصوص روائية – للتنادي بأهلية استحقاق هذه النصوص لـ”الرواية القرآنية”؟
______
المصدر : منتدى القصب العربي .
http://www.arabicstory.net/forum/index.php?showtopic=4748