المحبة
مرَّ بعض الصوفية على رجل يبكي على قبر , فسأله عن سبب بكائه فقال : ” إنَّ لي حبيباً قد مات .
فقال له : لقد ظلمت نفسك بحبك لحبيب يموت ,فلو أحببت حبيباً لا يموت لما تعذَّبت بفراقه ” .
قال أبو عبد الله القرشي : ” حقيقة المحبة أن تهب كلَّك لمن أحببت , فلا يبقى لك منك شيء”.
وسئل الإمام الجنيد عن المحبة فقال :” دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب “
قيل : هذا على معنى قوله تعالى في الحديث القدسي : فاءذا أحببته كنت له سمعا ,و بصرا .
و ذلك لأن المحبة إذا صفت , و كملت لا تزال تجذب بوصفها إلى محبوبها, فاءا انتهت إلى غاية جهدها , وقفت الرابطة متأصلة متأكدة .
أمَّا عن سبب تسمية المحبة بالمحبة فيقول الشبلي : ” سُميت المحبة محبةً لأنَّها تمحو من القلب ما سوى المحبوب ” .
إنَّ المتتبع لحياة شيخ الإسلام محمَّد علي المسعود يجده قد أحبَّ محبوباً لا يموت ذلك أنَّ الآفل الفاني ليس جديراً أن يُحب فالحبُّ الذي هو نور الحياة وقيمة الإنسان لا يكون إلاَّ لخالد وهبه كلَّه حتَّى لم يبق من كلِّه شيء , وتمكَّنت المحبة منه فلم تترك في قلبه محبوباً سواه.
نعم بمعاداته لجوارحه وتفرُّده عن وجوده , وتجرُّده عاش حياته عاشقاً لله , شديد الحبِّ له شديد الرغبة فيه , له في المحبة قدم راسخة بفضلها صار من أحباب الله .
والمقصود أنَّ الصوفية لهم في المحبة تلميحات , و دقائق خطرات ,و لطائف ملاحظات و إشارات تدلُّ على الهامات إلهية , وتنزُّلات قدسية , وأذواق عرفانية , إذ أنَّ كلامهم وتجاربهم فيها يختلف تماماً عن كلام وتجارب غيرهم فالبون شاسع ,وليست النائحة كالثكلى ولا الحاكي مثل الذائق , فهي أعظم أحوالهم .
والأحوال تأتي من عين الجود , والمقامات تحصل ببذل المجهود ,وهي نهاية المطاف عندهم إذ منها يصدر الشوق و الوجد ..كما أنها الميدان الذي يصول فيه الصوفية و يجولون , و هي النبع الصافي الذي لا كدورة فيه , و البحر الذي لا شاطئ له , و النور الذي لا ظلمة فيه , فهي سمتهم , و عنوان طريقتهم , ولا أعلم كلمة من أسماء المعاني شغلت المتصوفة كما شغلتهم كلمة الحب ودونك عباراتهم , وأشعارهم , وترانيمهم فستجدها شاهد صدق على ذلك , فلا قائمة للتصوف بدون حبِّ ,حتَّى قال قائلهم : ” لولا الحبّ لم يخلق الله في الناس الحياة ” فمن ثَمَّ كان لابد للصوفية من التوقف أمام المحبة وتعميق أغوارها فغدت بذلك ركيزة هامة من ركائز التصوف فبلغوا فيها منتهى المنتهى فلا يُذكرُ أعلام الصوفية إلاَّ وتُذكر المحبة بهم , فهذا أبو الحسن سمنون ابن حمزة الخواص تخصص في المحبة فاختص بها فلقِّب ب ( سمنون المحب) فكان كلامهم و شعرهم وقفاً على المحبة .
كما أن المحبة عندهم قوامها العطاء الإلهي بشقيه القرب و المعرفة , و هذا السمو الروحي جعلهم يتميزون عن بقية المؤمنين الصالحين , فالمؤمن الصالح يحب الله لكن هذا الحب تغلب عليه الصفة النفعية , فهو يطيع الله ليدخل الجنة ويسلم من النار أما الصوفية فقد جردوا الحب من هذه الصفة النفعية فجعلوه حبا خالصا لذات الله بغض النظر عن رجاء الثواب , و الخوف من العقاب .
وهذا ما أكده ابن عطاء الله السكندري في الحكم حين قال : ” ليس المحب الذي يرجو من محبوبه عوضا ,ً أو يطلب منه غرضاً , فاءن المحب من يبذل لك ليس المحب من تبذل له ” .
فالمحبة تقتضي من المحب بذل كلياته و جزئياته في مرضاة محبوبه من غير طلب حظ يناله منه مع غاية السعادة و البخت قال أبو حفص عمر بن الفارض :
مالي سوى روحي و باذل روحه
في حب من يهواه ليس بمسرف
فلئن رضيت بـها فقد اسعفتني
يا خيبة المسعى إذا لم تسعفي
قال سماحة شيخنا محمد الحجار حفظه الله : ” وما أرادوا نفعنا الله بهم بهذا إلاَّ إيثار لذة القلب في معرفة الله تعالى و حبِّه على لذة الأكل والشرب و النكاح وغير ذلك من الشهوات الحسية فاءنَّ الجنة معدن تمتع الحواس و أما القلب فلذته في حبِّ لقاء الله تعالى فحسب ” .
رووا أنَّ قوماً جلسوا يتذاكرون المحبة في الكعبة ,وكان الجنيد أصغرهم سنّاً فطلبوا إليه الكلام , فأطرق برأسه ودمعت عيناه ثمَّ قال : ” عبدٌ ذاهلٌ عن نفسه , متصلٌ بذكر ربه , قائمٌ بأداء حقوقه ,ناظرٌ إليه بقلبه ,أحرقت قلبه أنوار هويته , وصفا شربه من كأس ودِّه وانكشف له الجبار عن أستار غيبه, فاءن تكلم فبالله و إن نطق فعن الله و إن تحرك فبأمر الله و إن سكن فمع الله , فهو بالله ولله ومع الله ” , فبكى القوم و قالوا : ما على هذا من مزيد جبرك الله يا تاج العارفين .
ألم أقل لكم إنَّ لهم فيها تلميحات وإشارات تدل على الهامات إلهية ! .
إنَّ المبدأ في فكر هؤلاء العشاق من المتصوفة أنَّ العاطفة لا العقل هي السبيل للوصول إلى الله وهذا لا يعني أن تجربتهم في الحب لا عقلانية بل كل ما في الأمر أن العقل لا يشارك في إنتاجها وهي عملية ربط للعقل بحدوده فلا يتخطاها متصديا للمشاركة في تجربة فارقت أصوله المحدودة وعن أول ما بدأت هذه التجربة عندنا نحن المسلمين يقول الإمام أبو حامد الغزالي: ” كان ذلك أول حال رسول الله حين تبتل فأقبل إلى غار حراء, وكان يخلو فيه بربه ويتعبد حتى قالت العرب : ( إنَّ محمَّداً عشق ربه ) “.
حينما تكلم الصوفية عن المحبة كان مستندهم في ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فقد قال المولى سبحانه و تعالى: (و الذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله)[ البقرة الآية 165 ] . وقال: يحبُّهم ويحبُّونه [ المائدة الآية 54 ] .
قال الواسطي : ” كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته , فالهاء راجعة إلى الذات دون النعـوت , و الصفـات “.
أمَّا السنة الشريفة فاءنَّه روي عن النَّبيِّ أنَّه كان يناجي ربه ويدعوه بهذا الدعاء : اللهمَّ إني أسألك حبَّك , وحبَّ من يحبُّك , وحب َّعمل يقربني إلى حبِّك , و اجعل حبَّك أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلي و والدي و مالي و من الماء البارد على الضمأ . اللهم حببني إليك , و إلى ملائكتك , وأنبيائك , وجميع خلقك . اللهم أذق قلبي برد عفوك , وحلاوة حبِّك ! .
يقول السيد أبو الفيض محمود المنافي : ” و للمحبة وجوه وبواعث المحبة في الإنسان متنوعة فمنها محبة الروح , ومحبة القلب , ومحبة النفس , ومحبة العقل , فقول الرسول وقد ذكر الأهل , و المال , و الماء البارد معناه اتصال عروق المحبة بمحبة الله تعالى حتى يكون حب الله تعالى غالبا , فيحب الله تعالى بقلبه , و روحه و كليته حتى يكون حب الله اغلب في الطبع أيظا , والجبلة من حب الماء البارد ” .
وهذا النوع من الحب فيه السكرات , وهو اصطناع من الله الكريم لعبده ,و اصطفاؤه إياه و هذا الحب هو من الأحوال لأنه محض موهبة ليس للكسب فيه مدخل , و هو مفهوم قوله : أحب إلي من الماء البارد . لأنه كلام عن وجدان روح تلتذ بحب ذات الله تعالى .
تأكدت فكرة حب الله , و رسوله منذ العهد الأول في عصر الصحابة , فقد جاءت في ذلك نصوص كثيرة دلت و شرحت هذه الفكرة ,قال سيدنا أبو بكر الصديق ” من ذاق من خالص محبة الله تعالى شغله ذلك عن طلب الدنيا و أوحشه عن جميع البشر ” و سأكتفي بذكر شاهدين اثنين فيهما وصفٌ للمدى الذي بلغه الصحابة الكرام في محبتهم للنبي الكريم , أما الشاهد الأول فهو الأثر الذي رواه عروة ابن مسعود وقد كان مشركا فقد كان فيما قاله لأصحابه وقد عاد من حنين إلى مكة : ” أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك , و وفدت على قيصر و كسرى و النجاشي والله إن رأيت أي : ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً !.
و الله! إن تنخم أي : ما تنخم نخامة إلاَّ وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده !و إذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه و إذا تكلم أخفظوا أصواتهم عنده !وما يحدُّون النظر إليه تعظيماً له ! . . . ” .
و أما الشاهد الثاني فقد ذهب رجل من الصحابة إلى النَّبي وقد ذَبُلَ بدنه وانتقع لونه يعلوه الحزن ويغمره الخوف يقدم رِجْلاً و يُؤَخِرْ أخرى لما جال في خلده من أمر عظيم وشأن كبير . فأقبل عليه :: ص:: إقبال الوالد الرؤم والأمِّ الحنون فرقَّ قلبه الشريف له وقال : مالي أراك يا فلان في هذا الحال و الشأن ؟.
فانبرى قائلا بصوت خافت وطرف كالٍّ فدحه الهم يا رسول الله ! لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي وأهلي ومالي و إنِّي لأذكرك في خلوتي ويمرُّ طيفك في خيالي فما أصبر ولن أملك نفسي حتَّى أجيء إليك و أتمتع بمحيَّاك و أحيا برؤياك . و إنِّي ذكرت موتي وموتك لا محالة لهذا ولا محيد عنه , فعرفت أنَّك إذا دخلت الجنة رُفعتَ مع النَّبيين لأعلى فراديس الجنان , و إن دخلتها أنا لا أراك لعلوِّ مقامك , و رفيع مكانك فاعتراه ما يعتريه عند نزول الوحي فأطرق ثمَّ رفع رأسه الشريف و تلا عليه هذه الآية : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيين والصديقين والشهداء و الصالحيـن وحسـن أولئـك رفيقـا .
قال الإمام البغوي : ” الرجل هو ثوبان مولى رسول الله .
وفي رواية قال : ” يا رسول الله ! الرجل يحب القوم ولمَّا يلحق بهم ؟
قال : المرء مع من أحبَّ .
قال أنس : “ما فرحنا بعد الإسلام كفرحنا بهذا فأنا أحب الله ورسوله و أبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم و إن لم أعمل بعملهم ” .
ثمَّ تأكدت هذه الفكرة في عهد ما بعد الصحابة من خلال عدة شخصيات التفت حولها القلوب كالمتصوفة رابعة العدوية المتوفاة سنة (185 ﻫ) , ومعروف الكرخي المتوفى سنة (201 ﻫ) , و الجنيد المتوفى سنة (297 ﻫ), والحارث المحاسبي المتوفى سنة (243 ﻫ), و ذو المصري المصري المتوفى سنة (245 ﻫ), ويحي بن معاذ الرازي المتوفى سنة (258 ﻫ) والحسين ابن منصور الحلاج المتوفى سنة (309 ﻫ), وسمنون, و ابن الفارض ,و البرعي ,و ابن عربي , وجلال الدين الرومي . . . الخ غير أنَّ تجربة الحب التي عاشها هؤلاء تنبئ عن صعوبة ولوج هذا العالم و الارتفاع إلى مستوى معانيه , والمتصوفة عموما ابتدؤوا حياتهم بالحب الحسي , وتعلقهم بكل ما هو جميل ثمَّ ترقوا إلى مستوى الحب الروحي بعد ابتلاء طويل , وتجارب قاسية يتعرض فيها المتصوف في البداية إلى معاناة الحب الإنساني حتى تحتدم به عاطفته فيكون التحول إلى حبٍّ أسمى هو حبُّ الله .
قال بعض المريدين لأستاذه : ” قد طُولعت بشيء من المحبة .
فقال : يا بني هل ابتلاك بمحبوب سواه فآثرت عليه إياه ؟
فقال : لا . قال : فلا تطمع في المحبة فاءنَّه لا يعطيها عبداً حتى يبلوه ” .
وقد كان نجم الدين محمَّد ابن إسرائيل الدمشقي وهو من أعلام التصوف الأفذاذ أول حياته شاعراً حسِّياً يميل بشعره إلى ذكر الدنيا ,وملذاتها وزخارفها, وكان شعره يحمل تلك النزعة الخليعة الهابطة من العشق للغلمان , والتغزل بهم إلى أن منَّ الله عليه بالتوبة والرجوع إليه سبحانه, فدخل عالم التصوف وأخذ قواعد الطريق من شيوخه , فصار شِعره يعبر عن الفكرة الصوفية التي تتلخص في الكلام عن وجود الله وكماله وجلاله ,وأنَّ كل ذرة من ذرات الوجود في تسبيح دائم لله ,وما إلى ذلك من المعاني النبيلة السامية المبثوثة في قصائده الشعرية.
وشبيه بهذا ما قيل لبعض الصوفية وكان قد بذل المجهود من ماله , ونفسه حتى لم يبق منها بقية, ما كان حالك من هذه المحبة ؟ .
قال : سمعت محبوباً قد خلا بمحبوبه وهو يقول أنا والله ! أحبك أملِّكك ما أملك, ثمَّ أنفق عليك روحي حتى تهلك , فقلت : هذا خلق لخلق, وعبد لعبد, فكبف بخلق لخالق, وعبد لمعبود , فكان ذلك سببه .
وحينما ترجم المؤرخون للمتصوفة العظيمة والعارفة الكبيرة رابعة العدوية ذكروا أنها كانت كثيرة الحب لله ورسوله وأنها تغنت بحبها من خلال مناجاتها لله تعالى الذي تقبل عليه , وتخلو إليه , وتدأب على حبها له, فلا تبرح بابه , و لا تدع رحابه ذلك أنها قد اتخذت من الله حبيبا لها , و مؤنسا لروحها , و منية لقلبها , و بغية لحبها , و أنَّ عبادتها كانت مثالية قلما توجد في كبار الرجال فضلا عن النساء كل ذلك حبا له , و ابتغاء لوجهه , و اجتلاء لطلعته لا خوفا من ناره , ولا طمعا في جنته قالوا: كانت تصلي ألف ركعة في اليوم والليلة .
فقيل لها : ما تريدين بهذا ؟ .
فقالت : إنما أفعله لكي يُسرَّ رسول الله ﷺبه يوم القيامة فيقول للأنبياء : انظروا إلى امرأة من أمتي هذا عملها ! .
ذكر الشيخ الحريفيش في كتابه ” الروض الفائق في المواعظ و الرقائق ” أنها رحمها الله تعالى كانت إذا صلت العشاء قامت على سطح لها و شدت عليها درعها ,و خمارها ثم قالت : ” الهي ! أنارت النجوم , ونامت العيون , وغلقت الملوك أبوابها , و خلا كل حبيب بحبيبه وهذا مقامي بين يديك , ثم تقبل على صلاتها فاءذا كان وقت السحر وطلع الفجر قالت :” الهي ! هذا الليل قد أدبر , وهذا النهار قد أسفر فليت شعري ! أ قبلت مني ليلتي فأهنا أم رددتها عليّ فأعزى ؟ فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني , و أعنتني , و عزتك لو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك ” ثم أنشدت :
يا سروري و منيتي و عمادي
و أنيسي و عدتي و مــرادي
أنت روح الفؤاد أنت رجائي
أنت لي مؤنس و شوقك زادي
أنت لولاك يا حياتي و أنسي
ما تشتت في فسيح البـــلاد
كم بدت منة و كم لك عندي
من عطاء و نعمة و أيــادي
حبــك الآن بغيتي و نعيمي
و جلاء لعين قلبي الصـادي
ليس لي عنك ما حييت براح
أنت مني ممكن في السـواد
إن تكـن راضيا عليّ فاءني
يا منى القلب قد بدا إسعادي
وهذه المُحِبَّة الفانية زهراء الوالهة ,ولندع الصوفي الكبير ذا النون المصري يقص علينا قصتها يقول : ” بينا أنا أطوف في بعض أودية المقدس سمعت قائلا يقول : يا ذا الأيادي التي لا تحصى, و يا ذا الجود ,و البقاء متع بصر قلبي بالجولان في بساتين جبروتك , و اجعل همي متصلا بجود لطفك يا لطيف , و أعذني من مسالك المتجبرين بجلالك , و بهائك يا رؤوف و اجعلني لك في الحالات خادما طالبا , و كن لي يا منور قلبي, و غاية طلبتي صاحبا ” .
قال ذو النون فتبعت الصوت فاءذا امرأة كأنها عود محترق عليها درع صوف , و خمار شعر أسود قد أضناها الجهد , و قتلها الكمد, و ذوبها الحب فقلت السلام عليك .
قالت : عليك السلام يا ذا النون .
قلت : كيف عرفت اسمي و لم تريني ؟
قالت : كشف عن سري الحبيب , فرفع عن قلبي حجاب العمى, فعرفني اسمك.
فقلت :ارجعي لمناجاتك .
فقالت : أسألك يا ذا البهاء أن تصرف عني شرّ ما أجد ,فقد استوحشت من الحياة ,ثم خرت ميتة فبقيت متحيرا, فأقبلت عجوز كالوالهة نظرت ثم قالت : الحمد لله الذي أكرمها . و لما سألها ذو النون عمن تكون هذه أجابت بقولها : هذه ابنتي زهراء الوالهة منذ عشرين سنة توهم الناس أنها مجنونة , و إنما قتلها الشوق إلى ربها “. وممن دعا إلى الحب دعوة سافرة مولانا الشيخ جلال الدين الرومي فذكر عجائبه ,وشرح فوائده فسرى بذلك إلى القلوب القاسية فألانها, و إلى النفوس الجامحة فعقلها, و إلى العقول الشاردة فردها اسمع إليه وهو يردد هذا النشيد :
– إنَّ الروح التي ليس شعارها الحب الحقيقي من الخير ألا توجد .
– فليس وجودها سوى عار ! .
– كن ثملا بالحبِّ فاءنَّ الوجود كله أنشودة حبٍّ .
– وبدون التعامل مع الحبِّ لا سبيل إلى الحبيب . . .
إنَّهم يحفلون بجمال الروح قبل جمال الجسم, ولا فرق عندهم بين حبِّ من صفت روحه مِنْ حِسَانِ الخلق, وحب شيخ الطريقة الكهل الأشيب لأنَّه جميل الروح , فجمال الروح شرط للوصول إلى الحق .
قال ذو النون المصري حين سئل عن الأنس : ” أن تأنس بكل وجه صبيح, وكل صوت فصيح , والله تبارك وتعالى فيما بينك وبين ذلك ” .
وقدصرَّح العارف بالله صدر الدين الشيرازي أنَّ عشق الغلمان وصور الحسان هو قنطرة إلى عشق الإله وهذا الرأي الصريح كان من أسباب ثورة رجال الفقه عليه , وفي نظري أنَّ الذين ثاروا عليه هم أقل من أن يدركوا الشيرازي تمام الإدراك,فقد كان الرجل من القائلين بوحدة الموجود والصور الجميلة هي أنفس العناصر في الوحدة الموجودية التي أساسها قوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنَّه الحق .
فالميل إلى الجمال ما هو إلاَّ تربية للذوق والحس, تنتهي بالصيرورة إلى المعقول انطلاقا من المحسوس, وإنما يكون هذا التحول عند الحرمان من المحبوب أو الإيثار, فيصير بالمحبين إلى الضعف الحسي الذي هو بداية الإقبال على المعاني الروحية , والتعلق بالمثُُُُُُُل والهيام بمصدر الكمال والجمال ,ومن هنا فالحبُّ عندهم طريق إلى الزهد في متع الدنيا, والحرب على النفس في سبيل العزوف عن مغرياتها .
ويبدوا لي أن مسألة العشق الحسي والإلهي من المسائل الدقيقة في تاريخ التصوف الإسلامي فقد رويت أخبار عن عشق كبار الصوفية كابن الفارض , و ابن عربي, و عفيف التلمساني و نجم الدين كبرى لبعض الجميلات فأثارت تلك الأخبار جدلا واسعا بين الصوفية و منتقديهم ولقد اشتهر عن بعض رجال التصوف قولهم بأن مطالعة جمال الظاهر الحسي في الجميلات أو المناظر الحسنة هو باب للدخول إلى مشاهدات الجمال المطلق لله تعالى بعد أن تقيدت بعض تجلياته في الصور المحسوسة ويقول الإمام الصوفي الكبير رزبهان في كتابه ” عبهر العاشقين ” أن العشق محمود على أية حال سواء كان في مقام العشق للطبيعيات أو الروحيات لأن العشق الطبيعي هو منهاج العشق الرباني و لا يستطاع حمل أثقال العشق الإلهي إلا على مثل هذا المركب كما لا يستطاع احتساء روائق صفاء جمال القدم الإلهي إلا في أقداح هذه يقصد الصور الحسية ” .و هذا ما ذهب إليه احمد الغزالي, و أوحد الدين الكرماني و فخر الدين العراقي و صدر الدين الشيرازي .
وقد منع الغالبية من كبار رجال التصوف الكلام في هذا الباب ,و امتنعوا عن الخوض فيه ربما لارتقائهم عن درجة الحس المحسوس إلى مرتبة الجمال المطلق ذاته ,و ربما لخشيتهم على العامة من الناس أن يفتنوا بهذه الأقوال , و ربما لخوفهم على المريدين المبتدئين من أن يخوضوا في هذا المسلك بغير علم و لا هدى فيزداد تعلقهم بالمحسوس و يتعطل عندهم أدب الإسلام في غض البصر .
ويُعَدُّ الإمام عبد الرحمن أبو الفرج ابن الجوزي واحداً من الذين شغلوا أنفسهم بتعقب الصوفية ونقلوا عنهم الحكايات الغريبة, وعلقوا عليها التعليقات الرديئة في كتابه ” تلبيس إبليس “, لذلك حظي كتابه هذا باهتمام كبير في الأوساط العلمية ,وبالخصوص عند من يحطُّون من قيم التصوف ويرون أنَّه من البدع التي دخلت على الإسلام .
إنَّ ابن الجوزي من الأئمة الحفاظ بلا شك ولن يستطيع أحد مهما علت منزلته في العلم أن ينتزع منه لقب الإمامة والحفظ في الدين فهو العالم المتفنن والمربي الواعظ ولكن لا يعني ذلك أنَّه المعصوم الذي لم تقع منه السقطة ولم تظهر له الهفوة فقد أبى الله أن تكون العصمة إلاَّ لنبيِّه .
نقل الحافظ الذهبي عن الحافظ الموفق عبد اللطيف قوله عن ابن الجوزي ما نصه : ” وكان كثير الغلط فيما يصنفه فاءنَّه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره ” .
و قال الشيخ موفق الدين ابن قدامة : ” وكان حافظا للحديث إلاَّ أننا لم نرض تصنيفه في السنة ولا طريقته فيها ” .
و قال الحافظ سيف الدين ابن المجد منتقداً كتاباً صنفه ابن الجوزي عن شيوخه في الحديث : ” هو كثير الوهم جداً فاءنَّ في مشيخته مع صغرها أوهاماً ” .
وقد أورد الذهبي جزءا من تلك الأوهام وعقب قائلا : ” هذه عيوب وحشة في جزأين ” .
وفيما نقله عنه الحافظ السيوطي في كتابه طبقات الحفاظ قوله : ” وفي الحديث له إطلاع تام على متونه وأما الكلام على صحيحه وسقيمه فماله فيه ذوق المحدثين و لا نقد الحفاظ المبرزِّين ” .وأما كتابه فله فيه رحمه الله أخطاء جسيمة ونقائص عديدة منها مايتعلق بالناحية العلمية والقيمة الاستدلالية التي اعتمدها في تصنيف كتابه ومنها ما يتعلق بغالب الأفكار والآراء التي انطوى عليها الكتاب فتحامله الملحوظ وتعصبه الواضح وطعنه الصريح في العلماء والصالحين الذي ما كان ينبغي أن يصدر عن مثله وهو عالم الإسلام تظهر للقارئ لأول وهلة ومن أول نظرة .
لقد شنَّع ابن الجوزي على علماء الحديث والصوفية روايتهم الأحاديث الموضوعة والضعيفة يقول في كتابه ” تلبيس إبليس ” الصفحة (118) : ” ومن تلبيس إبليس على علماء الحديث رواية الحديث الموضوع من غير أن يبيُّنوا أنَّه موضوع وهذه جناية منهم على الشرع ” ويقول أيظا في الصفحة (213) : ” فاءن اسندوا – أي الصوفية – فإلى حديث ضعيف أو موضوع أو يكون فهمهم منه رديئاً ” .
بَيد أنَّه وقع في الشيء ذاته في كتابه هذا إما أنَّه لم يظن أنَّها أحاديث موضوعة وضعيفة وإما أنَّه وقع في ذلك سهواً ونسياناً وهو الغالب على الظن به .
ففي الدراسة النقدية التي أعدها الأخ الفاضل عبد الحليم صيد لنقد أحاديث الكتاب وهي تحت عنوان ” النقد والتمحيص لأحاديث تلبيس إبليس ” استطاع أن يصل إلى مايلي :
” . . . حديثان لا أصل لهما و اثني عشر حديثا موضوعا و أحد عشر حديثا ضعيفا جدا و ثلاثة وعشرون حديثا ضعيفا و قد أهملت الأحاديث الضعيفة المنجبرة . . . فيصبح عدد الأحاديث المنتقدة (48) حديثا وعدد أحاديث الكتاب المرفوعة حسب إحصائي (232) حديثا فيكون ما لا يصح من أحاديث الكتاب يمثل الخمس تقريبا وهذه نسبة ليست بالضئيلة ” .وهي دراسة أولية كما صرَّح بذلك فربما يكون قد فاته التنبيه على أحاديث أخرى لا تصح.
أمَّا عن ناحية الأفكار والآراء التي تضمنها كتاب ابن الجوي فيكفي في نقدها ما جاء عن الدكتور زكي مبارك من تعليق عام عن مضمون الكتاب وهو من أنفس ما وقفت عليه في كتابه _ التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق يقول : ” و من الذي يضمن أن يكون ابن الجوزي صادقاً في كل ما كتب عن مغامز الصوفية ؟ .
أولئك قوم كانت لهم في شبابهم صبوات فلما منَّ الله عليهم بالتوبة والهداية ظلَّ خصومهم يتذكرون ماضيهم ويضيفون إليه ما شاء من الإفك و البهتان ليغضوا من أقدارهم وليصرفوا عنهم الناس . . . ونحن مع ذلك لا ننكر أنَّ من الصوفية من زلت أقدامهم في صحبة الأحداث فالعصمة لله وحده وادِّعاء العصمة هو في ذاته وقاحة خلقية ولا يدَّعي التصون المطلق إلاَّ خادع أو مخدوع ولكن من المكابرة أن نجحد ما أثر عن الصوفية من الفضل في هذا الباب وهل في الأدب كله كلمة أبلغ وأفصح و أنصع وأصدق من قول الواسطي طيَّب الله ثراه ” إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف ! ” .
أترون كيف تضطرم نار الغيرة على الكرامة في أحشاء هذه الحروف ؟ وهل رأيتم صدقاً أكرم وجهاً من صدق هذا المعنى ؟ هل رأيتم احتقاراً للشهوات الحسية أعنف من هذا الاحتقار ؟ أرأيتم كيف تكون بلاغة من خبر الدنيا وعرف مكارهها وتبين عناصر الشرِّ فيها واهتدى إلى معالم النجاة والهلاك ؟ ” .
ثمَّ يقول: ” وإنَّا لنرجو القارئ أن يرحمنا من تهمة التعصب للصوفية فنحن – يشهد الله – لا نحب إلاَّ الوقوف في صفِّ المظلومين والصوفية قاسوا من الظلم ألواناً كثيرة منها اتهامهم بالفسق والمجون وممن؟من ناس يتركون قصور الوزراء والأمراء والملوك تعجُّ بالدنس والرفث والقذارة والرجس ثمَّ يوجهون جهودهم إلى حرب طائفة من الفقراء الذين لا يجدون الكفاف إلاَّ بشق الأنفس في هذا العالم السخيف .
يرحمكم الله أيها المؤلفون في الأخلاق فأكثركم من أهل الجبن والتلفيق .
و أي مظهر للجبن أقبح وأبشع من أن تُصنَّف الكتب الطوال العراض في مثالب الصوفية على حين يُترك الملوك الظالمون في العصور الماضية بلا رقيب و لا حسيب ؟ .
أين ما وضع ابن الجوزي وأمثاله في نقد الاستبداد وكان يعيش في عصر لا تحترم فيه ملكية ولا تحفظ حقوق ؟ أين ما كتب هؤلاء المتفيهقون في الفساد الخلقي والاجتماعي الذي كان يندلع لهيبه من قصور الأمراء والوزراء ؟ . . . ” .
قلت :كان من الاحرى لابن الجوزي أن يستعرض تلك الصفحات المشرقة في حياة أولئك المحبين من المتصوفة ففي حياتهم مناهج راقية وسامية في السير إلى الله جديرة بأن تكتب بماء الذهب ليقرأها كل جيل ولتكون له مصابيح يستضيء بها في دهاليز الأهواء ونيران الشهوات التي أحرقت منا القلوب فلم تبق منها ما يصلح أن يكون قربناً يتقرب به إلى الله فيتقبله قبولا حسنا وينبته نباتا حسنا كان الأجدر لابن الجوزي أن ينقل تلك اللحظات الأخيرة من حياة الحلاج حين بترت يداه وأخذ وجهه في الاصفرار لكثرة ما نزف من دمه فشال الحلاج رحمه الله بذراعيه على وجهه فخضبه بالدم حتى يخفي اصفراره وقال مبتسما ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم بدلا من تلك السخفات والأقاصيص الهابطة التي أملاها عليه إبليس لتكون سنة سيئة عليه وزرها و وزر من قرأها إلى يوم القيامة فواجب النصيحة يقضي عليَّ أن أقول لاين الجوزي ولمن هو على شاكلته نظير ما جاء في الرسالة ” الخروبية ” حيث يقول صاحبها : ” يجب على الفقيه أن يرفق بنفسه وأن يعلم مقامه في الدين فلا يمدنَّ يده الفارغة إلى ما فوق طوره من المقامات العرفانية والأحوال الربانية حتى يذوق ما ذاقت الرجال ” لا أحرمنا الله من سلسبيل معارفهم وأعود فأقول إنَّ شيخ الإسلام استحق أن يُقَلَّد وسام المحبوبية لكن على مشرب الصوفية الأخيار في الحب أمثال رابعة والحلاج وسمنون لا على مشرب ما يعرضها الإمام ابن الجوزي رحمه الله ومن نحا نحوه من التفهات وبالله التوفيق .
__________
المصدر :
http://www.abunashaykh.com/Maktaba/maqalat%20sufiya/paper%20four.htm