المبايعة على الموت في سبيل الله
لما بلغ النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم أن عثمان رضي الله عنه قُتل , دعا رسول الله أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين ومناجزتهم ، فاستجاب الصحابة وبايعوه على الموت , سوى الجد بن قيس ، وذلك لنفاقه . وفي رواية أن البيعة كانت على الصبر , وفي رواية على عدم الفرار ولا تعارض في ذلك ؛ لأن المبايعة على الموت تعني الصبر وعدم الفرار . وكان أول من بايعه على ذلك سنان بن عبد الله الأسدي فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته , وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات ، في أول الناس ، وأوسطهم ، وآخرهم .
وقال النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم واضعاً يده اليمنى الشريفة : « هذه يد عثمان » فضرب بها على يده , وكان عدد الصحابة الذين أخذ منهم الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم المبايعة تحت الشجرة ألفاً وأربعمائة صحابي , وقد تحدث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرضوان وورد فضلهم في نصوص كثيرة من الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية منها : قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيما . وهذه الآية فيها ثناء ومدح عظيم لأهل بيعة الرضوان فقد جعل الله مبايعتهم لرسوله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم مبايعة له , وفي هذا غاية التشريف والتكريم لهم رضي الله عنهم . وقد ورد الثناء عليهم في السنة المطهرة أيضاً في أحاديث كثيرة ، ومن ذلك ما يلي :
من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يوم الحديبية : « أنتم خير أهل الأرض » . وكنا ألفاً وأربعمائة ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة .
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أخبرتني أم مبشر : أنها سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يقول عند حفصة : « لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها » قالت : بلى يا رسول الله , فانتهرها , فقالت حفصة : ( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ) فقال النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم : « قد قال الله عز وجل : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيّاً ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً .
وهكذا فقد اعتبر أهل التصوف أن المبايعة فرض عين على المسلم يأخذها على يد شيخ عارف بالله ، والمريد الذي يبايع شيخه ويأخذ عليه العهد صادقاً مخلصاً هو قد تأسى واقتدى بأصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وحصل على الثواب والأجر العظيم .
الصدق والتوبة والاعتراف بالتقصير في قصة المتخلفين عن الجهاد
يقول كعب بن مالك رضي الله عنه : كان من خبري حين تخلّفت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله ما اجتمعت عندي قبلها راحلتان قط حتى جمعتهما تلك الغزوة ، ولم يكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في حر شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً وعدواً كثيراً ، فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم وأخبرهم بوجهه الذي يريده ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ – يريد الديوان – قال كعب : فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله وغزا رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، فتجهز رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ولم أقض شيئاً وأقول في نفسي إني قادر على ذلك إذا أردته ، فلم يزل يتمادى بي حتى استجد بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم والمسلمون معه ولم اقض من جهازي شيئاً ، فقلت أتجهز بعده يوماً أو يومين ثم ألحقهم ، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئاً ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئاً فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك ، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصاً في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ، فلم يذكرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم حتى بلغ تبوك ، قال وهو جالس في القوم بتبوك : ( ما فعل كعب ؟ ) فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله حبسه برداه ينظر في عطفيه ، فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا إلا خيراً ، فسكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم قال كعب ، فلما بلغني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غداً ؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل وعرفت أني لا أخرج منه أبداً بشئ فيه كذب ، فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم قادماً ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاء المخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فقبل منهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكّل سرائرهم إلى الله عز وجل ، فجئته فلما سلّمت عليه تبسّم تبسّم المغضب ثم قال : ( تعال ) ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال : ( ما خلفك ألم تكن ابتعت ظهرك ؟ ) ، فقلت : بلى يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر فإني أعطيت جدلا ، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كاذباً ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو عفو الله ، لا والله ما كان بي عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم أما هذا فقد صدق ، قم حتى يقضي الله فيك ، فقمت وسار رجال من بني سلمة فقالوا : يا كعب والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم بما اعتذر إليه المخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم لك فو الله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ، ثم قلت : هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك ، فقلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً فيهما أسوة ، فمضيت حين ذكروهما ونهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم عن كلامنا الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم وكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف فأسلم عليه ، فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي فإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال على ذلك من جفوة المسلمين تسوّرت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فو الله ما رد علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ قال : فسكت فعدت له فنشدته فسكت قال فعدت له فناشدته الثالثة فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار قال فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتاباً من ملك غسان وكنت كاتباً ، فإذا فيه – أما بعد فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك ، فقلت حين قرأتها : وهذا أيضاً من البلاء فيمّمت به التنور فسجرته بها حتى إذا مضت لنا أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فقال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ، فقلت : أطلقها ماذا أفعل بها ؟ فقال : لا بل اعتزلها فلا تقربنها ، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك ، فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله هذا الأمر قال كعب : فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فقالت : يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليست له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : لا ولكن لا يقربنك ، قالت : إنه والله ما به حركة إلى شئ ، وإنه ما زال يبكي مذ كان من أمره ما كان إلى يومي هذا فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في امرأتك كما أذن لهلال بن أمية تخدمه فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم إن استأذنته فيها وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم عن كلامنا ، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع يا كعب بن مالك أبشر ، فخررت ساجداً ، وعرفت أنه قد جاء الفرج ، وأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر ، فذهب الناس يبشروني ، وذهب قبل صاحبي مبشرون ، وركض رجل إلى فرس وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع إلي من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ببشراه ووالله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة يقولون : ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة ، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وهو يبرق وجهه من السرور : ( أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك ) ، قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : لا بل من عند الله تبارك وتعالى ، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم إذا بشر ببشارة يبرق وجهه حتى كأنه قطعة قمر ولذلك يعرف ذلك منه ، فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله عز وجل وإلى الرسول ، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم : ( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ) ، فقلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر ، فقلت : يا رسول الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت ، فو الله ما أعلم أحداً من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث مذ حدثت ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم أحسن مما ابتلاني ما تعمدت مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم إلى يومي هذا كذباً وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي .
وإن من القرآن الذي نزل فيهم هي قوله تعالى من سورة التوبة : {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .
وهذا درس مهم للمريد عندما يتخلف أو يتباطأ عن أمر أو عمل يأمر به شيخه ؛ وذلك لأن الشيخ لا يأمر المريد إلا بما فيه حياة لقلبه وصلاح وفلاح له في دنياه وآخرته ، كما يجب أن يكون صادقاً في كلامه مع شيخه ولا يلتمس الأعذار الكاذبة ؛ وذلك لأن الشيخ يمثل حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وفي الحديث : ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) ، كما يجب أن يلتصق بشيخه مهما جفاه أو أعرض عنه ؛ لأن الشيخ يريد تربيته وتعليمه لئلا يقع في التقصير مرة أخرى ، فهو أب حنون ليس لرأفته وحنوِّه حدود .
الوفاء بالعهد وشرف الكلمة
إن من أبلغ دروس صلح الحديبية درس الوفاء بالعهد , والتقيّد بما يفرضه شرف الكلمة من الوفاء بالالتزامات التي يقطعها المسلم على نفسه ، وقد ضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم بنفسه أعلى مثل في التاريخ القديم والحديث لاحترام كلمة لم تكتب , واحترام كلمة تكتب كذلك , وفي الجد في عهوده ، وحبه للصراحة والواقعية ، وبغضه التحايل والالتواء والكيد ، وذلك حينما كان يفاوض ( سهيل بن عمرو ) في الحديبية ، حيث جاءه ابن سهيل يرسف في الأغلال ، وقد فر من مشركي مكة ، وكان أبوه يتفاوض مع الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، وكان هذا الابن ممن آمنوا بالإسلام جاء مستصرخاً المسلمين ، وقد انفلت من أيدي المشركين , فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذ بتلابيبه ، وقال : يا محمد لقد لجت القضية بيني وبينك ، أي فرغنا من المناقشة قبل أن يأتيك هذا ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم : صدقت ، فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ ! فلم يغن عنه ذلك شيئاً ، ورده رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وقال لأبي جندل : إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهداً ، وإنا لا نغدر بهم ، غير أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم إزاء هذه المأساة التي حالت بنود معاهدة الصلح بينه وبين أن يجد مخرجاً منها لأبي جندل المسلم ، طمأن أبا جندل وبشره بقرب الفرج له ولمن على شاكلته من المسلمين , وقال له وهو يواسيه : « يا أبا جندل ، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجا » . وفي هذه الكلمات النبوية المشرقة العظيمة دلالة ليس فوقها دلالة على مقدار حرص رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وتمسكه بفضيلة الوفاء بالعهد مهما كانت نتائجه وعواقبه فيما يبدو للناس . لقد كان درس أبي جندل امتحاناً قاسياً ورهيباً لهذا الوفاء بالعهد أثبت فيه الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم والمسلمون نجاحاً عظيماً في كبت عواطفهم وحبس مشاعرهم ، وقد صبروا لمنظر أخيهم أبي جندل وتأثروا من ذلك المشهد عندما كان أبوه يجتذبه من تلابيبه ، والدماء تنزف منه , مما زاد في إيلامهم حتى أن الكثيرين منهم أخذوا يبكون بمرارة إشفاقاً منهم على أخيهم في العقيدة ، وهم ينظرون إلى أبيه المشرك وهو يسحبه بفظاظة الوثني الجلف ليعود به مرة أخرى إلى سجنه الرهيب في مكة . وقد صبر أبو جندل واحتسب لمصابه في سبيل دينه وعقيدته , وتحقق فيه قول الله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }. فلم تمر أقل من سنة حتى تمكن مع إخوانه المسلمين المستضعفين بمكة من الإفلات من سجون مكة ، وأصبحوا قوة صار كفار مكة يخشونها , بعد أن انضموا إلى أبي بصير ، وسيطروا على طرق قوافل المشركين الآتية من الشام .
وفي أعقاب صلح الحديبية مباشرة استطاع أبو بصير عتبة بن أسيد أن يفر بدينه من سجون الشرك في مكة المكرمة ، وأن يلتحق برسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في المدينة ، فبعثت قريش في إثره اثنين من رجالها إلى رسول الله ، ليرجعا به ، تنفيذاً لشرط المعاهدة , فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم لأبي بصير : يا أبا بصير ، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، فانطلق إلى قومك ، فقال أبو بصير : يا رسول الله ، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ قال : يا أبا بصير ، انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً فانطلق معهما ، وقد شق ذلك على المسلمين وهم ينظرون بحزن إلى أخيهم في العقيدة ، وهو يعود إلى سجنه بمكة بعد أن استطاع أن يفلت من ظلم قريش ، ولكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم كان يهتم بالوفاء بالعهود والمواثيق ، ولم يكن عنده مجرد نظرية مكتوبة على الورق ، ولكنه كان سلوكاً عملياً في حياته وفي علاقته الدولية ، فقد أوصى الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود ، وحذر من نقض الأيمان بعد توكيدها في كثير من الآيات القرآنية , قال تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} .
لقد التزم رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم بعهده مع قريش ، وسلَّم أبا بصير إليهما ( القرشيين ) وانطلق معهما ، فلما كانا بذي الحليفة ، قال لأحد صاحبيه : أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر ؟ فقال : نعم ، قال : أنظر إليه ؟ قال : انظر إن شئت ، فاستله أبو بصير ، ثم علاه به حتى قتله ، ففر الآخر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم فقال : قتل صاحبكم صاحبي ، فما لبث أبو بصير أن حضر، متوشحاً السيف ، وقال : يا رسول الله وفت ذمتك ، وأدى الله عنك ، أسلمتني بيد القوم ، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه ، أو يعبث بي , فقال النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم : « ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد » , فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم فخرج حتى أتى سيف البحر ، وقد فهم المستضعفون بمكة من عبارة الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم أن أبا بصير بحاجة إلى الرجال ، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير في سيف البحر ، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو وغيره حتى اجتمع عند أبي بصير عصبة قوية ، فما يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا طريقها وقتلوا من فيها ، وأخذوا الأموال التي كانوا يتجرون بها ، فأرسل المشركون إلى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يناشدونه بالله والرحم لما أرسل إلى أبي بصير ومن معه ، ومن أتاه منهم فهو آمن ، وتخلوا في ذلك عن أقسى شروطهم التي صبوا فيها كؤوس كبريائهم ، فذلت قريش من حيث طلبت العز ، فأرسل إليهم النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وهم بناحية العيص ، فقدموا عليه وكانوا قريباً من الستين أو السبعين , فآوى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم تلك العصبة المؤمنة التي أقضت مضاجع قريش ، وأرغمتها على إسقاط شرطها التعسفي ، فزادت بهم قوة المسلمين وقويت بهم شوكتهم ، واشتد بأسهم . غير أن أبا بصير ، رأس تلك العصابة ومؤسسها ، لم يقدر له أن يكون معها ، فقد وافاه كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم بالعودة إلى المدينة ، وهو على فراش الموت ، فلفظ أنفاسه حيث كان في الثغر ، وهواه في قلب المجتمع النبوي في المدينة .
حب الشهادة والموت في سبيل الله
قال ابن مسعود رضي الله عنهشهدت من المقداد بن الأَسود مشهداً لأَن أَكون صاحبه أَحب إلي مما عُدِلَ به ، أَتى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وهو يدعو على المشركين ، فقال : لا نقول كما قال قوم موسى : اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأَيت النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم أَشرق وجهه ، وسره يعني قوله .
جاء رجل من الأعراب إلى النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فآمن به ، واتبعه ، فقال : أهاجر معك ؟ فأوصى به بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة خيبر ، غنم رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم شيئاً فقسمه ، وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسم له ، وكان يرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوه إليه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم فأخذه فجاء به للنبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فقال : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : « قسم قسمته لك » قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا ، وأشار إلى حلقه ، بسهم ، فأموت فأدخل الجنة ، فقال : « إن تصدق الله يصدقك » ، ثم نهض إلى قتال العدو ، فأُتي به إلى النبي ، صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وهو مقتول ، فقال : « أهو هو ؟ » قالوا : نعم . قال : « صدق الله ، فصدقه » فكفنه النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في جبته ، ثم قدمه ، فصلى عليه ، وكان من دعائه له : « اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك قُتل شهيداً ، وأنا عليه شهيد » .
وجاء عبد أسود حبشي من أهل خيبر ، كان في غنم لسيده ، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح ، سألهم : ما تريدون ؟ قالوا : نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي فوقع في نفسه ذكر النبي ، فأقبل بغنمه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم فقال : ماذا تقول ؟ وما تدعو إليه ؟ قال : « أدعو إلى الإسلام ، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وألا تعبد إلا الله » قال العبد : فما لي إن شهدت وآمنت بالله عز وجل ، قال : « لك الجنة إن مت على ذلك » . فأسلم ثم قال : يا نبي الله , إن هذه الغنم عندي أمانة ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم : « أخرجها من عندك وارمها بـ (الحصباء) فإن الله سيؤدي عنك أمانتك » ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها ، فعلم اليهودي أن غلامه قد أسلم ، فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في الناس ، فوعظهم وحضهم على الجهاد فلما التقى المسلمون واليهود قتل فيمن قتل العبد الأسود واحتمله المسلمون إلى معسكرهم فأدخل في الفسطاط فزعموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم اطلع في الفسطاط ، ثم أقبل على أصحابه ، وقال : « لقد أكرم الله هذا العبد ، وساقه إلى خيبر ، ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين ولم يصل لله سجدة قط » .
جهاد الصحابة في معركة مؤتــــة
لما وصل الجيش الإسلامي إلى معان من أرض الشام بلغه أن النصارى الصليبيين من عرب وعجم قد حشدوا حشوداً ضخمة لقتالهم ، إذ حشدت القبائل العربية مائة ألف صليبي من لخم وجذام وبهراء وبلى , وعينت لهم قائدًا هو مالك بن رافلة , وحشد هرقل مائة ألف نصراني صليبي من الروم فبلغ الجيش مائتي ألف مقاتل ، مزودين بالسلاح الكافي يرفلون في الديباج لينبهر المسلمون بهم وبقوتهم , ولقد قام المسلمون في معان يومين يتشاورون في التصدي لهذا الحشد الضخم فقال بعضهم : نرسل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في المدينة نخبره بحشود العدو , فإن شاء أمدنا بالمدد ، وإن شاء أمرنا بالقتال , وقال بعضهم لزيد بن حارثة قائد الجيش : وقد وطئت البلاد وأخفت أهلها ، فانصرف فإنه لا يعدل العافية شيء ، ولكن عبد الله بن رواحة حسم الموقف بقوله : يا قوم ، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون ؛ الشهادة ! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين : إما ظهور ، وإما شهادة ، فألهبت كلماته مشاعر المجاهدين ، واندفع زيد بن حارثة بالناس إلى منطقة مؤتة جنوب الكرك يسير حيث آثر الاصطدام بالروم هناك ، فكانت ملحمة سجل فيها القادة الثلاثة بطولة عظيمة انتهت باستشهادهم ، فقد استبسل زيد بن حارثة وتوغل في صفوف الأعداء وهو يحمل راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم حتى شاط في رماح القوم . ثم أخذ الراية جعفر وانبرى يتصدى لجموع المشركين الصليبيين ، فكثفوا حملاتهم عليه ، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم ، فلم تلن له قناة ، ولم تهن له عزيمة ، بل استمر في القتال , وزيادة في الإقدام ونزل عن فرسه وعقرها ، وأخذ ينشد :
يا حبذا الجنة واقترابها طيــبة وبارد شـرابها
والروم رومُ قد دنا عذابها كافرة بعــيدة أنسابها
لقد أخذ رضي الله عنه اللواء بيده اليمنى فقطعت ، فأخذه بشماله فقطعت , فاحتضنه بعضديه وانحنى عليه حتى استشهد وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، ولقد أُثخن رضي الله عنه بالجراح إذ بلغ عدد جراحه تسعين بين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم , وليس من بينها جرح في ظهره بل كلها في صدره . ولقد عوّض الله عزوجل سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأكرمه على شجاعته وتضحيته بأن جعل له جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء .
وبعد استشهاد جعفر بن أبي طالب استلم الراية عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه وامتطى جواده ، وهو يقول :
يا نفسُ إلاّ تُقْتَلي تَموتي هذا حِمامُ المَوتِ قد صُليتِ
أقسمتُ يا نفس لَتنزِلنّة ما لي أراكِ تكرهينَ الجنّة
ويذكر أن ابن عم لعبد الله بن رواحة قد قدم له قطعة من لحم وقال له : شد بهذا صلبك ، فإنك لقيت في أيامك هذه ما لقيت ، فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة ، ثم سمع الحَطْمَةَ في ناحية الناس ، فقال يخاطب نفسه : وأنت في الدنيا ؟ ثم ألقى قطعة اللحم من يده وتقدم يقاتل العدو حتى استُشهد رضي الله عنه ولما استشهد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، وسقطت الراية من يده فالتقطها ثابت بن أقرم بن ثعلبة بن عدي بن العجلان البلوي الأنصاري ، وقال : يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم ، قالوا : أنت ، قال : ما أنا بفاعل ، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد . وإن ثابت بن أقرم نظر إلى خالد بن الوليد ، فقال : خذ اللواء يا أبا سليمان ، فقال : لا آخذه ، أنت أحق به ، أنت رجل لك سن ، فقد شهدت بدراً ، فقال ثابت : خذه أيها الرجل فو الله ما أخذته إلا لك ، فأخذه خالد بن الوليدرضي الله عنه . وإن الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم قد نعى المسلمين في المدينة زيداً وجعفراً وابن أبي رواحة قبل أن يصل إليه خبرهم ، وحزن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم لما وقع للسرية وذرفت عيناه الدموع ، ثم أخبرهم بتسلم خالد الراية ، وبشرهم بالفتح على يديه وأسماه سيف الله , وبعد ذلك قدم من أخبرهم بأخبار السرية ، ولم يزد عما أخبرهم به النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم . ولما دنا الجيش من حول المدينة ، تلقّاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم والمسلمون , ولقيهم الصبيان ينشدون ، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم مقبل مع القوم على دابة فقال : « خذوا الصبيان واحملوهم ، واعطوني ابن جعفر » ، فأتي بعبد الله ، فأخذه فحمله على يديه ، وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون : يا فرّار , أفررتم في سبيل الله ؟ ويقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم : « ليسوا بالفرّار ، ولكنهم الكرّار إن شاء الله تعالى » .