ان دور الرؤى والأحلام في حياة المسلمين لم يكن هامشياً ، سواءً على المستوى الديني أو الفكري . فقد أصبح علماً قائماً بذاته ومعترفاً به ، حتى ان ابن خلدون خصص لهذا العلم فصلاً في مقدمته اختتمه قائلاً : « هو علم مضيء بنور النبوة للمناسبة التي بينهما كما وقع في الصحيح والله اعلم »(1) .
أن قواعد وأصول وضوابط هذا العلم كانت مختلفة متباينة تبعاً للتوجه أو التيار الذي تبناه ، فما ذكره عنه رجال الدين المستندين إلى ضوابط الشرع كما يقولون غير ما ذكره المتكلمين المستندين إلى قواعد العقل ، وغير ما ذهب إليه الفلاسفة الذين اعتمدوا على قواعد الفكر المنطقي ، وبالتأكيد فان توجه الصوفية كان مغايراً للجميع لاعتماده على المعرفة الكشفية.
وبالطبع فأن الأسهل من بينها هو الأكثر شيوعاً وتداولاً بين عامة الناس وهو النمط الأول الذي اعتمد على المرويات من الأحاديث والقصص والحكايات المروية عن المفسرين التقليديين ، خصوصاً ابن سيرين الذي ذاع صيته بين المسلمين في تفسير الرؤيا حتى لقبه الدكتور علي الوردي بـ (ارطميدورس العرب) ، حيث نسبت إليه كتب عديدة في التعبير ، وإن كان المظنون انها ليست له ، كلها أو بعضها ، فقد مات ابن سيرين عام 108 للهجرة ، ووقتها لم يبدأ الناس بتدوين الكتب على نطاق واسع ، وربما تكون الكتب المنسوبة له قد الفت بعد موته ثم وضع اسمه عليها بغية رواجها بين الناس بعد ان أصبح اسم هذا الرجل أسطورة ذات صيت عريض ، وأخذوا يعزون إليه الخوارق (2) في تعبير الرؤيا طبعاً .
وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على أهمية هذا العلم عند الناس ، ومسارعتهم للحصول على تعبير لمناماتهم أنى كان المصدر وكيف كان .
ومن هنا أصبح لهذا العلم جملة من الألفاظ والمصطلحات تطلق على مفرداته ، وهي عند عوام الناس مترادفة ، وهناك فروق بسيطة بينها عند أهل الاختصاص ، ومن تلك الألفاظ :الألفاظ التي تطلق على ما يراه النائم
ورد للرؤيا ألفاظا مترادفة ، منها ما ذكر في كتاب الله تعالى ، ومنها ما ذكر على السنة الناس :
1. الرؤيا : ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى : (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)(3) .
2. الأحلام : في قوله تعالى : (قَالُواْ أَضْغَاثُ (4) أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ) (5) . والأحلام ، جمع حُلـْم ، وهو ما يراه النائم في المنام (6) .
3. الأحاديث : في قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)(7) . أي ويعلمك تعبير الرؤيا ، لأن أحاديث الناس عن رؤياهم .
4. الطيف : وهو من كلام الناس في الرؤيا ومترادفاتها، ومعناه : ما طاف على الرائي طائف ، وهو نائم ، كالصورة الذهنية التي تمر على ذهن الإنسان في حالة اليقظة ، فلا تكاد تلبث إلا وتذهب بسرعة (8) .
الألفاظ التي تطلق على تعبير الرؤيا
ورد لتعبير الرؤيا ألفاظا ، منها :
1. التفسير : البيان والكشف ، كقوله تعالى : (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثــَـلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ) (9) ، أي : تبياناً وكشفاً ، كما هو المستعمل في لسان العرب ، وفي كتب المفسرين ، وكما في ( تفسير الأحلام ) للشيخ عبد علي الحائري ، وتفسير الأحلام للشيخ محمد ابن سيرين، وغيرهما.
2. التأويل : وهو المنتهى الذي يؤول إليه المعنى (10) ، وهو كما مشار إليه بقوله تعالى : ( وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) (11) .
3. التعبير : يقول تعالى : (إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) (12) وهو مشتق من عبور النهر ونحوه (13) . 4. الفتوى : يقول تعالى : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ)(14). أي عبروا ما رأيته في منامي وبينوا فتواه لي فيه ، وهو : حكم الحادثة (15) .
طرق تعبير الرؤيا
وقد ذكروا طرقاً متعددة للتعبير منها : مرة من لفظ الاسم , ومرة من معناه , ومرة من ضده , ومرة من كتاب الله تعالى , ومرة من الحديث , ومرة من المثل السائر والبيت المشهور .
فأما التأويل بالأسماء فيحمل على ظاهر اللفظ كرجل يسمى الفضل يتأول أفضالا , ورجل يسمى راشدا يتأوله إرشادا أو رشدا , أو سالما يتأول السلامة , وأشباه هذا كثيرة.
وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال : (رأيت ذات ليلة في ما يرى النائم كأنا في دار عقبة ابن رافع فأتينا برطب ابن طاب فأولت أن الرفعة لنا في الدنيا والآخرة وأن ديننا قد طاب )(16) .
فأخذ من رافع الرفعة ، وأخذ طيب الدين من رطب ابن طاب.
وحكي عن شريك بن أبي شمر قال : رأيت أسناني في النوم وقعت ، فسألت عنها سعيد بن المسيب فقال : أوساءك ذلك ، إن صدقت رؤياك لم يبق من أسنانك أحد إلا مات قبلك فعبرها سعيد باللفظ لا بالأصل, لان الأصل في الأسنان أنها القرابة.
وحكي عن بشر بن أبي العالية قال : سألت محمدا عن رجل رأى كأن فمه سقط كله فقال: هذا رجل قطع قرابته فعبرها محمد بالأصل لا باللفظ .
وحكي عن الأصمعي قال: اشترى رجل أرضا فرأى أن ابن أخيه يمشي فيها فلا يطأ إلا على رأس حية فقال : إن صدقت رؤياه لم يغرس فيها شيء إلا حيي .
وأما التأويل بالمعنى فأكثر التأويل عليه كالأترج إن لم يكن مالا وولدا عبر بالنفاق لمخالفة ظاهره .
وأما التأويل بالمثل السائر واللفظ المبتذل فكقولهم في الصائغ أنه رجل كذوب لما جرى على ألسنة الناس من قولهم : فلان يصوغ الأحاديث.
وكقولهم فيمن يرى أن في يديه طولا أنه يصنع المعروف لما جرى على ألسنة الناس من قولهم : هو أطول يدا منك وأمد باعا أو أكثر عطاء .
وقال النبيﷺ لأزواجه : ( أسرعكنَّ لحوقـاً بي أطولكنَّ يدا )(17) . فكانت سودة أطولهن يداً ، وكانت أطول بالصدقة ومعاونة المجاهدين وترفدهم .
وكقوله في المرض أنه نفاق لما جرى على ألسنة الناس لمن لا يصح لك وعده : هو مريض في القول والوعد , وقال الله عز وجل ( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً)(18) ، أي : نفاقا .
وكقولهم فيمن رمى الناس بالسهام أو البندق ، أو حذفهم أو قذفهم بالحجارة أنه يذكرهم ويغـتابهــم لما جــرى عـلى ألسنة النـاس من قولـهم : رميـت فلانا بالفاحـشــة , وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ)(19). وقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ)(20) . وكقولهم فيمن قطعت أعضاؤه أنه يسافر ويفارق عشيرته أو ولده في البلاد لما جرى على ألسنة الناس من قولهم : تقطعوا في البلاد , والله عز وجل يقول في قوم سبأ : (وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)(21) ، وقال : (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً)(22) .وكقولهم في الجراد إنها في بعض الأحوال غوغاء الناس لأن الغوغاء عند العرب الجراد.
وكقولهم في الكبش إنه رجل عزيز منيع لقول الناس : هذا كبش القوم , وكقولهم في الصقر إنه رجل له شجاعة وشوكة لقول الناس: هو صقر من الرجال .
وأما التأويل بالضد والمقلوب فكقولهم في البكاء إنه فرح ، وفي الضحك إنه حزن.
وكقولهم في الرجلين : يصطرعان ، والشمس والقمر : يقتتلان إذا كانا في جنس واحد: إن المصروع هو الغالب والصارع هو المغلوب .
وفي الحجامة إنها صك وشرط , وفي الصك إنه حجامة.
وقولهم في الطاعون إنه حرب وفي الحرب إنه طاعون.
وفي السيل إنه عدو وفي العدو إنه سيل .
وفي أكل التين إنه ندامة وفي الندامة إنه أكل تين .
وفيمن يرى أنه مات ولم يكن لموته هيئة الموت من بكاء أو حفر قبر أو إحضار كفن إنه ينهدم بعض داره .
كما ذكروا للرؤيا أقسام وتصانيف وأنواع شتى ، أشهرها التقسيم المستند إلى أحاديث شريفة تصنف المنامات إلى ثلاثة بحسب مصدرها أو سببها وهي : 1. الرؤيا : وهي المبشرات من الله تعالى .
2. الحلم : وهو حديث النفس في اليقظة يتمثل في المنام . 3. أضغاث أحلام : وهي تخويف من الشيطان (23) .
وتوسعت بعض الكتب بذكر :
– أدلة الرؤيا وكيفية إثبات صحتها وشرعيتها . – علامة الرؤيا الصادقة .
– شروط المعبر للرؤيا وما الذي ينبغي ان يكون عليه من مؤهلات .
– الأمور التي تساعد المسلم على ان يرى رؤيا صادقة .
– أحكام الكذب والصدق في الرؤيا وتعبيرها … الخ .
وهكذا تشكلت أركان علم الرؤيا في المجتمع الإسلامي، وتوسعت قاعدته ، ولكن هذا التوسع كان ولا زال مشوب بالتأرجح بين ( العقيدة والعلم والخرافة ) وذلك لأنه يعد منفذاً لمعرفة الغيب والتنبؤ بالمستقبل ، أو لا اقل من الاستبشار أو اخذ الحيطة والحذر حسب نوع الرؤيا وطريقة تفسيرها .
والطوائف الإسلامية في هذا الأمر سواء ، فما ذكره رجال أهل السنة كالملطي وابن حجر لا يختلف عما يذكره رجال الشيعة اختلافاً كبيراً (24) . والواقع ان الطوائف الإسلامية أصبحت في العهود المتأخرة متشابهة من حيث النمط الفكري الذي يسيطر على عقول أفرادها ، فهم يختلفون في الأشخاص الذين يقدسهم فريق منهم دون فريق ، ولكنهم في الاتجاه العقلي على وتيرة واحدة .
الاستنتاجات
يمكن اعتبار أهم الآراء التي قيلت في علم الأحلام هي :
1. الآراء الغيبية : وهي التي تعزو الأحلام إلى الله ( والآلهة عند غير الموحدين ) والشياطين . 2. الآراء المادية : وهي التي تربط الأحلام بالمؤثرات الحسية المحيطة بالإنسان ، ويمكن تسميتها بالآراء الأرسطوطاليسية .
3. الآراء العقلية : وهي التي تعتبر الأحلام ضرب من الوهم ، ولا تأثير لها في الحياة من قريب او بعيد . 4. الآراء الصوفية : وهي التي تربط الأحلام بما وراء العقل . 5. نظرية الحافز النفسي : وخلاصتها كما يرى فرويد ان الحلم ليس سوى ( تحقيق رغبة ) أو كما تصاغ : « إن الحلم تحقيق مقنع للرغبة المكبوتة أو المضغوطة »(25) .
6. نظرية أحلام الشعوب : توسع فيها الدكتور علي الوردي حتى عمم الرؤيا فجعل للشعوب رؤيا كما هو الحال للأفراد ، واعتبر كتب مثل كتاب ( ألف ليلة وليلة ) ما هي إلا محاولة تنفيس للمشاعر المكبوتة لدى الأوساط الشعبية والتي لا تتجاوز آمالها المرأة الجميلة والقصر الفخم والطعام اللذيذ . ولم يكتف بهذا القدر فتوسع ليشمل عقيدة ( المنقذ الإلهي ) والذي اعتبره ليس سوى حلم راود الشعوب القديمة في بعض مراحل تاريخها ، فالشعوب حين تتألم من ظلم حكامها – ولطالما كانت كذلك – ثم تشعر بالعجز عن إزاحة ذلك الظلم ، تأخذ من دون شعور منها باعتناق عقيدة الإنقاذ الإلهي ، فتتخيل مجيء المخلص (26) . وبالتأكيد هناك العديد من الآراء والنظريات الحديثة التي قيلت في هذا العلم وحولها ، وتبعاً لكل نظرية أو رأي اختلف نمط التفسير للأحلام ، ويبدو انها جميعاً ، تحوم حول الحمى ، لأن كل منها تناول الموضوع من جانب معين هو محور اختصاصه الفكري أو الاعتقادي .
ونحن إذ تطرقنا إلى هذه الآراء لم يكن قصدنا منها استعراضها على سبيل الحصر والمناقشة أو النقد ، بل أردنا ان نعرض لشيء من خلفية هذا العلم ليُرى كيف تخالف الناس فيه واختلفوا ، لما له من أهمية في حياة عامهم وعالمهم . ولما كان اهتمامنا بالجانب الصوفي فقد خصصنا الفصل التالي لبحث الموضوع بالتفصيل من وجهة نظر الصوفية وآراءهم بهذا العلم .
الهوامش:
[1] – ابن خلدون – المقدمة – ص 487 .
[2] – د. علي الوردي – الأحلام بين العلم والعقيدة – ص 44 .
[3] – يوسف : 43 .
[4] – أضغاث : ملء اليد من الحشيش المختلط ، كما قال تعالى : (خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) ص :44 .
[5] – يوسف : 44 .
[6] – المنجد في اللغة والأعلام- ص 150 .
[7] – يوسف : 6 .
[8] – الشيخ حسن الأدريساوي – تفسير الرؤيا والأحلام – ص 12 .
[9] – الفرقان : 33 .
[10] – الطبرسي – مجمع البيان – ج5 ص 210 .
[11] – يوسف : 21 .
[12] – يوسف : 43 .
[13] – الطبرسي – مجمع البيان – ج5 ص 237 .
[14] – يوسف : 46 .
[15] – الطبرسي – مجمع البيان – ج5 ص238 .
[16] – أخرجه مسلم عن انس بن مالك في كتاب الرؤيا – حديث رقم 4215 . [17] – أخرجه البخاري عن عائشة في كتاب الزكاة – حديث رقم 1331 .
[18] – البقرة : 10 .
[19] – النور : 4 . [20] – النور : 6 .
[21] – سبأ : 19. [22] – الأعراف : 168 .
[23] – مسند أحمد – ج 18 ص 308 – حديث رقم 8766 .
[24] – الشيخ المفيد – فصول من كتاب العيون والمحاسن – ص 92 – 93 . [25] – Dalbiez,op.cit.i,p.55
[26] – د . علي الوردي – الأحلام بين العقيدة والعلم – ص 80 -81 .
المصدر : من كتاب الرؤى والاحلام في المنظور الصوفي – أ.د. الشيخ نهرو الشيخ محمد الكسنزان الحسيني .
|