لازال الإنسان وبالرغم من كل التقدم الحضاري والتطور العلمي له ميل إن لم يكن انجذاب نحو الروحانيات ، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن هذا الإحساس بالذات هو الذي يدفع الإنسان للبحث في مجاهيل الكون متعدد الأبعاد والنواحي رغم تجاهل البعض مكابرةً وخوفاً من خرق قوانين البحث العلمي أو إنكار الآخرين من باب التكبر على الفطرة ، إلا إن الثابت الذي لا يختلف فيه اثنان إن نزعة البحث عن الحقيقة ( النسبية أو المطلقة ) ما فتئت تشغل عقل الإنسان وروحه ، ويمكننا القول إن كل ما تشهده الحياة العصرية من مدنية وتحضر علمي ما هو إلا أثر من آثار ذلك البحث وتلك الغاية ، هذا فضلاً عمن تخصصوا بالبحث عن ماهية الحقيقة نفسها وما يتعلق بها كالفلاسفة والصوفية وقسم من أهل الأدب والفن وغيرهم .
إن التحليق بالروح في الفضاء العلوي خارج قفص المادة وكثافاتها والرغبة في تطهير النفس والسمو بها نحو الكمالات هي من أعم وأشمل النـزعات الإنسانية التي ظهرت في جميع الحضارات القديمة والحديثة ، وقد عرفت هذه النـزعة باسم التصوف ونسبت إلى الأديان كما في التصوف اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي ، ونسبت إلى أشخاص بعينهم كالتصوف البوذي مثلا أو نسبت إلى الحضارة كما في التصوف الهندي أو الفارسي أو اليوناني .. الخ ، فلا يوجد حضارة إنسانية ليس فيها تصوف ، لأنه لا توجد حضارة بدون جانب روحي أو ديني أو وجداني بشكل عام .
خذ مثلا شعب (كيكوي) في أواسط أفريقيا ، كان له جانبه الروحي الخاص به وله تأملاته الصوفية الخاصة والتي أوصلته إلى الاعتقاد باله واحد سماه ( نجيا ) وهو عنده الخالق العظيم والذي ليس له أب أو أم ، وهو لا يشبه أحداً ، يعيش في السماء ، يتعامل مع الإنسان تبعاً لأعماله وأفعاله ، يعاقب ويثيب أثناء مراسيم الولادة أو الزواج أو الموت .
شعب ( الفيندا ) في أمريكا ، كان له توجهاته الصوفية الخاصة والتي ألهمته بطريقة ما تقديس الإله (رالوف هيمبا) ومعناه (النسر المقدس ) المحلق عالياً في السماء وهو خالق الأرض والكواكب والكائنات ويتحكم في كل الظواهر الطبيعية ، وهو يستجيب لدعاء القديسين والمقربين .
ولو ألقينا نظرة سريعة على سيرة حياة زرادشت فسوف نجد أنها لا تختلف كثيراً عن حياة الأنبياء والمصلحين أمثال بوذا وكونفوشيوس من حيث الاعتكاف في الكهوف والمغارات من أجل التأمل والتفكير العميق إضافة إلى موقعه القبائلي وانحداره من إحدى الأصول العريقة في قومه.
تأملات زرادشت الصوفية قادته إلى إسقاط عبادة الأصنام والأوثان التي كانت سائدة آنذاك ، وأوجد بدلاً عنها إلهاً واحداً مطلقاً قال عنه ( إني أدرك أنك أنت وحدك الإله وانك الأوحد الأحد …..الله واحد لا شريك له وهو اله لا يُسمع ولا يُرى ولا يُكلم ) .
ترتيلة مصرية قديمة ترجمها العالم الشهير واليس بدج فى كتابه ( اوزيريس وعقيدة البعث المصرية ) تكشف النقاب عن رؤى المصريين الصوفية وقتها :
واحد ، ولا ثاني له.
واحد خالق كل شيء قائم منذ البدء ، عندما لم يكن حوله شي
والموجودات خلقها بعدما أظهر نفسه إلى الوجود
أبو البدايات، أزلي أبدي، دائم قائم خفي لا يعرف له شكل، وليس له من شبيه
سرّ لا تدركه المخلوقات ، خفي على الناس والآلهة
سرّ خفي اسمه. وهو الكثير الأسماء
خالق ولم يخلقه أحد ، صنع نفسه بنفسه
هو الوجود بذاته ، لا يزيد ولا ينقص
عندما يتصور في قلبه شيئاً يظهر إلى الوجود
وما ينجم عن كلمته يبقى أبد الدهور
وهي قريبة من ترجمة عالم السومريات صمويل كريمر في كتابه (نصوص الشرق الأدنى القديم ) لأحدى التراتيل السومرية :
1 . إنليل ذو الكلمة المقدسة والأوامر النافذة .
2 . يقدر المصائر للمستقبل البعيد، وأحكامه لا مبدِّل لها
10 . الربّ المبجَّل في السماء والأرض ، العليم الذي يفهم الأحكام
93 . راعي جميع الكائنات الحيَّة وحاكمها
139 . فمن يقدر على فهم أفعالك.
140 . أنت قاضي الكون وصاحب الأمر فيه .
151 . كلمتك ماء الفيض الذي به تحيا البلاد .
وفي العقيدة الإسلامية جميع الأنبياء – وعددهم بالآلاف – كانوا متصوفون بل إن الشيخ محمد الكسنـزان يذهب إلى أن الهاجس التصوفي سابق زمانيا للنبوة ولاحق لها ، لأن النبي قبل نزول الوحي عليه لابد أن يكون له استعدادات روحية خاصة تتمثل بالتأمل في الماوراء والبحث عن الحقيقة والسعي نحو الصفاء النفسي ، وهذه الاستعدادات تؤهله لتلقي النبوة أو الرسالة من الله تعالى فإذا نزل عليه الوحي وأعطي المنهج النبوي أو الرسالي سار عليه مستكملا ًطريقه الصوفي نحو الكمال المنشود ، فالتصوف هو مقدمة النبوة وثمرتها في الوقت نفسه أن منابع الفكر الديني تكاد تلتقي كلها في البعد الذي يميل بفطرة الإنسان نحو الإيمان بإله واحد عظيم متعالي .. أو كما وصفه ايفلين اندرهيل في تعريفه للتصوف بأنه مجرد وعي بحقيقة عليا تكمن وراء الموجودات المحسوسة في هذا العالم والشعور بالرغبة في السعي وراء تلك الحقيقة . وهذه النـزعة الإنسانية وما يترتب عليها من معتقدات ومشاعر وطقوس و ممارسات جاذبة للإنسان نحو تقعيد علاقته بالغيبيات اللاهوتية أو الملكوتية فإنها بذلك تُعَد تعبير واضح عن وجود قانون روحي محدد يمكن إن يؤثر في الانسانيات تأثير القانون الطبيعي في الماديات .
_____________________________
المصدر :- مجلة الكسنزان .