أ.د. ضاري مظهر – جامعة بابل
الحلقة الاولى :اللون الفيروزي:
لا تزال نظريات علم النفس تتلمس طريقها في الكشف عن عوالمٍ تكمن في بطون النفس الإنسانية فاتجهت أفقياً لتلج تخصصات مجاورة جاد بها الفكر الديني بخطابيه الإلهي_والتأويلي إلى جانب ما تمخض عن التفكير الوضعي، ومن بين هذه التخصصات ، فلسفة الفن ونظريات علم الجمال ، حاول علم النفس بكل جدية أن يجد بعض التفسيرات والتبريرات للمشاعر والأحاسيس النفسية التي يدهشها الجميل دون أن يكون لها مدخلا إلى فهمه وعقلتنه , إنه شعور بالجميل فحسب , دهشة وانشداد وميل للون ما من الألوان ، أو لموسيقى معينة ,أو لخطٍ أو حجمٍ هندسي معين ,وهكذا لكل إعجاب قد تجرد من معانيه الظاهرية .
حاولت نظريات علم النفس ولا تزال تحاول فك هذه الطلاسم ولكن دون جدوى وذلك يرجع بحسب اعتقادنا إلى طبيعة المنهج أو الطريقة التي تحاول الكشف من خلالها عن هذه الميول ، فملاحظة الطفل وملاحقة تصرفاته تحت عنوان التجربة ومقارنتها بقرائن معينة وحدها غير كافية للإعلان عن نتائج سرعان ما تنحسر أمام تساؤلات من الصعب أن تجيب عليها .
لقد أثبتت التجربة الصوفية وعبر كل مذاهبها الممتدة على صفحات التاريخ أن معرفة أي معنىً من المعاني النفسية _الروحية لا يمكن أن يمسك أو يستدل عليه من الخارج ، اقصد من خارج الذات وهنا يكمن وجه مهم من أوجه المشكلة ، كما أن عملية الاستبطان هذه وحدها لا تكفي دون مقدمات ضرورية تهدف إلى معرفة النفس معرفة دقيقة والوقوف على تفاصيل مكوناتها أو تركيبتها الكونية، باعتبار أن الإنسان هو مختصر كوني شريف للكون الأكبر بما فيه من ثنائية الروح والأجسام.
ومن اجل معرفة النفس معرفة دقيقة لابد للمرء من جملة إجراءات عملية ومعنوية تدخل جميعها تحت عنوان مهم ورئيسي يُوصف ب(رضا الله تعالى ) فيكون لنتائج هذا لوصف علامات معرفية لا يشك في صحتها لأنها معطيات إلهية ، يقول تعالى:وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(البقرة: من الآية282) إن عملية الربط بين الطريقة أو المنهج مع الله تعالى لم تُبن على أساس افتراضي أو تخضع لتوجه عشوائي بل أن هذا الارتباط ينطلق من أساسٍ عميق كون النفس منحة إلهية لها وجه يتصل مع الله تعالى ووجهٍ مع الوجود ، يقول تعالى :فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر:29)فالنفس تبدو هنا امتداد النفخة ،والحجب المانعة من النظر بنور الحق تعالى , هي السبب في خلق أزمة المعرفة ،فإن المعرفة الحقة تقتضي إزالة التعلقات والشوائب ( الحجب) لكي تتحقق وتلتحق النفس بأصلها وامتدادها الطبيعي ، فيكون الإنسان من خلال هذا التواصل نافذ البصيرة بالله تعالى , فلا يحتجب عنه شيء سواء كان معنى أو إشارة أو معرفة مغزى لون أو طعم أو مذاق .
فالتجربة الصوفية تستند وتتبنى هذا المعطى الكشفي _ المعرفي_ الذوقي ،ونتيجة لهذا فإنها تستحق الاعتناء ويفترض أن يخصص لها فضاءاً تشغله إلى جوار فضاءآت المعارف والنظريات الأخرى .
إن نظريات علم النفس تمنح اللون الأزرق بطاقة تعريف تؤكد من خلالها دلالات قدسية وتجعل منه لون متسامِ يتصف بالإطلاق والصفاء وسمو الروح ولا أدري على ماذا استندت في الكشف عن هذه المعانِ , في حين أن الخطاب الإلهي ( القرآن الكريم) يمنحنا دلالات تختلف كل الاختلاف عن دلالات نظريات علم النفس بل تقع في النقيض تماماً , يقول تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) (طـه:102) فالدلالة هنا تشير إلى الإجرام، وللإجرام معانٍ كثيرة كلها تنغمس في الزرقة وتصطبغ فيها .
وما بين الدلالات التي تعرضها نظريات علم النفس في مجال اللون من خلال وسائلها ، وبين الخطاب الإلهي تتضح سعة الفجوة ، الأمر الذي يجعلنا نستدعي الخطاب الصوفي باعتبارهِ المجال الأقرب من خطاب الحق ليبن لنا حقيقة الإشارة الإلهية وما تنطوي عليه من تفصيل الدلالة .
لقد أشرت معطيات الكشف الصوفي أن للنفس الإنسانية سبعة مراتب أدناها مرتبة النفس الأمارة بالسوء وأعلاها النفس الكاملة إذا استطاع الإنسان بلوغها فإن ذلك يؤشر تجاوزه وتخطيه عالم الحجب الفاصلة بينه وبين الله تعالى أي رجوعه إلى ما كان عليه قبل أن يكون في عالم الأجسام تلك النفخة بصفائها ونقائها وكأنها تواً نفخت من روح الله تعالى فترى بفضل امتدادها الإلهي بنظر الله تعالى وتسمع به إلى آخره من تمكين .
وأظهرت معطيات الكشف أن لكل مرتبة لون يختص بها، له من الدلالة ما لتلك المرتبة ، وبما أن كل مرتبة تكون مصحوبة ومتسمة بجملة ميول وصفات ونزعات ، فإن اللون يكون هنا مساوياً من حيث تعبيريته لتلك الصفات والميول والنزعات ومعبراً عنها، ومن خلال اللون كذلك توصل المتصوفة إلى معرفة مراتب كل من يقع عليه النظر ، كما توصلوا إلى كيفية معالجة كل مرتبة من هذه المراتب ووضعوا بذلك الكثير من الكتب التي تدلك على من يمتلك الحكمة في تطبيب أمراض النفس ويجعلها متعافية في كل زمان .