يقول الشيخ محمد مهدي الرواس الرفاعي :
« يا ولدي : لا يصح طريق القوم إلا على هذا المنوال ، وإن لم يربط اليد بيد الشيخ ، ويعاهده على الصفا والوفا ، فليس بذي يد ولا عهد . ومن لم يحصل على مقام صاحب طريقته بخلق وعلى قلبه بفيض ، فليس بذي مقام ولا قلب . ومن لم ينتفع بهدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأدب شريعته ، فليس بذي هدىً ولا أدب .
وكيف يكون الفقير فقيراً بلا يد ولا عهد ولا مقام ولا قلب ولا هدىً ولا أدب ؟
قال تعالى : إِنَّ الَّذينَ يُبايِعونَكَ إِنَّما يُبايِعونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ ( الفتح : 10 ) .
وقال تعالى : إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤولاً ( الإسراء : 34 ) .
وقال تعالى : واتَّخِذوا مِنْ مَقامِ إِبْراهيمَ مُصَلّىً ( البقرة : 125 ) .
وقال تعالى : إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ( ق : 37 ) …
وقال تعالى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللَّهَ فاتَّبِعوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ( آل عمران : 31 ) .
وهذا الأدب لا سواه ، فألزمت آية اليد الخشية ، وألزمت آية العهد الوقوف عند
الحد ، وألزمت آية المقام الوقوف مقام الشيخ السابق والطلب من حيث طلب ، وألزمت آية الهداية سلوك ما يوجب لك الحب ، وعرفتك آية الاتباع إن أدبك بصحة اتباع نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم هو ما يوجب لك الحب ويقربك من الرب ، وهو غاية الطريق ونهايته ، وعلى ذلك بايعت الله والحمد لله …
يد وعهد ومكث في المقام مع الـ قلب السليم ونيل الهدي بالأدب
طريقة القوم من بدء الطريـق إلى أقصى النهاية فالزم واضح السبب »(1) .
رمز إسقاط الوسائط
يقول الشيخ الحسين بن منصور الحلاج :
« أسقط الوسائط عند تحقيق الحقائق ، وأبقى رسومها وقطع حقائقها . فمن بايع
النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على الحقيقة ، فإن تلك بيعة الله ، لأن يده في تلك البيعة يد عارية »(2) .
أقسام البيعة
يقول الشيخ ولي الله الدهلوي :
« البيعة على أقسام :
منها بيعة الخلافة ، ومنها بيعة الإسلام ، ومنها بيعة التمسك بحبل التقوى ، ومنها بيعة الهجرة والجهاد ، ومنها بيعة التوثق في الجهاد »(3) .
أوجه البيعة عند الصوفية
يقول الشيخ ولي الله الدهلوي :
« البيعة المتوارثة بين الصوفية على وجوه :
أحدها : بيعة التوبة من المعاصي .
والثاني : بيعة التبرك في سلسلة الصالحين بمنـزلة سلسلة إسناد الحديث ، فإن فيها بركة .
والثالث : بيعة تأكداً للعزيمة على التجرد لأمر الله ، وترك ما نهى عنه ظاهراً وباطناً ، وتعليق القلب بالله تعالى ، وهو الأصل .
وأما الأولان : فالوفاء بالبيعة ، فهما ترك الكبائر ، وعدم الإصرار على الصغائر ، والتمسك بالطاعات المذكورة من الواجبات والسنن الرواتب …
وأما الثالث : فالوفاء البقاء على هذه الهجرة والمجاهدة ، حتى يكون متنوراً بنور السكينة ، ويصير ذلك ديناً له وخلقاً وجبلة ، وعند ذلك قد يرخص له فيما أباحه الشرع من اللذات والاشتغال ببعض ما يحتاج إلى طول التعهد ، كالتدريس والقضاء وغيرهما والنكث بالإخلال في ذلك »(4) .
أحكام المبايعة
يقول الشيخ الأكبر ابن عربي قدس الله سره:
« المبايعة لا تقع إلا على الشرط المشروط ، والعقد الوثيق المربوط . وكل مبايع على قدر عزمه ومبلغ علمه . فقد يبايع شخص على الإمامة وفي غيره تكون العلامة ، فتصبح المبايعة على الصفات المعقولة لا على هذه النشأة المجهولة ، فيمد عند تلك المبايعة الخليفة الناقص في ظاهر الجنس الخليفة المطلوب يده من حضرة القدس ، فتقع المبايعة عليها من غير أن ينظر ببصره إليها ، ولذلك يقع الاختلاف في الإمام المعين لا في الوصف المتبين ، فقل خليفة تجمع القلوب عليه ، ولاسيما إن اختل ما بين يديه ، فقد صحت المبايعة للخليفة وفاز بالرتبة الشريفة . وإن توجه اعتراض فلا سبيل إلى القلوب المنعوتة بالمراض ، ولما كان الحق تعالى الإمام الأعلى والمتبع الأولى قال : اِنَّ الَّذينَ يُبايِعونَكَ إِنَّما يُبايِعونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ( الفتح : 10 ) ، ولا ينال هذا المقام الأجسم بعد النبي المصطفى الأعظم إلا ختم الأولياء الأطول الأكرم ، وإن لم يكن من بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقد شاركه في النسب العلوي ، فهو راجع إلى بيته الأعلى لا إلى بيته الأدنى »(5) .
منـزل مبايعة النبات للقطب صاحب الوقت
يقول الشيخ الأكبر ابن عربي قدس الله سره :
« منـزل مبايعة النبات القطب صاحب الوقت في كل زمان : هو من الحضرة
المحمدية … إن المبايعة العامة لا تكون إلا لواحد الزمان خاصة ، وإن واحد الزمان هو الذي يظهر بالصورة الإلهية في الأكوان ، هذا علامته في نفسه ليعلم أنه هو ، ثم له الخيار في إمضاء ذلك الحكم أو عدم إمضائه والظهور به عند الغير فذلك له …
إذا ولي من ولاه النظر في العالم المعبر عنه بالقطب ، وواحد الزمان ، والغوث ، والخليفة نصب له في حضرة المثال سريراً أقعده عليه ينبئ صورة ذلك المكان عن صورة المكانة ، كما أنبأ صورة الاستواء على العرش عن صورة إحاطته علماً بكل شيء ، فإذا نصب له ذلك السرير خلع عليه جميع الأسماء التي يطلبها العالم وتطلبه فيظهر بها حللاً وزينة متوجاً ميسوراً مدملجاً لنعمة الزينة علواً وسفلاً ووسطاً وظاهراً أو باطناً ، فإذا قعد عليه بالصورة الإلهية وأمر الله العالم ببيعته على السمع والطاعة في المنشط والمكره فيدخل في بيعته كل مأمور أعلى وأدنى إلا العالين ، وهم المهيمون العابدون بالذات لا بالأمر …
فمبايعة النبات هذا القطب : هو أن تبايعه نفسه أن لا تخالفه في منشط ولا مكره مما يأمرها به من طاعة الله في أحكامه ، فإن الله قد جعل زمام كل نفس بيد صاحبها وأمرها إليه … وكل من عرف القطب من الناس ، لزمته مبايعته ، وإذا بايعه لزمته بيعته وهي من مبايعة النبات ، فإنها بيعة ظاهرة لهذا القطب التحكم في ظاهره بما شاء وعلى الآخر التزام طاعته ، وقد ظهر مثل هذا في الشرع الظاهر أن المتنازعين لو اتفقا على حكم بينهما فيما تنازعا فيه ، فحكم بينهما بحكم لزمهما الوقوف عند ذلك الحكم وأن لا يخالفا ما حكم به ، فالقطب المنصوب من جهة الحق أولى بالحكم فيمن عرف إمامته في الباطن من الناس …
فالسعيد : من عرف إمام وقته ، فبايعه وحكمه في نفسه وأهله …
ولما كان النبات برزخياً ، كان مرآة قابلاً لصور ما هو لها برزخ ، وهما الحيوان والمعدن إذا بايع بايع لبيعته ما ظهر فيه من صور ما هو برزخ لهما تابعاً له ، فتضمنت بيعة النبات بيعة الحيوان والمعادن ، لأن هذا الإمام يشاهد الصور الظاهرة في مرآة البرازخ »(6) .
_______________________________
الهوامش :
(1) – الشيخ محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي – قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي واتباعه الأكابر – ص 310 – 311 .
(2) – الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي – زيادات حقائق التفسير – ص 179 .
(3) – الشيخ ولي الله الدهلوي – مخطوطة رسالة في البيعة – ص 4 .
(4) – الشيخ ولي الله الدهلوي – مخطوطة رسالة في البيعة – ص 8 .
(5) – الشيخ ابن عربي – عنقا مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب – ص 62 – 63 .
(6) – الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – ج 3 ص 135 – 139 .