د. صهباء بندق 14/5/2001
ساعد التطور السريع الذي يشهده علم الهندسة الوراثية هذه الأيام في إيجاد حلول لبعض ألغاز الكائن الحي التي طالما أرّقت العلماء، فلقد ظلت “الساعة البيولوجية”Biological Clock والموجودة داخل كل منا لغزًا غامضًا رغم مئات الأبحاث التي نشرت حولها حتى تمكن العلماء مؤخرا من تحديد مكانها في الجسم، وتلك الساعة هي التي تجعلنا نشعر بالزمن وتنظم إيقاع حياتنا وتحدد أوقات النوم واليقظة وتشعرنا بالجوع عندما يحين موعد تناول الطعام وتبرد أجسامنا ليلا وتسخنها نهارا، كما نجد أن معظم الذين يستخدمون الساعات المنبهة لإيقاظهم يستيقظون عادة قبل أن يدق جرس المنبه بلحظات، وكأن في أجسامهم منبها داخليا يوقظه في الموعد المطلوب.
الإيقاع اليومي
يعرف التغير من حال إلى أخرى خلال 24 ساعة باسم الإيقاع اليومي Circadian Rhythm، وهو ظاهرة شهيرة في عالم الأحياء، فمن ذلك مثلاً أن الأزمات القلبية تحدث غالبا في الساعات الأولى من الصباح، وكذلك نوبات الصداع النصفي (الشقيقة) وآلام المفاصل يكثر حدوثها في وقت محدد من اليوم والحساسية للألم تبلغ ذروتها ليلا وتتضاءل نهارا، بل إن أمزجتنا تتنوع في اليوم الواحد بين الرومانسية والواقعية ومشاعرنا تتبدل من البهجة في الساعات المشرقة إلى الانقباض عندما تمتلئ السماء بالغيوم، والمشكلة التي تفكر فيها بعد منتصف الليل تستعصي على الحل بينما تكتشف أنها أبسط مما كانت عليه عندما تنظر في المشكلة نفسها عند الصباح، إنها المشكلة نفسها لم تتغير ولكن الذي تغير هو موقفك النفسي والعاطفي تجاهها!!.
والحقيقة أننا لسنا وحدنا أصحاب ذلك الإيقاع اليومي، فمن المعروف أن كثيرًا من فصائل الحيوانات تهاجر وتتزاوج طبقًا لمواعيد زمنية ثابتة في فصول من السنة، وكذلك هجرة الطيور شمالا وجنوبا تتحدد بأوقات زمنية معينة من السنة.
بل والنباتات أيضًا، فمعظم النباتات تتفتح أزهارها لتستقبل النحل والفراشات في مواقيت نهارية محددة، ولعل سلوك نبات دوار الشمس يقترب من الترجمة الحرفية للإيقاع اليومي في عامل النبات وحتى الفطريات والحيوانات الأولية يبدو من رصد نشاطها أنها تميز بين الليل والنهار.
عندما تختل الساعة البيولوجية
هناك بعض الأعراض التي تظهر عند اختلال عمل الساعة البيولوجية، مثل:
1- اضطراب دورات النوم واليقظة
فعندما تختل الساعة البيولوجية تصاب دورات النوم واليقظة عند الإنسان بارتباك شديد؛ حيث يصاب البعض بالحاجة إلى النوم في وقت مبكر جدًا من الليل، ثم يستيقظون بعد منتصف الليل لتبدأ معاناة انتظار الصباح، بينما يحدث العكس عند فريق من الناس حيث يجدون صعوبة شديدة في النوم ويعتبرون أنفسهم من ضحايا الأرق فلا يصل النوم إلى عيونهم إلا بعد منتصف الليل أو قرب الفجر، ويترتب على ذلك صعوبة شديدة في الاستيقاظ صباحًا للذهاب إلى العمل أو المدرسة.
2- دوار الطائرة النفاثة Jet Lag
وهي حالة مرضية تحدث عادة عند السفر الطويل السريع عبر مناطق يتغير فيها الوقت، وذلك نتيجة لعدم توافق الساعة البيولوجية داخل الإنسان مع الساعة الخارجية التي تتغير بتغير توقيت البلاد المختلفة التي يمر بها المسافر، وينتج عن هذه الحالة أرق وإرهاق وتباطؤ وظائف الجسم، ويصاحبه اضطراب في دورات النوم واليقظة.
3- الاكتئاب الشتوي “الاضطراب الوجداني الفصلي”
في دراسة ميدانية بمدينة نيويورك وجد أن أكثر من ثلث البالغين يعانون اضطرابا في حالتهم المزاجية في أثناء الشتاء؛ حيث تطول ساعات الليل. كما وجد أن ستة أشخاص من كل مائة يعانون اكتئابا شديدا في فصل الشتاء؛ فيشعر المريض بصعوبة في ممارسة العمل والحياة العائلية، كما يحس بموجات من التعب وتتغير عاداته في الأكل؛ فيتناول الكثير من المواد النشوية والسكرية.
أين توجد الساعة البيولوجية؟؟
تمكن العلماء أخيرًا من رصد مكان الساعة البيولوجية بعد اكتشاف مجموعة من الخلايا العصبية تقع في النهار التحتي وسط المخ تعرف بالنواة فوق التصالبية Supra Chiasmatic nucleus، ويبدو أنها مركز التحكم في الإيقاع اليومي، وتتكون هذه النواة من جزأين، جزء يوجد في النصف الأيمن من المخ، والجزء الثاني في النصف الأيسر من المخ، وكل جزء يتكون من عشرة آلاف خلية عصبية ملتصقة بعضها ببعض، وتقوم على تنظيم الجداول الزمنية والتنسيق مع بقية الخلايا للوصول إلى ما يجب أن تكون عليه أنشطة الجسم على مدار اليوم.
وتوجد هذه النواة فوق نقطة التقاء العصبين البصريين في قاع الجمجمة؛ حيث إن عمل هذه النواة يرتبط بالضوء الذي يعمل على خلق التزامن بين الساعة الداخلية ودورات النور والظلام في العالم الخارجي، وفي خلايا هذه النواة يتم نسخ وترجمة مورث جين الساعة الذي يسهم بدور كبير في مدى دقة هذه الساعة، وهو المسئول عن ضبط الساعة البيولوجية، والعثور عليه يمهد الطريق إلى ضبط ساعاتنا البيولوجية مثلما نضبط ساعة اليد أو الحائط بعد استبدال المورث المضطرب بآخر سليم..!!.
كيف تعمل الساعة البيولوجية؟
مكنت تقنيات البيولوجيا الجزيئية العلماء من فهم الآلية التي تعمل بها تلك الساعة العجيبة، فمن خلال الأبحاث التي أجريت على ذبابة “الدروسوفيلا” تبين أن لحظة الصفر في الدورة اليومية تبدأ عند الظهر؛ حيث تبدأ عملية نسخ الجينات المسئولة عن تكوين مركب حساس للضوء، ويظل النسخ مستمرًا حتى ما بعد الغروب مباشرة لتبدأ عملية ترجمة الجينات المنسوخة إلى بروتينات تتحد لتكون المركب الحساس للضوء، وعند الفجر يعمل الضوء على تفكيك هذا المركب الحساس؛ فيفقد فعاليته تدريجيا، وعند الظهر يفقد فعاليته تماما وتبدأ الخلية في عملية النسخ من جديد.
وهكذا تتتابع عمليتا “نسخ” الجين و”ترجمة” نسخته Gene Expression في حلقة يومية محكمة ذاتية التنظيم؛ فالتعرض للضوء مبكرًا يؤدي إلى تبكير عملية النسخ أي تبكير ساعة الصفر في الدورة اليومية والتأخر في التعرض للضوء يعني تأخر عملية النسخ، وهكذا يعمل الضوء على ضبط الساعة البيولوجية كل أربع وعشرين ساعة.
وعلى هذا، فإن دورة النور والظلام على سطح الأرض تقوم مسار جميع العمليات الحيوية في جسم الكائنات الحية؛ حيث لا يمكن أن تعمل الساعة البيولوجية بمفردها بانتظام لمدة طويلة، بل لا بد من وجود تلك الدورة كساعة مرجعية نضبط عليها ساعتنا من حين لآخر. ومن ثم يعتبر التعرض لضوء النهار ولو لدقائق معدودة كل يوم ضروريا لتوفيق إيقاع الجسم مع إيقاع الطبيعة من حولنا.
والقرآن الكريم يحدثنا عن نعمتي الليل والنهار فيقول:قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ . قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (1) صدق الله العظيم.
الهوامش:
القصص: 71-72 .
المصادر:
شبكة العز الثقافية
http://www.al3ez.net/index0.php?show=index41&id=79