أ.د. ضاري مظهر – جامعة بابل
الأخضر المصفر .. والتخلي القاطع
ما من شك أن للون الأخضر سلطة على النفس بكل أشكاله ودرجاته ،تشعر النفس معه بالهدوء والراحة وتهجر قلقها ، وكأنها تتفرغ من همومها المادية فتطالع في وقفةٍ لها صفحات الوجدان ومن ثم تتسلل وتُستدرج من حيث لا تدري إلى عالم الروح ، تلك إطلالة الحق لها من خلال تجليات اللون الأخضر ودرجاته وتلك آثار تجليات الجمال في الوجود .
فالجمال هو عين الرحمة والرعاية بوصفه يشكل منطقة جذب لمحبي الجمال ، وكلما اقترب المجذوب لجاذبه وجد جمالاً أرقى يلوح له بالسعي والسفر ، وحين يسعد المسافر بمطلوبه ناداه جمال آخر يغري بلذةٍ روحيةٍ أرقى وهكذا دون انتهاء .
واللون هو ذلك النداء ،الذي اتخذ على عاتقه عملية الإغواء والاستدراج،وله وجهين : وجه يدعو إلى عالم الغيب وفضاءاته الواسعة المطلقة ووجه يدعو إلى العالم الدنيوي المحدود والوقوف مع مراتب الوجود المادية ،ولأرباب الذوق اختيار ومعرفة مشاربهم ،يقول تعالى:اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(البقرة: من الآية60) .
اللون الأخضر من الألوان التي يمكن تقسيمها إلى مجموعتين : المجموعة الأولى تبدأ من الأخضر المصفر ثم تتدرج حتى تصل إلى الأخضر القاتم ، والمجموعة الثانية تتدرج من الأخضر القاتم حتى تصل إلى الأخضر المعتم ، كما نصت عليه الآية الكريمة : مُدْهَامَّتَانِ (الرحمن:64) وهو الأخضر الغامق الجميل وهو من ألوان الجنة ذكرهُ تعالى لأن جماله يليق بأوصاف الجنة ، من هنا يتضح أن دلالات اللون الأخضر القاتم ودرجاته القاتمة التي تصل إلى درجة السواد هي ذات صفات ومعان روحية، وهي من ألوان الجنة بكل ما تمتلكه من خواص سواء كانت مادية أو روحية .
واللون الأخضر المصفر لون متولد من امتزاج اللون الأخضر واللون الأصفر ، ومن أجل الوقوف على دلالة اللون الأخضر المصفر ،لابد لنا من معرفة مدلولات الأخضر والأصفر لدى المتصوفة ومن ثم يتسنى لنا معرفة مدلولات اللون الأخضر المصفر .
1- الأصفر : وهو نور مرتبة النفس اللوامة ، تتصف هذه المرتبة باللوم والفكر والعجب والاعتراض على الخلق والرياء الخفي وحب الشهوة والرياسة ولقد سماها تعالى باللوامة لأنها تقلب صاحبها في أكثر أحوالها ، وتفعل ما يخالف أمر الله إلا أنها ترجع باللوم على ما وقع : قال تعالى :لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ*وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (القيامة:1،2 ) ويرى السنوسي :أن صاحب هذه المرتبة له ميل وتعلق في مجاهدة النفس، وموافقة الشرع ، وله نزوع باتجاه عمل الخير والعمل الصالح من قيام الليل والصيام والصدقة وغير ذلك من أفعال البر لكن يدخل عليها العجب وكذلك لرياء الخفي بأن يحب صاحبها أن يطلع الناس على ما هو عليه من الأعمال الصالحة .(الكسنزان ،ب ت ،ص 109 ،110).
2- الأخضر :وهو نور مرتبة النفس الراضية ،وصاحب هذه المرتبة راضٍ بكل ما يقع في الكون ، ليقينه بأن القدر خيره وشره من الله تعالى ، ولا راد لقضائه تعالى ،ومن صفات هذه المرتبة : الزهد فيما سوى الله ،والإخلاص والورع والنسيان والرضا بكل ما يقع في الوجود من غير اختلاج ولا توجه لرفع المكروه منه ولا اعتراض أصلاً لأنه مستغرق في شهود الجمال المطلق وقلبه مشغول بعالم اللاهوت . (الكسنزان ، نفس المصدر السابق ، ص 112 ).
فتكون دلالات مرتبة اللون الأخضر المصفر ،ترك اللوم بحصول بوادر التمكين من ضبط النفس وإلزامها طريق الحق ، وتنور الفكر بنور المعارف والمعاني الروحية ، وضمور تكرار العجب لما تحمله نسائم الحق من معارف ورتب ، واستقرارها في قلب من توجه لعالم اللاهوت ورغب ،فإذا تمكن الحال واستقر به لطيف الخاطر والمقال وذاق وعرف ، فلا اعتراض يكون لديه على الخلق ، لأن النظر قد تحول عنه فلا يرى سوى الحق ، وحين يكون المرء بهذا الوصف ، فلا رياء خفي ولا شهوة ولا حبٍ للرياسة إلا رياسة النفس بغية إرغامها في طلب الحق تعالى .
إذا كانت مرتبة الأصفر تقضي بالميل والرغبة في المجاهدة ، فإن مرتبة الأخضر المصفر تتبنى المجاهدة من اجل إصلاح الذات ، وتتخذ من خطى الشرع منهجا أوليا لها وأساسا مهما لتشيد عليه بناء الحقيقة ، من غير أن يخالط هذا التوجه شيء من الرياء أو العجب، كما أن مرتبة الأخضر المصفر تمثل اجتهاد وجدية صاحب هذه المرتبة في إزاحة بقية آثار مرتبة النفس الأمارة بالسوء بشكل كبير ولم يبق فيها إلا بعض الميول المشروعة البسيطة إلى جهة عالم الخلق .
وإذا كانت مرتبة الأخضر (النفس الراضية )لها من الصفات ، الزهد فيما سوى الله تعالى ،فإن مرتبة (الأخضر المصفر) لم تزل في طريقها إلى الزهد الذي يفضي في نهاية الأمر إلى التخلي الكامل عن التعلقات بالسوى ،فالزهد هنا يمثل بداية الشروع ، وهذا يعني أنه في طور المجاهدة ، وعندما تتضح مصداقية المجاهدة من خلال العزم على المضي بها قدما ,يقابلها الحق بما تستحق من معارف لدنية وعلوم ربانية بحسب قابليتها واستعدادها ، يقول تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) فالهداية هنا جاءت حاصل تحصيل جهاد العبد ، إذ كلما كانت المجاهدة أعلى وأتم ودائمة ،كانت الهداية الإلهية للعبد بما يتناسب وفاعليته وعزمه فينال من الترجيح والتفضيل بما يستحق ، يقول تعالى :فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً(النساء: من الآية95) .
وإذا كان مقام الإخلاص أحد عناوين النفس الراضية ذات النور الأخضر ،فإن السير على طريق التخلق بهذا المقام هو من أهداف مرتبة الأخضر المصفر ، ولعل من الأمور الطبيعية التي تستحق التأمل ،أن أغلب النباتات حين تظهر للوجود في بداية نشأتها ، تظهر في لون (الأخضر المصفر ) وحين تبلغ مدى من النضج فإن لونها يتجه إلى الأخضر الغامق وهكذا يبلغ أعلى مدى من الخضار فيؤدي مهامه على أتم وجه ثم يبدأ بالانتقال تدريجياً إلى الأصفر ثم يموت ، وفي هذا الصدد يقول تعالى :ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(الزمر: من الآية21) من هنا يتضح أن عملية الاكتمال في مرتبة الأخضر المصفر تتم حين يبلغ مرتبة الأخضر أما مرتبة الأصفر فهي مرحلة برزخية لها وجهين وجه يقابل مرتبة النفس الأمارة بالسوء ذات النور الأزرق ، ووجه يقابل النفس الملهمة صعوداً إلى الكاملة ، والأصفر له دلالة الموت بكلا الوجهين فهو حين يستقر مع مرتبة النفس الأمارة بالسوء ويحجب بها فهو من الناحية الاعتبارية موت لأن الجهل بالمعاني الروحية السامية والمعارف الإلهية هو عين الموت ، كما أن مرتبة الأصفر إذا اتجهت ومالت إلى جهة المراتب العلا ، كالملهمة والراضية فإن هذا يعني الموت كذلك أي :إماتة النفس عن أهوائها ولذاتها وحظوظها الدنيوية ، يقول تعالى : اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (لأنفال: من الآية24) فهم قبل الاستجابة أموات ، والحياة الحقيقية تبدأ بعد الاستجابة لله وللرسول ، وحين يستجيب العبد فإنه بهذه الاستجابة يكون قد أمات رغبات نفسه المستجيبة لغير الله تعالى ، فلأصفر هنا له دلالة الموت ، إلى ترى كيف يصبح لون الإنسان حين يفارق الحيات فإنه يكون ميالاً للأصفر .
لما كان الإخلاص صف من صفات الأخضر وإن مختبر الإخلاص هو الورع ، إذ لولا الورع عند المحارم لما ثبت الإخلاص ، وإن الورع كذلك هو صفة من صفات الأخضر ، فإن دلالة الأخضر المصفر هو محاولة إرغام النفس على عدم الشروع في المحارم ، ليست الظاهرة فحسب بل الباطنة كذلك كالرياء والحسد والنفاق والبخل والحقد والغضب وما شابه ذلك .
فالورع منهج كبير شرعه الأخضر ومرتبة الأخضر المصفر طالب يسعى إلى تطبيق المنهج بكل دقة , متخذا من أستاذه الأخضر الأسوة الحسنة في السلوك .
الفعل في السلوك المادي له ما يقابله من رد الفعل لأن طبيعة المادة خلقت على هذا النحو ، أما في الحياة الروحية ، أقصد حين تطغى الجوانب الروحية على المادية في الإنسان فإن امتصاص الفعل يصبح سمة من سمات الإنسان ولم يعد يهتم بموضوع رد الفعل لترفعه عن هذا المستوى بسبب رجاحة فهمه وعلمه ، وفي الأخضر تترشح كفة الجوانب الروحية على غيرها فلم يعد هناك اهتمام أو مبالاة بالدوافع المنفعلة التي تظهر من الآخر ،كما أن صفة النسيان تصبح من صفات صاحب هذه المرتبة فلم تعد تبقى لديه أحقاد مبيته لانشغاله بما يغنيه كونه مستغرق ومأخوذ في جمال الحق وما ينبجس عن هذا الانشغال من معاني روحية ومعارف إلهية ، أما في مرتبة الأخضر المصفر فإن الحال يختلف بعض الشيء ، فصاحب هذا المقام في دور الصيرورة والإعداد ليكون مؤهلاً لمرتبة الأخضر ،فهو تماماً كالتلميذ الذي يحتاج لتخرجه أو إكمال دراسته اجتياز سلسلة من المراحل لبلوغ هدفه ، فإن الصفات التي اتسمت بها مرتبة الأخضر هي هدف مرتبة الأخضر المصفر ، وبذلك فأن السعي باتجاه التخلق بها جار .