مقدمة
ﭐلحمد لله وﭐلصلاة وﭐلسلام ﭐلأتمان ﭐلأكملان على حبيبه ومصطفاه ﭐلوصف وﭐلوحي وﭐلرسالةِ وﭐلحكمة وعلى وآله وصحبه وسلم تسليماً .
في هذه المرحلة من تاريخنا الإسلامي المعاصر التي يمكن ان توصف بأنها مرحلة حرجة من حياة الأمة ، نجد أنفسنا ملزمين بأن نوضح معالم الطريق الذي يقود إلى حالة التوازن في الأمة لتنال عزتها في الدنيا وكرامتها في الآخرة ، ونجد أنفسنا ملزمين بذكر مكامن القوة الروحية في ديننا الإسلامي العظيم ، والتي بامكانها ان تدفع المسلمين إلى أعلى مراقي الرفعة والرقي ، تلك القوة الباطنة التي ما ان تجد المنفذ المناسب حتى تملأ النفس بأنفاسها العطرة ، جاعلة من المادة – في نظر المرء – مجرد وسيلة يجب تطويعها لغرض الصلاح النفسي والإصلاح الاجتماعي . فالجيل المعاصر ، المنبهر بحضارة الآخر وتقدمه ، المنغمس في الموجة المادية التي صارت مسيطرة على اغلب نواحي الحياة ، ينبغي عليه فيها ان يفهم ويفقه في جوهر الرسالة المحمدية ، حقيقة روحية عظمى ، قادرة على الربط المتوازن بين الجانب الروحي لدينه والجانب الحضاري الذي يعاصره .
لقد كانت سنة سيدنا محمد في وقتها تجسيداً مثالياً ومتكاملاً لإمكانية تحقيق الانسجام مع كل ما في الكون من أشياء , وإمكانية التفاعل بالقول والفعل مع الآخر , ذلك الانسجام الذي يسير بالإنسان قدما نحو تحقيق إنسانيته الكاملة وأهليته للخلافة على الأرض .
فالطريقة التي تحمل كل المعاني الإسلامية الجامعة لخير الإنسان في الدنيا والآخرة وعلى كافة المستويات الروحية والاجتماعية ، وتاريخها وحقائقها هي الغاية من رسالتنا هذه ، داعين المولى جل وعلا ان يحقق الغاية المرجوه منها ، والله والي التوفيق .
وصلى الله على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
مصطلح الطريقة في اللغة والاصطلاح
لم يختلف المعنى الاصطلاحي للفظ ( الطريقة ) عند الصوفية عن معناه في اللغة ، فالطريقة في اللغة هي الأسلوب او المسلك الذي يوصل إلى المقصود بسهولة ويسر ، وهي عند الشيخ محمد الكسنـزان : المنهج او الأسلوب الذي يستنبطه شيخ الطريقة من الكتاب والسنة المطهرة لتطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقا كاملا بظاهرها وجوهرها ، فمعنى الطريقة في الاصطلاح الصوفي اخص من معناه اللغوي . أنظر : المعجم العربي الأساسي – جماعة من كبار اللغويين العرب بتكليف من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم – جامعة الدول العربية – لاروس – 1989- ص 792 .
متى ظهرت الطريقة في الإسلام ؟ ولماذا ظهرت ؟ سؤال تقليدي يتبادر إلى أذهان كثير من الناس . ومن ناحية أخرى فإن البعض الآخر يتساءل : لو كانت الطريقة صحيحة ، فلماذا لم يأمر بها رسول الله ؟ ولماذا لم يصرح بها وبمناهجها وأساليبها التي تنوعت وتعددت بحسب المشارب والمسالك ؟
الحقيقة ان هناك لبسا شائعا عند الناس حول هذه المسألة ، فهناك فرق كبير بين ظهور مصطلح الطريقة كلفظ دال عليها ، وبين وجود الطريقة كحقيقة شرعية إسلامية رافقت ظهور الإسلام من بواكيره الأولى إلى انتقال حضرة الرسول الأعظم ، وتوريثه علومه وأنواره لخلفائه ونوابه من بعده .
صحيح ان لفظ الطريقة لم يشتهر في عصر الظهور المحمدي ، ولكن هذا لا يعني ان جوهرها وحقيقتها لم يكن موجودا . فلفظ الطريقة لا يختلف عن كثير من الألفاظ الإسلامية التي كانت موجودة بحقيقتها دون اللفظ الاصطلاحي الدال عليها ، ففي زمن الرسالة كان بعض الصحابة الكرام يتعاهدون قراءة القرآن الكريم وتجويده وترتيله آناء الليل وأطراف النهار وقد صار شغلهم الشاغل ، ولكنهم لم يشتهروا بلفظ ( القراء ) وقتها ، وكذلك كان هناك من يجتهد ويستنبط الأحكام الشرعية في بعض المسائل الفرعية ، ولكنهم لم يتسموا وقتها بالفقهاء ، ولم يطلق على ما اختصوا به وتفردوا في فهمه مصطلح ( علم الفقه ) الا في القرن الهجري الثاني ، فماذا يعني ذلك ؟
ذلك يعني ان جوهر العلوم الإسلامية كلها وبضمنها ( علم الطريقة ) كان موجودا في عصر الرسالة الأول ، ولكنها غير مشهورة بالتسميات التي تعارف عليها أصحاب كل علم فيما بعد ، فما ينبغي ان يوضع في الحسبان أن إطلاق اسم معين على حالةٍ كالطريقة ، ليس كإطلاق اسم معين على مولود جديد ، بل يمر ذلك الإطلاق بتطورات تبعاً لتطور ذلك المفهوم . وغني عن الذكر أن تخصص كل جماعة من العلماء بعلم من علوم الشريعة الإسلامية لا يعني البتة تركهم لبقية العلوم ، فكان كل منهم يقرأ القرآن ويحفظ الحديث النبوي الشريف ، ويتعلم أحكام الفقه ، ويجاهد نفسه في سبيل الحضور مع الله والتحقق بمقام الإحسان . وكذلك تمسك الجميع ببقية العلوم الإسلامية التي انتشرت آنذاك على قدر استطاعة كل منهم (1).
لعل قائل يقول : لنفرض ان ذلك صحيح ، وان جوهر العلوم الإسلامية كان موجودا في العصر الأول ، ولم تتفرع وتظهر معالمها الا بعد الحاجة لها في القرن الثاني ، فهل ان الطريقة كانت من ضمن تلك العلوم ؟
في صدد الإجابة على هذا السؤال تناول العديد من الصوفية نصا للحافظ محمد صديق الغماري يقول فيه بأن أول من أسس الطريقة هو الوحي السماوي من جملة ما أسس من الدين المحمدي ، وذلك لأنها – كما يرى – مقام الإحسان ( ان تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فهو يراك ) وهذا المقام هو ثالث أركان الدين بعد الإسلام والإيمان التي بينها حضرة الرسول الأعظم ﷺ في حديث جبريل والذي قال فيه هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم (2) ، مؤكدا على ان من أخل بهذا المقام ( الإحسان ) الذي هو الطريقة فانه لم يبلغ مراتب الكمال لتركه ركن من أركان الدين ، فغاية ما تدعو اليه الطريقة وتشير اليه هو مقام الإحسان بعد رسوخ الإسلام والإيمان (3).
وهذا النص ، وان كان يؤيد ما نذهب اليه من ان جوهر الطريقة نابع من جوهر الرسالة الإسلامية ، الا انه في رأينا لا يعطي الأبعاد الحقيقية لمصطلح الطريقة في الشريعة الإسلامية ، لأنه يقصر مفهوم الطريقة في الإسلام على ركن واحد من أركان الدين وهو ركن ( الإحسان ) والحقيقة ان مفهوم الطريقة متعلق باركان الدين الثلاثة ( الإسلام الإيمان الإحسان ) تعلق اللازم بالملزوم ، فهي ليست تطبيقا لمقام الإحسان فقط كما يتصور البعض ، وانما هي تطبيق لمقام الإسلام أولا ، ثم الإيمان ، وأخيرا الإحسان ، اذ لا إحسان بلا إسلام وإيمان . فالطريقة هي التطبيق الامثل والأكمل لأركان الدين الثلاثة بلا فصل او تجزئة . فاذا كان الوحي السماوي قد نزل بها كما ورد في حديث جبريل وهو ما نعتقد به ، فأنه نزل بمقاماتها الثلاث مجتمعه .
تعدد الطرائق
لما كانت الطريقة هي التطبيق العملي لأركان الدين الثلاثة : الإسلام والإيمان والإحسان ، ولما كان لكل مسلم أسلوبه الخاص في تطبيق تلك الأحكام من الناحية الروحية ، فهذا يعني ان لكل مسلم طريقة خاصة به تربطه بالله تعالى ، وتوصله اليه سبحانه ، ولهذا قيل : ( الطرائق بعدد أنفاس الخلائق ) (4) ومعناه ان سلوك كل فرد إنما يكون بحسب استعداده وقابليته كما يشعر به ، أي ان كل مخلوق له أسلوبه الخاص في الارتباط مع الله تعالى ، وهذا الارتباط يصفه الشيخ محمد الكسنـزان بعلاقة الإيمان حيث يقول : ما هي الطرق إلى الله ؟
انها قطعا ليست طرقا مادية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .. انها طرقٌ روحية ، وهي حالات الإيمان التي تربط العبد بربه ، فلا يربط العبد بالله تعالى شيء الا الإيمان والعمل الصالح ، فمن كان مؤمنا حقا عاملا للصالحات ، كان له طريقٌ يقربه إلى الله تعالى ، ومن كان ضالا عاملا للمنكرات كان له طريق آخر يبعده عن الله تعالى . ولما كان الإيمان والعمل نسبيين في العباد ، ويختلفان من شخص لآخر ، كان لكل عبد طريقة خاصة به تربطه مع الله تعالى .
يتبين من كلام الشيخ محمد الكسنـزان ان الطريقة هي الإيمان والعمل الصالح ، ومن خلال نسبية الإيمان والعمل الصالح يتحدد قرب العبد من ربه او بعده عنه . فهل يتنافى هذا الفهم أو هذا الاعتقاد لمصطلح ( الطريقة ) مع شيء مما جاءت به الشريعة الإسلامية ؟ ام ان التعمق في الأمر يكشف ان الطريقة جوهر الشريعة والشريعة منبع الطريقة ؟
عن عوف بن مالك قال : كنا عند رسول الله ﷺ تسعة فقال : ألا تبايعون رسول الله ، وكنا حديث عهد ببيعة ، فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، ثم قال :
ألا تبايعون رسول الله ؟
فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، ثم قال :
ألا تبايعون رسول الله ؟. قال : فبسطنا أيدينا وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك ؟ قال : على ان تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا وان لا تسألوا من الناس فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط احدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه (5).
مرت سنوات وافتقر العديد من هؤلاء ولكنهم لم ينسوا عهدهم الذي بايعوا عليه ، فقد كانوا لا يسألون الناس شيئا ابدا حتى ان احدهم لو سقط سوطه على الأرض وهو على ظهر ناقته أو جواده فلا يسأل أحدا ان يناوله اياه ، بل ينـزل من دابته ليلتقط السوط بنفسه ، وبالطبع يمكننا ان نتصور ان واحدا من هؤلاء النفر الذين بايعوا رسول الله ﷺ تلك البيعة لم يطلب ولو قدح ماء من أي شخص (6).
أين الطريقة هنا ؟ وما علاقة الحديث بمفهوم الطريقة الشامل ؟
قلنا : الطريقة هي التطبيق الكامل لأركان الدين ، وقد اشترط رسول الله ﷺ على هؤلاء النفر ان يعاهدوه على جانبين أساسيين :
الأول : الجانب العبادي والاعتقاد ، متمثل بشرط العبادة والتوحيد والصلاة .
والثاني : الجانب العملي المتجسد الطاعة في كل شيء وخصوصا عدم سؤال الناس أي شيء ، أي لا يطلب احدهم من احد أي شيء مهما كان بسيطا .
هذا هو عهدهم مع الله تعالى على يد رسوله ، وهذا هو طريقهم الذي رسمه لهم حضرة الرسول ﷺ وعلى أساس تطبيقه تتحقق مراتبهم ومنازلهم ( وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )(7). الطريقة مع هؤلاء عبادة واعتقاد وعمل في اطار الطاعة لله ورسوله وأولي الأمر منهم .
ولو تعمقنا قليلا في فهم الشرط الأخير من شروط هذه المعاهدة لرأينا فيه وسيلة عجيبة لرفع مرتبه هؤلاء النفر في أركان الدين الثلاثة (الإسلام الإيمان الإحسان) ..كيف ؟
في الحالة الاعتيادية كم يحتاج الإنسان ان يسأل الناس مساعدتهم في صغير الأمور وكبيرها ؟
تكاد تكون كثيرة وكثيرة جدا .. هنا وكلما احتاج احد أولئك النفر ان يسأل أحدا شيئا او يطلب منه شيء حضر إلى عقله وقلبه عهده مع رسول الله ﷺ ، فيمنعه ذلك الحضور من ذلك السؤال ، ويعمله بنفسه ، وهذا الحضور لرسول الله ﷺ ، هو حضور مع الله تعالى ، وهذه الطاعة لرسول الله ﷺ ، هي طاعة لله تعالى : ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ )(8) ، وهذه التربية على عدم الاعتماد على الناس في صغير الأمور وكبيرها تربي العبد على التوكل على الله تعالى وعلى اللجوء إليه قلبيا في كل لمحة ونفس ، فبهذا العهد الخاص وهذه البيعة الخاصة وهذه الطريقة ، رسم رسول الله ﷺ لهؤلاء النفر من الصحابة منهجا ومسلكا يحققهم باركان الدين الثلاثة : الإسلام الإيمان الإحسان .
الإسلام : حين يعبدون الله لا يشركون به شيئا ويؤدون فرائضه في أوقاتها .
الإيمان : تمسكهم بما عاهدوا عليه الله ورسوله .
الإحسان : الحضور الدائم مع الله تعالى من خلال تذكرهم لله في كل حاجة يحتاجون سؤال الناس فيها .
وهذا هو معنى الطريقة بالنسبة لهؤلاء النفر، ولنأخذ مثالاً آخر :روي الإمام البخاري في صحيحة والترمذي أن حكيم حزام ﷺ قال : سألت رسول الله فأعطاني ، ثم سألته فأعطاني ، ثم قال : يا حكيم : ان هذا المال خضر حلو ، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه ، وكان كالذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم فقلت : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا (9). فكان ابو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل
فقال : يا معشر المسلمين اني اعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفئ فيأبى ان يأخذه ، فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي حتى توفي رحمه الله(10). للتربية الروحية طرقا متعددة ، وتتبين لنا مصداقية ذلك هنا ، فحالة حكيم تختلف جملة وتفصيلا عن حالة النفر من الصحابة في الحديث السابق ، فقد كان حكيما على ما يبدو محبا للمال ، متعطشا له ، نفسه متعلقة به ، ولا شك ان رسول الله ﷺ عرف بنوره الرباني هذا الأمر ، فحدثه على ما في نفسه ، وكاشفه بموطن علته ، فنـزل رَوح كلامه كالدواء الشافي على العلة الخفية في نفس حكيم ، فلم يستطع الا الاستجابة للطب النبوي ، فكانت ردة فعله شفاءه من ذلك الطمع المغروس في النفوس ، حتى انه عفت نفسه عن حقه المقسوم له ، اذ لم يعد يريد من الدنيا شيئا الا من كسبه وجهده . والذي نراه ان في موعظة رسول الله سرا ربانيا وقوة روحية ، فإذا أراد ان يعالج بها من يراه أهلا لها ، فان أثر بركتها ونورانيتها تبقى حاضرة في القلب والنفس ، تعطي ذلك الصحابي من الهمة والقوة والعزيمة على الاستمرار على الطاعة مما لا تفعله الآف المواعظ المجردة عن تلك القوة الروحية والبركة المحمدية. فالطريقة التي أخذها الصحابي الجليل حكيم بن حزام من رسول الله ﷺ كانت سببا في عفته وورعه واستقامته ، وكانت سببا ايضا في حضور أمر رسول الله ﷺ في داخله إلى مماته ﷺ . ان ما حصل مع حكيم ليس مجرد موعظة أثرت في نفسه وحملته على فعل ما فعل ، فكم يسمع من يريد الموعظة وعظ الواعظين فلا يتعظ ، ولا يطبق .. ولأن كان رسول الله ﷺ وصف لحكيم ما وصف لمعرفته ان في ذلك شفاء لنفسه وسلامة لقلبه ، فانه قد وصف أمرا آخر لرجل جاء يسأله قائلا : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ ، فاخبرني بشيء أتشبث به . فقال له رسول الله ﷺ ما يزال لسانك رطبا بذكر الله(11) فلماذا لم يأمره بكثرة صلاة او أي أمر آخر ؟ لأن الذكر الكثير هو ما يناسب حال هذا العبد ، ويكفي ان نشير هنا إلى حديث رسولﷺ الذي يقول فيه : كل ميسر لما خلق له لندرك ان المرشد الروحي يساعد الإنسان على ما خلق له ، فيرشده إلى الطريق الأقصر الذي يقربه من ربه عز وجل . ان هذه الأحاديث النبوية الشريفة فيها دلالة واضحة على تعددية الطرق إلى الله تعالى وتأكيد لمقوله ( الطرائق بعدد أنفاس الخلائق ) .
المنبع والفروع
يرى الشيخ محمد الكسنـزان : ان الطرائق إلى الله تعالى وان تعددت فهي في كل زمان لا بد ان تنبع من مصدر واحد هو الرسول الأعظم او وارثه الروحي ، ولا بد ان تنتهي إلى غاية واحدة هي الوصول إلى الله تعالى ، وكل طريقة لا تنبع من ذلك المصدر ولا تنتهي إلى تلك الغاية فلا تسمى طريقة إسلامية شرعية .
كان رسول الله يعلم الصحابة الكرام السبل والطرائق التي توصلهم إلى الله تعالى ، فكل صحابي جليل كان له طريق خاص به يتناسب مع حاله واستعداده الروحي والعقلي في التعامل مع الله ، وقد اكتسب ذلك الطريق ببركة صحبته لرسول الله ﷺ ، فهناك من يتقرب إلى الله تعالى عن طريق الاجتهاد في الدعوة أو الصدقات أو العلم أو الجهاد كل واحد بطريقته ، ومن ذلك ما روي عن حذيفة بن اليمان ﷺ انه كان يهوى السؤال عن الشر خوفا من الوقوع فيه ، فأعطي سرا ربانيا يعلم به أسماء المنافقين كلهم وأحوالهم ، ويعلم المعضلات والملاحم والفتن إلى آخر الزمان (12). وهكذا كان الصحابة الكرام ﷺ كلهم أصحاب طريقة ، فقد اشتهروا بتطبيق العبادات الظاهرة ، كما اشتهروا بالزهد والورع والتقوى والإخلاص والمحبة وكل الأحكام الباطنة ، وكانوا مرتبطين بحضرة الرسول روحياً ، فكانوا يحبونه ويفضلونه على أنفسهم وكل ما يملكون ، وكان يزكي نفوسهم ويطهر قلوبهم من طريق الدعاء أو اللمس أو النظر … فكانوا ( رضوان الله عليهم ) ببركاته وهمته النورانية يسيرون في تطبيق الشريعة تطبيقاً كاملاً .
وبعد رسول الله ﷺ كان الوارث الروحي المحمدي هو حضرة الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه هو المستخلف على هذا الإرث الرباني ، فكان المركز الروحي الذي تتفرع منه الطرق « وينتسب إليه جميع أهل الطريقة فهو أستاذهم واليه تعود جميع الطرق الصوفية »(13) بعد رسول الله ﷺ ، والى ذلك أشار حبر الأمة عبد الله بن عباس حين قال : « ان كل ما عندنا من علم التفسير ومتعلقاته مأخوذة من علي ، وإننا كنقطة من بحر علمه »(14) ، وهو أيضا ما أكده شيخ الطائفتين الجنيد البغدادي
بقوله : « صاحبنا في هذا الأمر ( الطريقة ) بعد النبي علي بن ابي طالب ﷺ ، ذلك أمرؤ أعطي علما لَدُّنا »(15).
اذاً ، كان الإمام علي بن ابي طالب ﷺ هو المنبع الذي تتفرع من تعليماته وتوجيهاته الطرق والمناهج التي توصل عباد الله إلى الله تعالى ، وهكذا وبعد انتقاله إلى الآخرة ، تناوب على حمل هذه الأمانه أئمة المسلمين وشيوخها العارفين الكاملين ، أمثال الغوث الكيلاني والسيد احمد الرفاعي الكبير والسيد الشيخ الغوث عبد الكريم شاه الكسنـزان ( قدس الله أسرارهم أجمعين ) .
ان الطريقة التي حمل أمانتها هؤلاء المشايخ الكاملين تختلف عن غيرها من طرق العباد في مسألة جوهرية وأساسية ، وهي الأذن الرباني بدليل انتشارها في كافة أرجاء الأمة الإسلامية ، فطرق غيرهم من العباد ما هي الا اجتهادات شخصية ، ان طابقت أركان الدين الإسلامي الثلاثة ( الإسلام والإيمان والإحسان ) فبها ، والا فهي مردوده على صاحبها وهو يتحمل مسؤوليتها . فللمسلم الخيار في ان يجتهد في طاعته وعبادته بالطريقة التي يراها مناسبة لتحقيق أركان دينه ، وهو يتحمل نتائج صحتها او بطلانها ، أو ان يذهب إلى احد المشايخ الكاملين ، ويأخذ طريقته المأذون بها من الله تعالى ورسوله ليعاهد شيخها على السير بها وتطبيق أوامرها ونواهيها ، ووقتها تقع مسؤولية تربية المريد على عاتق الشيخ من الناحية الشرعية وترقيته من الناحية الروحية بالتدريج بحسب استعداده وحاله ، اقتداءا بحضرة المصطفى ﷺ الذي كان يفعل ذلك من أصحابه الكرام .
وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية وضرورة ان يلتمس المسلم طريقة الشيخ الكامل ليأخذها ويسير على منهاجها لأنها مأذونه ومضمونة ، فلو انه سار على ما يراه مناسبا او ما تأمره به نفسه ، فما الذي يضمن له انه يسير على الطريق الصحيح وانه لا يتبع هواه ..
ان من اخطر القدرات التي تملكها النفس الإنسانية انها تستطيع ان تسخر العقل لخلق المبررات لأفعالها ، والعقل إذا سُخَر للنفس أخضع الإنسان بجمعيته لها . فكل ما يقوم به الإنسان يخيل إليه أن مصدره عقلاني مطابق للشريعة ، وهو في الواقع نفساني ، وهذه النقطة الخطرة نبه عليها مشايخ الطريقة وذهبوا إلى التحذير من هيمنة النفس التي تظهر على مستوى ( إرادتها ) فهي تريد كذا ، لذا تزين بالمبررات العقلية أهمية ما تريده وضرورته ، وتنفي بعقلانية واضحة كل أثر للنفس في هذه ( الإرادة ) بل قد تذهب إلى أبعد من ذلك فتظهر انتفاء الأنانية ووضوح الإيثار في هذه ( الإرادة ) بالذات . وهذا واضح ومعروف لمن خبر ( النفس ) وتلمس مداخلها . لذلك رأى مشايخ الطريقة أن أصوب الطرق في محاربة النفس هو تسليم هذه ( الإرادة) إلى ( غير ) ، فلا يكون للنفس في هذه الإرادة نصيب . فتضعف النفس تدريجياً على مستوى الشهوات وتبرز ( الروح ) في الإنسان . وهذا ( الغير ) الذي تسلمه الذات ( إرادتها ) هو المشار إليه عند أهل الطريقة ( بالشيخ ) فهو الدليل في سفر الإنسان إلى معرفة الحق … وهو مربٍ يشذب شطحات النفس … وهو مؤدب يُعدّ المريد للوقوف بين يدي الحضرة بما يليق بآدابها … يقول حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني في أسلوب التربية الذي يتبعه المشايخ الكاملين مع مريديهم ، ان الشيخ يقبل المريد لله عز وجل لا لنفسه ، فيعاشره بحكم النصيحة ويلاحظه بين الشفقة ويلاينه بالرفق عند عجزه عن احتمال الرياضة فيربيه تربية الوالدة لولدها والوالد الشفيق الحكيم اللبيب لولده وغلامه فيأخذه بالأسهل ولا يحمله ما لا طاقة له به ثم بالأشد فيأمره أولا بترك متابعة الطبع في جميع أموره وإتباع رخص الشرع حتى يخرج بذلك عن قيد الطبع وحكمه ويحصل في قيد الشرع ورقه ثم ينقله من الرخص إلى العزيمة شيئا بعد شيء فيمحو خصلة من الرخص ويثبت مكانها خصلة من العزيمة فان وجد ابتداء أمره فيه صدق المجاهدة والعزيمة وتفرس فيه ذلك بنور الله عز وجل ومكاشفة وعلم من قبل الله عز وجل على ما قد مضت سنّة الله في عباده المؤمنين من الأولياء والأحباب الأمناء العلماء به فحينئذ لا يسامحه في شيء من ذلك بل يأخذه بالأشد … ويصغر في عينه أحواله وأعماله لئلا يهلك فإن العجب يسقط العبد من عين الله عز وجل (16). فهذا شيء لا يكاد يذكر مما يقول به أهل الطريقة من أهمية الشيخ وضرورته في تقويم الحياة الروحية للمريد . وما نبه عليه مشايخ الطريقة من أهمية ان يتحول الإنسان من طريقته الخاصة في العبادة إلى طريقة شيخ عارف كامل خبر الطريق ومسالكه وعرف مداخله ومخارجه ، استنبطوه من عدة نصوص قرآنية منها ، قوله تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (17) فإتباع الرسول الأعظم ﷺ في حياته كان متمثلا بإتباع شخصه الكريم وبعد انتقاله يكون بإتباع ورثته الروحيين (18) . ومنها قوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) (19) أي استعلم عنه من هو خبير به، عالم به، فاتبعه واقتد به ، كما يقول ابن كثير في تفسيره . ومنها قوله تعالى : ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ )(20) ، وقد جاء في التفسير الكبير لفخر الدين الرزاي ان هذه الكلمة ، كلمة جامعة في كل ما يتعلق بالعقائد والأعمال ، سواء كان مختصاً به أو كان متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشرائع، ولا شك أن البقاء على الاستقامة الحقيقية عسير جدا .
« عن ابن عباس: ما نزلت على رسول الله ﷺ في جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : شيبتني هود وأخواتها (21). وعن بعضهم قال : رأيت النبي ﷺ و سلمفي النوم فقلت له : روي عنك أنك قلت شيبتني هود وأخواتها فقال: نعم .
فقلت : وبأي آية ؟
فقال بقوله : فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ (22) »(23).
وغير ذلك من الآيات الكريمة الدالة على ضرورة ان يبحث الإنسان عن الخبير الذي وهبه الله تعالى علما لدنيا واختصاصا ربانيا ليرشد الناس إلى بابه ويهديهم إلى طريقه المستقيم ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )(24). ان البحث عن الولي المرشد لغرض أتباعه والاستفادة من علومه وأسراره لهو من المنازل التي يختص الله تعالى بها عباده المكرمين ، وقد سعى للعمل به كليم الله موسى ، حين أراد صحبة العبد الصالح : ( قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) (25) والقصة معروفة ، وهي توضح ان الإنسان مهما بلغت مراتبه العلمية والدينية يحتاج إلى الولي المرشد الذي يهديه سواء السبيل ، ولهذا يصف حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني المشايخ بأنهم « الطريق إلى الله ، والأدلاء عليه والباب الذي يُدخل منه إليه »(26) ، وانما كانوا طريقا إلى لله لأن كل حركاتهم وسكناتهم وأقوالهم وأفعالهم بأمر الله تعالى وأذنه كما اخبرنا الخضر حين قال : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا )(27) وهكذا هم أولياء الله يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بأذن الله تعالى وأمره . واذا كان شيخ الطريقة كما يقول حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني : من اذا صحت صحبة المريد له ، لقمه ورقه من ما في قلبه من طعام المعرفة وشرابها (28) وكما يقول الشيخ احمد الرفاعي الكبير هو « من إذا نصحك أفهمك ، وإذا قادك دلك ، وإذا أخذك نهض بك .. هو من يلزمك الكتاب والسنة ، ويبعدك عن المحدثة والبدعة .. ظاهره الشرع ، وباطنه الشرع »(29) فالأولى التسليم له والسير على طريقته فهي الأسهل والأقصر للوصول إلى الله تعالى .
———————————–
الهوامش :
[1] – انظر : الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية – الشيخ محمد الكسنـزان – صنعاء – ص 78-79
[2] – جزء من حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه – دار إحياء التراث العربي – بيروت – ج1 ص 39 .
[3] – المحدث محمد صديق الغماري – الانتصار لطريق الصوفية – ص 6 .
[4] – المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي – تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود – دار الكتب الحديثة – ص 195 – 196 .
[5] – رواه الإمام مسلم – باب الزكاة – ج2 ص 721 .
[6] – النور الخالد محمد صلى الله تعالى عليه و سلم مفخرة الإنسانية – محمد فتح الله كولن – دار النيل – القاهرة – ج1 ص 408 .
[7] – الفتح : 10 .
[8] – النساء : 80 .
[9] – رزأ الرجل ماله : أصاب منه شيئا مهما ، المنجد في اللغة والأعلام – منشورات دار المشرق – بيروت – ط29 – ص 257 .
[10] – صحيح البخاري – كتاب فرض الخمس – تحقيق الدكتور مصطفى ديب البغا – دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت – ط3 – 1987 – ج3 ص 1145 .
[11] – الترمذي – كتاب الدعوات – دار احياء التراث العربي – بيروت – ج5 ص 458 .
[12] – نقل عنه انّه قال : ( كان الناس يسألون رسول اللّه عن الخير وكنت أسأله الشر مخافة أن يدركني ) رواه البخاري – ج3 ص 1319.
وقد سئل الإمام عليّ عنه فقال: «عَلِمَ المنافقين، وسئل عن المعضلات، فإن تسألوه تجدوه بها عالماً» – تحفة العلماء بترتيب سير اعلام النبلاء – الذهبي – مؤسسة الرسالة – بيروت – ط9 – 1413 هـ – ج2 ص 363ـ366 .
[13] – الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية – الشيخ محمد الكسنـزان – ص 120 .
[14] – البرهان الجلي في تحقيق انتساب الصوفية إلى علي – المحدث احمد بن محمد بن الصديق الغماري – مطبعة السعادة – مصر – ط1 – 1960 – ص 89 .
[15] – المصدر نفسه – ص 89 .
[16] – انظر : الغنية لطالبي طريق الحق عزّ وجل في معرفة الآداب الشرعية – الشيخ عبد القادر الكيلاني – دار الحرية – بغداد – 1988 – ج2 ص 571 .
[17] – آل عمران : 31 .
[18] – الوارث الروحي المحمدي : هو من اخذ علوم الشريعة والطريقة على يد شيخ كامل وارث محمدي حياً عن حي إلى حضرة الرسول الأعظم ، وهو وحيد في زمانه وان تعدد المشايخ الكاملين .
[19] – الرحمن : 59 .
[20] – هود : 112 .
[21] – مجمع الزوائد – علي بن ابي بكر الهيثمي – دار الريان للتراث ، دار الكتاب العربي – القاهرة – سنة 1407 هـ- ج7 ص 37 .
[22] – هود : 112 .
[23] – التفسير الكبير أو ( مفاتيح الغيب ) – الامام فخر الدين الرازي – تحقيق عماد زكي البارودي – المكتبة التوفيقية – القاهرة – ط1- ج18ص 57 .
[24] – الشورى : 52 .
[25] – الكهف : 66 .
[26] – الغنية لطالبي طريق الحق في معرفة الآداب الشرعية – الشيخ عبد القادر الكيلاني – دار الحرية للطباعة – بغداد – 1988 – ج 2 ص 568 .
[27] – الكهف : 82 .
[28] – جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر الكيلاني – الناشر الشيخ محمد الكسنـزان – عشتار للطباعة والنشر – بغداد – 1989 – ص 9 .
[29] – الحكم الرفاعية – الشيخ أحمد الرفاعي الكبير – اعداد ياسر سعدي ابراهيم مكتبة الشرق الجديد – بغداد – 1990 – ص 7 .