نقول : إن حب حضرة الرسول الأعظم ، والذي هو مقياس الإيمان الحقيقي ليس مجرد ذكره باللسان ، بل هو نور يستقر في القلب ويملؤه ، فإذا استقر فيه رأيت آثار ذلك النور ظاهرة على المؤمن فيكثر من ذكره وتعظيمه وتقديره والثناء عليه بما يناسب قدره المطهر . وترى المحب ولوعاً بالصلاة عليه ، حريصاً على اتباعه وإحياء سنته . لقد كان أصحاب النبي على قدر كبير من هذه المحبة ، فكانوا يؤثرونه على كل ما يحبون ، وكانوا في غاية الأدب عند صحبته ومجالسته ، وكأن على رؤوسهم الطير ، وكانوا يتبركون بآثاره ويتزاحمون للحصول على ريقه وعرقه وفضل شرابه ووضوءه ، وكانوا يتحرّون مواضع زوله وجلوسه وصلاته ويتبعون مواضع يده من الطعام ويحتفظون بآثاره التي هي عندهم أغلى وأفضل من كل شيء وبهذا وصفهم عدوهم بعد رجوعه من مفاوضة صلح الحديبية إذ قال لقومه : ( والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي فما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظمون أصحاب محمد محمداً ، إذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على فضلة وضوءه ، واذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيماً له ولم تقع نخامة له إلا في يد رجل يدلك بها )(1) .
والرسول يرى ذلك ولا ينكره ، وكيف ينكر ما من شأنه أن يقوي نور الإيمان في قلوب أصحابه ؟
من الشواهد على ما تركه حضرة الرسول من آثار نورانية في الأشياء تبرك بها وتعلق الصحابة والتابعين ومن تبعهم ، نذكر ما يأتي :
أثر شعره والتبرك به
عن أنسقال : رأيت رسول الله والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا وفي يد رجل (2) .
وكان خالد بن الوليد قد فقد قلنسوته في أحد المعارك فقاتل أشد القتال حتى استعادها ثم سئل فقال : إنها تحوي شعرتين من شعر رسول الله وبهما كنت أتبرك وانتصر .
وعن أم سلمة زوج النبي أنها تحتفظ من شعر النبي في جلجل لها ( يشبه القارورة يحفظ به ما يراد صيانته ) فكان إذا أصاب أحداً من الصحابة عين أو إذى أرسل إليها إناء فيه ماء فجعلت الشعرات في الماء ثم أخذوا الماء يشربونه توسلاً للاستشفاء والتبرك به (3) .
عن أنس بن مالك أن النبي … أتى الجمرة فرماها ثم أتى منـزله بمنى ونحر وقال للحلاق : خذ . وأشار إلى جانبه الأيمن ، ثم الأيسر ، ثم جعل يعطيه الناس (4).
يروي عبد الله عن أبيه أحمد بن حنبل فيقول : رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر
النبي فيضعها على فيه ويقبلها وأحسب أني رأيته يضعها على عينيه ويغمسها في الماء ويشربه يستشفي به ، ولما كانت محنته العصيبة ، كانت ثلاث شعرات من شعر
الرسول معه وكانت هي عزاءه وسلواه ، وظن أنه سيلقى الله في ذلك الوقت فأراد أن يكون هذا الأثر المبارك شاهداً له عند ربه على تعلقه بحب رسول الله ، وبعد أن أنجاه الله تعالى من محنته احتفظ بتلك الشعرات المباركات وأوصى أن توضع بعد موته ، شعرة في عينه اليمنى وتوضع الأخرى في الأخرى وأما الثالثة ففي فمه ثم يدفن (5).
أثره فيمن يلمسه
عن عون عن أبيه أبي جحيفة قال في آخر حديث طويل : ( فقام الناس وجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم – يعني الرسول – قال فأخذت بيده ووضعتها على وجهي فإذا هي ابرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك ) (6).
وعن صفية بن مجزاة أن أبا محذور كانت له قَصّة في مقدم رأسه إذا قعد أرسلها فتبلغ الأرض ، فقالوا له ألا تحلقها فقال : إن رسول الله مسح عليها بيده فلم أكن لأحلقها حتى أموت(7) .
قال ثابت لأنس : أمسست النبي بيدك ؟
قال : نعم ، فقبلها (8).
عن عبد الرحمن بن رزين قال : مررنا بالربذة فقيل لنا : ههنا سلمة بن الأكوع ( وهو صحابي جليل عاش مع رسول الله ) فأتيناه فسلمنا عليه فأخرج يده فقال : بايعت بهاتين نبي الله ، فأخرج له كفاً كأنها كف بعير ، فقمنا اليها فقبلناها (9) .
أثره فيما لمسه من الأشياء
روى الترمذي بسنده عن كبشة قالت : دخل عليّ رسول الله فشرب من قربة معلقة قائمة فقمت إلى فيها فقطعته (10).
كان أبو أيوب الأنصاري يحدث عن ايام رسول الله لما نزل في بيته فقال :
( كنا نضع له العشاء ثم نبعث به إليه فإذا ردّ علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة ) (11).
وعن ابي بردة قال : قدمت المدينة فلقيني عبد الله بن سلام فقال لي : انطلق إلى المنـزل فأسقيك من قدح شرب فيه النبي فانطلقت معه فسقاني وأطعمني تمراً وصليت في مسجده (12) .
وكان عبد الله بن عمر يلمس منبر النبي ويتبرك به .
أثر جبته والتبرك بها
في الصحيح عن أسماء بنت ابي بكر أنها أخرجت جبة وقالت : كان رسول الله يلبسها فنحن نغسلها للمرضى ليستشفوا بها ، وكانوا يفعلون ذلك فيشفون (13).
أثر وضوءه ولمسه الماء والتبرك به
في صحيح مسلم وشمائل الترمذي أنه كان إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يأتونه إلا غمس يده الشريفة فيه ، وربما كان ذلك في الغداة الباردة فيغمس يده في الماء ولا يردهم خائبين .
أخرج البخاري عن أبي جحيفة قال : خرج علينا رسول الله بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ ، فجعل الناس يأخذون من فضل ماء وضوءه فيتمسحون بها .
عن السائب بن يزيد قال : ذهبت بي خالتي إلى الرسول فقالت : يا رسول الله : إن ابن اختي وجع ، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة ، ثم توضأ فشربت من وضوئه .
أثر دمه والتبرك به
ذكر القاضي عياض أن مالكاً بن سنان t مص دم النبي يوم أحد فقال : لن تصيبه النار .
أثر عرقه والتبرك به
أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أنس أن رسول الله كان يدخل على بيت ام سليم فينام على فراشها وليست فيه ، فجاء ذات يوم ونام على فراشها فأتت فقيل لها : هذا النبي نائم في بيتك على فراشك فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش ففتحت عتيدتها فجعلت تنشق ذلك العرق في قواريرها ، ففزع النبي فقال : ما تصنعين يا أم سليم ؟ قالت : يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا ، قال : أصبت .
أثر تراب مقامه والتبرك به
روي أن السيدة فاطمة بنت رسول الله قبّلت تراب مقام الرسول عند زيارتها له .
وعن داود بن أبي صالح قال : « أقبل مروان فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر فأخذ برقبته وقال : أتدري ما تصنع ؟
قال : نعم فأقبل عليه ، فإذا هو أبو أيوب الأنصاري .
فقال : نعم جئت رسول الله ولم آت الحجر »(14) .
وقال السمهودي في وفاء الوفاء ما نصه : « لما قدم بلال لزيارة النبي أتى القبر فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه »(15) .
أثر نعله والتبرك به
كان ابن مسعود من أطيب الناس ريحاً ، تعظيماً لنعل الرسول إذا حمله ، وكان هو الذي يلبس رسول الله نعليه ويمشي أمامه بالعصا حتى يدخل أمامه الحجرة ، فإذا أتى رسول الله مجلسه نزع نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا (16).
يتبين مما تقدم أن الصحابة والتابعين كانوا سباقين بالتبرك بآثار
الرسول وأدواته ولم ينه حضرته عن ذلك ، بل على العكس وجدنا حضرته يحث عليها ويبارك فيها لتتنور بها قلوب المحبين له وتزداد تقىً ، فالتبرك بآثاره من شعائر الله التي تعظيمها من تقوى القلوب .
آثار المشايخ والتبرك بها
ذكر الخطيب في تأريخه أن الإمام الشافعي كان يتبرك بزيارة قبر أبي حنيفة مدة إقامته بالعراق .
روي أن الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي أصيب بدمل أعجزه علاجه فمسح به قبر الإمام أحمد بن حنبل فبريء .
قال الحافظ العراقي روينا أن الإمام أحمد بن حنبل تبرك بالشرب من ماء غسل فيه قميص الإمام الشافعي .
وبكل ما تقدم تبين جواز التبرك بآثار المشايخ الكرام وأولياء الله كما يجوز التوسل إلى الله تعالى بمقاماتهم عنده سبحانه وتعالى .
فائدة صوفية
للمريد أن يتبرك بآثار شيخه ، وليس هناك فرق بكثرة المأخوذ أو قلته ، فالبركة النورانية واحدة موجوده في أدق جزئيات الأثر وكل شيء أو مكان حل فيه الشيخ الكامل تحل فيه البركة وتدوم .
________________________________
الهوامش:
[1] – صحيح البخاري ج: 2 ص: 976
[2] – صحيح مسلم ج: 4 ص: 1812 برقم 2325
[3] – الشيخ أبي الفرج بن الجوزي – المناقب .
[4] – صحيح مسلم ج 2 ص 947 برقم 1305
[5] – محمد بن احمد الذهبي – سير اعلام النبلاء – ج11 ص 212 .
[6] – رواه البخاري – ج2 ص165 .
[7] – المستدرك على الصحيحين ج: 3 ص: 589 برقم 6181.
[8] – الأدب المفرد ج: 1 ص: 338برقم 974.
[9] – الأدب المفرد ج: 1 ص: 338برقم 973 .
[10] – سنن الترمذي ج: 4 ص: 306 برقم 1892 .
[11] – ابن هشام – السيرة النبوية ج: 3 ص: 28.
[12] – صحيح البخاري – حديث رقم 7342 .
[13] – صحيح مسلم / كتاب اللباس والزينة ( 3 / 145 ) .
[14] – المستدرك على الصحيحين ج: 4 ص: 560 برقم 8571 .
[15] – الشيخ يوسف خطار محمد – الموسوعة اليوسفية في بيان أدلة الصوفية – ص 156 .
[16] – الشيخ عبد الوهاب الشعراني – الطبقات الكبرى – ج1 ص22 .
المصدر : السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان ج3 .