محمد الخفاجي
مرة أخرى، يموت عشرات الحجاج متدافعين على جسر الجمرات، على الرغم أن موسم الحج هذه السنة كان بشهادة الجميع حسن التنظيم، دقيق التسيير.
حضرت الموسم عدة مرات، وقد أدركت دوما أن الثغرة الكبرى في تنظيم الحج تعود لتقاعس العلماء والفقهاء المسلمين عن تقديم الحلول الشرعية للإشكالات المطروحة اليوم التي لا يمكن للحجاج أن ينتظروا من سلطات الإشراف والرعاية حلها، لأنها تتعلق بأمور تعبدية شعائرية، وليس باعتبارات تنظيمية محض.
ومن بين هذه الأمور، المواقيت المكانية للحجاج التي حددت بالنص في مرحلة تاريخية بحسب مسالك التنقل أوانها، في حين أن مطار جدة يشكل اليوم مدخل أغلب حجاج العالم، ولا يزال أغلب الفقهاء يحجم عن الإفتاء بجواز اتخاذ جدة ميقاتا لغير سكانها، مما يطرح مشاكل تنظيمية وإجرائية معقدة على قاصدي البيت العتيق. بيد أن الإشكال الأكبر المطروح على الحجاج، يتعلق برمي الجمرات أيام التشريق قبل الزوال، الذي كان خلال السنوات الأخيرة المصدر الأول لمآسي الحج. فعلى الرغم أن المسألة خلافية وليست أبدا موضوع إجماع، إلا أن أغلب الفقهاء لا يزالون يشددون على ضرورة الالتزام بالحكم المشهور السائد، ولو كان الثمن مئات الأرواح الطاهرة، غير واعين باستحالة مرور مليوني حاج على الجسر في لحظات لا تتجاوز عادة الست ساعات.
ان هذه الرؤية القاصرة تحيل في الحقيقة إلى خلل خطير في المنهج التأويلي وآليات قراءة النص وتنزيله على الواقع.
ونلمس الخلل ذاته في كثير من الأمور الجوهرية التي تطرح اليوم على وعي المسلم المعاصر الحريص في آن واحد على التمسك بعقيدته ودينه والاندماج في عصره وواقعه المعيش من دون انفصام فكري أو وجودي.
وفي مقدمة هذه التحديات، المسائل التشريعية والاقتصادية التي لا تزال هي الجانب الأضعف في الاجتهادات الفقهية الحديثة.
ومع أن جل فقهائنا في المجامع وغيرها يتحدثون بصفة واسعة عن فتح باب الاجتهاد، وترسيخ روح التجديد، إلا أنهم نادرا ما يتعاملون بجد مع استحقاقات هذا الموقف الاجتهادي التجديدي، الذي يتطلب جهدا تأويليا ومنهجيا يتجاوز مجرد تخريج حديث أو ترجيح قول قديم أو استثمار آلية أصولية معطلة.
وإذا غضضنا الطرف عن الطبقة الرافضة للتجديد، المتمسكة بالموروث الفقهي كما قنن في كتب المذاهب المعتمدة، ووجهنا النظر إلى الفئة المتسمية بالمجددين، أمكننا التمييز داخلها بين ثلاثة اتجاهات:
ـ اتجاه يسعى لاستثمار ثراء وتنوع الموروث الفقهي، بحثا عن أقوال وأحكام قابلة للتحديث والتحيين وفق معطيات اللحظة الراهنة، من دون خروج عن البنية المذهبية القائمة.
ـ اتجاه آخر يركز على الأدوات والآليات الأصولية، كما قننها العلماء الأقدمون، معتبرين أن فيها من المرونة والخصوبة ما يمكن أن يدفع باب الاجتهاد، ويوفر الحلول الناجعة لمشاكل المسلمين اليوم.
ـ اتجاه ثالث يتبنى تجديد الفقه بالعمل على بناء منظومة أصولية جديدة، لا تزال غير واضحة المعالم، تتأرجح بين التركيز على الأبعاد المقاصدية في الدين والميل للترخيص والتيسير، وفق ما أصبح يدعى بفقه الأولويات أو فقه الواقع.
وقد ظهر في التقليد الشيعي وحده (الإيراني على الأخص)، اتجاه أبعد نظرا وأشمل مدى لتجاوز النسق الفقهي ـ الأصولي الوسيط ذاته، بالعمل على وضع فلسفة جديدة للفقه، تعتمد على عدة تأويلية معاصرة وآليات منهجية مستوحاة من العلوم الانسانية الحديثة، ولا يزال هذا المجهود في بدايته.
ان المقاربات الثلاث التي أشرنا إليها، تتفق على اختلافها في محددين أساسيين هما من جهة: التقيد بمرجعية وسلطة المنظومة الفقهية ـ الاصولية التقليدية على تباين في نمط التقيد بها. ومن جهة أخرى، التحرج من أدوات وآليات القراءة والتأويل المعاصرة التي خرجت في مجملها من هرمنوطيقا النص الديني.
صحيح أن بعض المحاولات الجزئية قد برزت في السنوات الأخيرة، من بينها مشروع «الفقه الجديد» الذي طرحه جمال البنا (شقيق الامام حسن البنا، مؤسس حركة الاخوان المسلمين)، وبعض المعالجات الصادرة عن معهد الفكر الإسلامي بواشنطن عن طه جابر العلواني وعبد الحميد أبو سلميان خصوصا، إلا أن هذه المحاولات ظلت محدودة الأثر والفاعلية، كما أن بعض المفكرين الذين لا ينتمون إلى المدرسة الفقهية قد تقدموا ببعض الأطروحات التجديدية، ومن بينها أطروحة «الاجتهاد وفق السهم الموجه» لدى محمد الطالبي (أي تغليب مقصد الحكم واتجاهه على حرفيته)، و مقاربات محمد عابد الجابري (في نقده للعقل العربي)، وطه عبد الرحمن في مشروعه لبناء منظومة تأويلية وفق نظريات اللغة والمنطق المعاصرة.
إلا أن هذه المحاولات، على أهميتها، لم تلق قبولا واسعا من الفقهاء، ولم تنفذ إلى حقل الدراسات الشرعية.
ولا يزال رفض الاستفادة من العلوم المعاصرة، في استثمار دلالات النص قائما لدى أغلب فقهائنا، على الرغم من المحاولات الجيدة التي يبذلها بعض الفقهاء المتنورين من داخل حقل الدراسات الشرعية، من أمثال عبد العزيز القاسم، ورضوان السيد، وعبد المجيد التركي…
كان المفكر الإسلامي السويسري طارق رمضان (ابن الداعية الاسلامي المصري سعيد رمضان)، قد طالب قبل أشهر بفتح حوار واسع بين الفقهاء حول تطبيق الحدود الجنائية وتعليق تطبيق هذه الحدود إلى أن يبت علماء الاسلام في قابلية تطبيقها في العصر الحاضر (لا رفضا ولا تنكرا لها). وقد جرّت هذه المبادرة التي لم تتضمن حكما أو فتوى، حملة شرسة على الرجل الذي كان يصارع وقتها اللوبي الصهيوني في أمريكا وأوروبا باعتباره أصوليا متطرفا.
كما أن فتوى شيخ الازهر الطنطاوي حول فوائد البنوك قد جرّت عليه في بلاده وباقي العالم الاسلامي حملة لم تنقطع بعد، على الرغم أن الرجل وضع اصبعه على أحد جراح المسلمين الحادة، في الوقت الذي لم يتمكن فيه بعد فقهاؤنا من تطوير ناجع لآليات وأدوات النظام المصرفي الاسلامي في عالم توحدت منظومته الاقتصادية.
إن ما نريد أن نخلص إليه في هذه الملاحظات النقدية التي تناولت الرصيد الاجتهادي لفقهائنا الكرام، هو مجرد التنبيه إلى المسافة المتزايدة بين حركية التجديد الفقهي وديناميكية واقع المسلمين المتغير، مع إيماننا القوي بقابلية ديننا للتجدد وقدرة علمائنا على تجديده.
المصدر : موقع الشرق الاوسط .
http://www.asharqalawsat.com/leader.asp?section=3&article=344058&issue=9914