يمكن أن نلخص الأهداف التي يبتغيها المشايخ من وراء إظهار فعاليات الدروشة بالنقاط التالية :
1. لإثبات وجود الله تعالى بالنسبة للملحدين
فحين يرى الملحد من الدهريين وغيرهم مثل هذه الفعاليات ، ويتأكد بوسائله العلمية الحديثة ، أن ما يراه ويسمعه ويلمسه بيده هو أفعال حقيقية ، وليست من جنس الألعاب السحرية أو غيرها ، فحينها نطرح عليه السؤال
التالي :
هل أن ما تراه من فعل الطبيعة ؟
فإن قال: نعم . فإننا نطلب منه أن يأت بمثله ، فان عجز ألزمناه بتفسير قائم على أساس بينة عملية ، فإن عجز يصبح ملزم عقلاً بتصديق تفسيرنا لما يحدث ، وهو أن وراء هذا الكون خالقاً عظيماً ، الله تعالى ، وان ما يراه ما هو إلا أثر بسيط من آثار هذا الخالق ، فمن يخلق القانون الطبيعي هو وحده قادر أن يخرق هذا القانون متى يشاء ، وكيف يشاء ، وعلى يد من يشاء .
إذاً أول أهداف الضرب (فعاليات الدروشة) هو إثبات وجود ذات الله سبحانه وتعالى .
2. لإثبات وحدانية الله تعالى بالنسبة للمشركين
فلو أن هناك من اله غير الله فليأت ببرهان مماثل ، أو يناقض هذه الفعاليات إن استطاع لذلك سبيلا ، وأنّى لمشرك أن يستطيع ذلك. وعلى هذا فالضرب برهان قاطع على وحدانية الله تعالى .
وإذا كان المسلمون في بلدانهم لا يجدون حاجة إلى مثل هكذا برهان بفضل ما مَنّ الحق تعالى عليهم بنعمة الإسلام ، فإنه في كثير من بلدان العالم لا تزال تعبد الأحجار والأبقار ، وتؤمن بالخرافات والأساطير ، بالرغم من تمدنها في بعض الجوانب الحضارية .
3. لإثبات نبوة سيدنا محمد ﷺ بالنسبة للكافرين
إن فعاليات الدروشة لكونها فعاليات حقيقية خارقة للطبيعة لا يمكن تفسيرها بأي تفسير مخالف لحقيقتها الذاتية ، ومن يأت بخلاف ذلك فعليه إثبات صحة دعواه ، وإذا عجز الكافر برسالة سيدنا محمد r عجز الملحد والمشرك عن الإيتاء بالمثل أو التفسير المبرهن ، يصبح ملزماً بالضرورة بقبول تفسير صاحب الخارقة ، فما هو تفسير مشايخ الطريقة لهذه الفعاليات ؟ وما علاقتها بإثبات نبوة سيدنا محمد ﷺ ؟
والجواب: أن العالم الإسلامي كله ذهب إلى القول بأن: « كل كرامة لولي فهي معجزة لنبيه ، لأنه إنما نالها ببركة إتباعه » (1) .
وعلى هذا فإن كل ما يرى من فعاليات ضرب الدراويش لأنفسهم وسلامتهم الفورية من تلك الضربات ما هو إلا امتداد لمعجزات حضرة الرسول الأعظم ﷺ ، ومعلوم بالضرورة أن المعجزات تثبت صحة النبوة في وقتها ، والكرامات تثبت استمرار تلك النبوة ، فهل يستطيع المؤمن بالله من بقية الأديان السماوية ، المنكر لرسالة نبينا محمد ﷺ أن يأت بكرامة تثبت استمرار نبوة النبي الذي يتبعه ؟
إن ظهور هذه الكرامات بهذه الكيفية لأنصع برهان على بقاء حضرة الرسول الأعظم ﷺ حياً ، حاضراً وناظراً وشاهداً بيننا ، وإلا فلولا القوة الروحية التي يستمدها من الله تعالى ويمد بها أولياء أمته في كل لمحة ونفس لما نجا درويش من ابسط تلك الضربات والتي تعتبر قاتلة من الناحية الطبيعية .
إن (الضرب) برهان على صحة ديننا وصدق دعوى نبينا بأنه خاتم الأنبياء والمرسلين ، وأنه مرسل للكافة من الخلق أجمعين ، وعلى من يزعم خلاف ذلك أن يأت ببرهان كبرهاننا إن كان من الصادقين .
4. لإثبات ولاية المرشدين بالنسبة للمسلمين
من النقاط الثلاثة أعلاه اتضح أن الكرامات عموماً وفعاليات الدرباشة خصوصاً هي السبيل الوحيد في هذا الزمن لمواجهة دعاوى الإلحاد والشرك والكفر ، وإيقافها عند حدها ، فعلى من يدعي من الكفار خلاف ذلك أن يأت ببرهان وإلا فهو فارغ لا يستحق حتى الحوار معه ، وهي في نفس الوقت دعوة له ليؤمن بالله ورسوله محمد ﷺ .
ولربما يتساءل المسلمون قائلين:
وما لنا نحن وللبرهان على ذلك فنحن نؤمن بالله ورسوله ﷺ ، فلم تعرض مثل هذه الفعاليات حتى على المسلمين ؟
فنقول: يلزم كل مسلم أن يكون له عالم من فقهاء الأمة وعارف بالله من مشايخ الطريقة .
فأما العالم فلكي يأخذ منه فقه العبادات والمعاملات أي أحكام الشريعة التي تتعلق بظاهره . وأما العارف فلكي يأخذ منه فقه القلب والمكاشفات ، أي أحكام الشريعة المتعلقة بباطنه .
فللشريعة الإسلامية ظاهر تخصص به فقهاء المذاهب الإسلامية ، وباطن تخصص به مشايخ الطرق الصوفية .
إن تخصص مشايخ الطريقة بإذن من الله تعالى في الجانب الروحي من الدين يعني إنهم أصبحوا مؤهلين لتزكية النفوس وتطهير القلوب وترقية الأرواح إلى معارج القرب من الحبيب المحبوب .
وهذا يستلزم أن يكون العارف كما وصفه حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني صاحب نور إلهي ينظر به حيث قال: « إذا كان للمؤمن نور ينظر به كيف لا يكون للصديق المقرب ؟ المؤمن له نور ينظر به ، ولهذا حذر الرسول ﷺ من نظره فقال ﷺ : (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)(2).
والعارف المقرب أيضاً يعطى نوراً يرى فيه قربه من ربه ، ويرى ربه من قلبه .
فيرى أرواح الملائكة وأرواح النبيين وقلوب الصديقين وأرواحهم ، ويرى أحوالهم ومقاماتهم ، كل هذا في سويداء قلبه … وهو واسطة ، يأخذ منه ويفرق على الخلق »(3).
وكما يقول الشيخ الجنيد العارف: « من نطق عن سرك وأنت ساكت »(4) .
يشير الشيخ هنا إلى القوة الروحية التي تكون مصاحبة للأولياء المرشدين ، وهي امتداد للقوة الروحية التي كانت تصاحب الأنبياء والمرسلين ، باستثناء حيثيات النبوة . هذه القوة الروحية هي ما يحتاجه المسلم في كل زمان يقوى قلبه على المحبة والطاعة الكاملة لله ورسوله ، ولينـزرع الإيمان التحقيقي في قلبه .
هذه القوة الروحية بما فيها من فوائد وثمار لا حصر لها ، ليست من تخصص الفقهاء وإنما هي من تخصص الأولياء العارفين (مشايخ الطريقة) .
إن كل الثمار والأمور القلبية المشار إليها إنما هي أمور غيـبية ، أي غير ملموسة او مدركة بالحواس الخمسة ، نسميها أمور وجدانية ، او ذوقية ، ولكي يثبت صحة وجود هذه القوة الروحية عند الولي ، وانه ممد من الله تعالى بواسطة رسوله محمد r بها ، لابد من برهان يؤكد ذلك .
لا بد من دليل للمسلم يتأكد من خلاله أن من سيتبعه هو ولي مأذون له بالإرشاد ، ليكون باتباعه خارج عن حدود الضلالة:(وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً) (5) . فجاءت فعاليات الدروشة كأحد الوسائل التي تـثبت إن من يستطيع أن يمد المريد بالقوة الروحية التي تجعله لا يموت او يتأذى نتيجة لهذه الضربات، لهو قادر بإذن الله تعالى على أن يمد القلب بشحنات الإيمان النورانية ، التي تربطه الربط الصحيح بالله ورسولهﷺ .
إن الجانب الروحي من الدين الإسلامي والذي لا يؤخذ الا من طريق العارفين لا يقل أهمية عن الجانب الظاهر الذي يؤخذ من طريق العلماء ، بل ولعله أهم لأن الأعمال بالنيات ، يقول حضرة الرسول الأعظمﷺ : (في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها الجسد كله وإذا فسدت فسد لها الجسد كله ألا وهي القلب)(6) .
وصلاح القلب مقرون بالأولياء المرشدين وليس بالعلماء، لأن العلماء أنفسهم يحتاجون إلى العارفين كي يطهروا قلوبهم ، كما أن العارفين يعملون بفتاوى العلماء فيما يتعلق بظاهر أحكام الدين .
إن الإيمان والضلال محلهما القلب وليس الجوارح ، ولهذا فمن لا يتخذ ولياً مرشداً يخشى عليه من الضلال ، وان كان عاملاً بظواهر العبادات ، إذ أن أمراض القلوب من رياء وحسد وغيـبة ونفاق وعدم الإخلاص وغيرها هي مما يحبط الأعمال كائن ما كانت ، يقول تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) (7) .
وقد نص الحق تعالى على هذه الحقيقة بقوله: ( وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً) (8) ، واتخاذ الولي المرشد مقرون بمعرفته من بـين غيره من المتمشيخين ، وهذه المعرفة مقرونة بالبرهان العملي لا القولي فكانت فعاليات الدروشة ضرورية جداً للمسلم ، لكي يعرف من خلالها الولي المرشد الدال على الله بالله .
ولكي يعرف من خلالها أيضاً زيف من يدعي العلم والولاية بلا بينة او برهان .
فمن يقل: إني ولي مرشد بإذن الله فليأت ببرهان بين .
ومن يزعم انه عالم وينكر على الأولياء كراماتهم فليأت بمثلها او ينقضها . ومن لا يستطع هذه ولا تلك فقد جاء بالبرهان على كذب دعواه وزيف علمه .
فهذه إحدى فوائد فعاليات الدروشة للمسلم وهي لإرشاده الى الطريق الذي يخرجه من دائرة الضلال .
5. لتثبيت نور الإيمان بالنسبة للمؤمنين
لا تتوقف ثمار (الضرب) عند حدود إرشاد المسلمين الى الولي المرشد الهادي الى الله على بينة من ربه ، ولكنها تستمر لتعم ببركاتها الروحية حتى المؤمنين السالكين على نهج الطريقة السوية .
ولرب قائل يقول : وما حاجة من اهتدى الى الولي المرشد وسلك على يديه الى رؤية الحلقات التي تقام فيها فعاليات الدروشة ؟
فنقول: إن مثل هكذا حلقة هي في جوهرها روضة من رياض الجنة حقاً وحقيقةً ، ورياض الجنة فيها من الفوائد والثمار ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فنذكر منها ما يتسع له البحث وهو ثمرة الوصول إلى مرتبة الاطمئنان في الإيمان .
كان نبي الله إبراهيم عليه السلام مؤمناً بالله تعالى ، ومع هذا أراد رؤية البرهان ليتحقق بمرتبة الاطمئنان، يقول تعالى:
( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(9) .
إن هذه المرتبة الإيمانية اقتضت من إبراهيم عليه السلام أن يلمس عياناً حقيقة الإماتة والإحياء لله تعالى ، وان كان يؤمن بها سلفاً .
ولعل من الحسن أن نشير إلى أن طبيعة البرهان الذي أراه المولى تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام مشابه من وجه لفعاليات الدروشة ، فهو قد أشتمل على قتل (ضرب) أربعة طيور ، ثم إعادتها الى الحياة ، وهو يقرب من حيث الإشارة الى ضرب الدرويش لنفسه وإعادة إحياء الخلايا الميتة من جديد .
من المراتب التي ينالها المؤمن عند مشاهدته لفعاليات الدروشة أن يترقى من مرتبة الإيمان التقليدي الى مرتبة الإيمان التحقيقي ، فهو في لحظات الضرب يشهد إما بعينيه وإما بنفسه – إن كان هو الضارب – حقيقة وجود ذات الله تعالى .
فان تؤمن بذلك بدون برهان فهذا إيمان تقليدي يؤخذ من الأهل ويصححه العلماء بفتاواهم الشرعية ، ولكن عندما تشهد الحضور الإلهي واستجابته الفورية الآنية للدعاء من خلال فعاليات الدروشة فهذا يؤدي الى التحقق بالإيمان ، او الوصول الى الإيمان التحقيقي ، والسنة المطهرة مملوءة بالأدلة والشواهد على أن حضرة الرسول الأعظمﷺ كان يشهد أصحابه بعض الخوارق والمعجزات مع إنهم مؤمنين به وبرسالته، وما كان ذلك إلا ليثبت الإيمان في قلوبهم ويرفعهم الى مرتبة الإيمان التحقيقي .
وبعد :
فانه من غير الممكن أن نتمكن في هذا البحث من حصر الفوائد والثمار الروحية التي تدعوا مشايخ الطريقة الى إقامة حلقات السماع والإنشاد الصوفي والتي يصاحبها عادة القيام بفعاليات الدروشة ، وذلك لأنها وكما أشرنا روضة من رياض الجنة ترتشف الأرواح فيها من بركات حضرة الرسول الأعظم ﷺ وبركات مشايخ الطريقة ، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وأنّى للحروف المقيدة أن تحيط بالمعاني والحقائق المطلقة .
الهوامش :
[1] الشيخ محمد النودهي- مخطوطة شرح الخارق وجرح المارق – ص 92.
[2] حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا احمد بن أبي الطيب حدثنا مصعب بن سلام عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري : سنن الترمذي ، كتاب تفسير القرآن الكريم عن رسول الله ، حديث رقم (3052).
[3] جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر الكيلاني – السيد الشيخ محمد عبد الكريم الكسـنـزان – ص 78-79 .
[4] الرسالة القشيرية – ص 20 .
[5] الكهف – 17 .
[6] حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا عن عامر قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله ﷺ، أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان ، حديث رقم ( 50 ) .
[7] الفرقان – 23 .
[8] الكهف – 17 .
[9] البقرة – 260 .
المصدر : السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان .