منهم من يقول: إن الإسلام حرم أذية النفس كما في قوله تعالى: ( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ) (1) ، فكيف يتفق ذلك مع فعاليات الدروشة على ما في هذه الفعاليات من مظاهر واضحة في أذية النفس ؟
نقول:
إن الإسلام لم يحرم أذية النفس مطلقاً كما قد يتوهم هؤلاء ، وإلا لما كان فرض الله تعالى القتال في سبيله على ما فيه من تعريض النفس ليس للأذى فقط وإنما للقتل أيضا وعلى كراهة النفوس لهذا الأمر ، يقول تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)(2).
بل ولقد أشاد سبحانه وتعالى بمن يـبايع على الموت ويقاتل في سبيله وذكر ذلك في كل الكتب السماوية ووعدهم عليه الجنة ، فقال سبحانه من قائل : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ )(3) .
وسمى ذلك عهداً وبشر من يوفي به الفوز العظيم فقال: ( وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(4) .
فهل يقال : إن هذا الموت في سبيل الله حرام بدعوا انه أذية للنفس ؟!
لاشك إن من يعتقد ذلك او يقول به خارج عن حدود الكتاب الكريم والسنة المطهرة ، التي تزخر بالعشرات من النصوص الحاثة – فرضاً او استحباباً – على الجهاد وتحمل المشقة والقتال في سبيل الله مما في ظاهرة من أذىً جسدي ، بل هو خارج على حدود العقل البشري والفطرة الإنسانية ، اللذان يحكمان بضرورة تحمل الأذية في سبيل تحقيق الأهداف النبيلة .
وهذا الأمر لا يحتاج الى كثير استدلال ، فتحريم أذى النفس مطلقاً أمر مرفوض شرعاً وعقلاً .
وإنما هناك تحريم مخصص للأذى وغيره من أمور الدين ولهذا يقول تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ ) (5) .
ولم يقف سبحانه على حد هذا الإطلاق بل استثنى فقال: (إِلاَّ بِالْحَقّ )(6) .
وإذ قد تبين أن أذية النفس محرمة إلا بالحق فلنعد صياغة السؤال بالشكل التالي : هل إن أذية الدراويش لأنفسهم بفعاليات الضرب من القسم المحرم أم من المخصص بالحق ؟
فنقول: إن الحدود التي يسمح فيها للمرء بأذية نفسه فيها ، بل ويفرض عليه شرعاً هي كما يلي :
إذا كانت الأذية – جرحاً او قتلاً او غيرها – من باب الدفاع عن النفس او المال او العرض .
إذا كانت الأذية من باب الدفاع عن الدين والوطن .
إذا كانت في سبيل نشر الدين الإسلامي في الآفاق او تثبيت الإيمان في القلوب ، كما فعل الصحابي الجليل خالد بن الوليد في حادثة شرب السم ، فقد روي انه لما أقبل خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه يريد الحيرة ، بعثوا إليه (عبد المسيح) ومعه سم ساعة ، فقال له خالد : هاته ؟
فأخذه في راحته ثم قال: بسم الله وبالله رب الأرض والسماء ، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه داء ، ثم أكل منه ، فانصرف عبد المسيح الى قومه فقال:
يا قوم: أكل سم ساعة فلم يضره ، صالحوهم فهذا أمر مصنوع لهم (7) .
ولنسأل نحن بدورنا:
أليس ما يفعله الدراويش ، من باب نشر الإسلام بين الملحدين والمشركين والكفار من خلال إثبات وجود ووحدانية الله تعالى ، وصحة الرسالة المحمدية ، الممدة لأفعالهم بالقوة الروحية والتي لولا قوتها لترتب على الضارب من الألم او الموت ما يتناسب وهكذا ضربات في الظروف الاعتيادية ؟
أليس ما يفعله الدراويش من باب إرشاد الناس الى طريق الهداية المختصر وتثبيت الإيمان في قلوبهم ؟
ألا يستحق نشر الإسلام وتثبيت الإيمان القيام بمثل هذه الفعاليات إن توجّب ذلك ؟
ألا تدخل هذه الفعاليات ضمن الحدود الشرعية التي حددتها الشريعة الإسلامية من جواز أذية النفس في سبيل الله ؟
نعم إنها لكذلك ، وسواء أكانت المجاهدة بالسيف وتحمل المشاق سيراً على الأقدام الى أقصى بقاع الأرض ، واحتمال الموت او الجرح لنشر الدين ، او ضرب المجاهد لنفسه كما شرب الصحابي خالد السم ، وكما يفعل الدراويش في حلقات الدروشة الآن ، فالأمر واحد والفضيلة واحدة .
إن ما يقوم به الدراويش من ضرب أنفسهم بالآلات الجارحة او تناول السم او مسك الكهرباء او غيرها من الفعاليات إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى التضحية والشجاعة التي تظهر جليةً على متبعي طريقتنا الكسنـزانية وهم يمارسون هذه الفعاليات الخارقة والتي تؤدي بفاعلها من غير المريد وفي ظروف أخرى الى الموت لا محالة .
إن هذا الإقدام على التضحية في سبيل نشر الإسلام وتثبيت الإيمان يدل دلالة واضحة على عمق الإيمان الراسخ والشجاعة الفذة التي تمثل صورة حية ومتجددة لجهاد صحابة رسول الله الذين كانوا يحرصون على الاستشهاد في سبيل الله ﷺ كلمته فتوهب لهم الحياة .
ومع ذلك فإننا نود أن ننبه على أمرين:
الأول: إن ممارسة فعاليات الخوارق في الطريقة ليست من الواجبات التي تفرضها الطريقة على المريدين ، لأن هذه الفعاليات وسيلة لا غاية ، وان هدف مشايخ الطريقة من وراء السماح لمريدي الطريقة بممارسة هذه الفعاليات الخارقة هو إرشاد الناس وحثهم على الرجوع الى طريق الحق والصواب والانخراط في مسلك الطريقة قال تعالى: ( ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) .
ففي حالة الإرشاد يحدد المريد مدى الحاجة لممارسة مثل هذه الفعاليات الخارقة ، فإذا وجد المريد إن إرشاده لشخص معين او لمجموعة من الناس يصبح ذا تأثير أقوى إذا صاحبته ممارسة بعض الفعاليات الخارقة الخاصة بطريقتنا يكون لزاماً عليه ممارسة هذه الفعاليات .
الثاني: ليس الغاية من هذه الضربات أن يتأذى الدراويش وان كان الأجر على قدر المشقة في سبيل الله ولكن المقصود الأساس هو إرشاد الناس ولهذا فان القوة الروحية لمشايخ الطريقة الكسنـزانية ذات القدرة غير المحدودة في الدرك لمن يقوم بهذه الفعاليات تمد المريد بما يخفف الألم ويعجل بالإصلاح الفوري لما تلف من أنسجة جسمه والتآم الجروح فيه او مقاومة جسمه للنار او سموم العقارب والأفاعي او غيرها .
الهوامش :
[1]- البقرة : 195 .
[2]- البقرة : 216 .
[3]- التوبة : 111.
[4]- التوبة : 111.
[5]- الأنعام : 151 .
[6]- الأنعام : 151 .
[7] – أخرجه أبو يعلي والبيهقي وأبو نعيم والكلبي .
المصدر : السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان .