الإنسان مفتقر بطبيعته إلى من يقوته ويمونه, وأيدي البشر مشتركة في تحصيل ذلك ، فمنهم من يحصل قوته بيده منهم من يمتنع عليه ذلك إلا بعوض . ومتى تجاوز الإنسان سن الطفولة والضعف, سعى في اقتناء المكاسب لينفق ما أتاه الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الاعوأض عنها(1).
قال تعالى :وجعلنا النهار معاشا(2).
وقال : ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وان نبي الله داود كان يأكل من عمل يده.
وفي حديث أخر : أن زكريا عليه السلام كان نجارا.
قال أبن عباس رضي الله عنهما: كان آدم عليه السلام حراثا ,, ونوح نجارا ,,إدريس خياطا,, وإبراهيم ولوط زراعيين, وصالح تاجرا , وداود زرادا, وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله تعالى عليهم وسلم رعاة.
ومما يروى عن لقمان الحكيم انه قال لأبنه : يا بني أستعن بالكسب الحلال فانه ما أفتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه, وضعف في عقله,و ذهاب مرؤ ته, وأعظم من هذه الخصال استخفاف الناس به(3) .
وقيل لأحمد بن حنبل: ما تقول في رجل جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيا حتى يأتيني رزقي؟
فقال أحمد: هذا رجل جهل العلم, أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر الطير : تغدو خماصا وتروح بطانا.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , يتجرون في البر والبحر, ويعملون في نخلهم.
وقال أبو سليمان الداراني : ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يتعب لك, ولكن أبدأ برغيفك فحرزهما ثم تعبد. فأن قيل : قال أبو الدردارء زاولت التجارة والعبادة فلم يجتمعا, فاخترت العبادة. فالجواب : أنا لا أقول إن التجارة لا تراد لذاتها,بل الاستغناء عن الناس, وأناء العائلة وإفاضة الفضل على الأخوان, فأما إن كان المقصود نفس المال وجمعه والتفاخر ونحو ذالك فهو مذموم, وليكن العقد الذي به الاكتساب جامعا لأمور أربعة: الصحة والعدل ,والإحسان, والشفقة على الدين.
وهنا ينبغي أن نوضح إن الثراء الطيب والكسب الحلال والضرب في الأرض,والسعي فيها بالصورة الكريمة التي لا مخافة فيها للدين , والتي أخلص الإنسان فيها وجهه لله, فأنها مطلوبة. ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يضربون في الأرض ويكتسبون المال من حلة(4) .
فالسعي بالتكسب وجلب المنفعة ودفع المضرة معاملة بين العبد وغيره إطاعة لله وتنفيذا لإحكامه سبحانه وتعالى.(5) لا بد أذن من التكسب ومن المال.
ويقول سفيان الثوري : عليك بعمل الأبطال: الكسب من الحلال, والإنفاق على العيال.ولما سئل عن الحلال ما هو؟
قال: تجارة برة, أو عطاء من أمام عادل,أو صلة من أخ مؤمن, أو ميراث لم يخالطه شيء.
ثم يعود فيقول: لان اخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها, أحب إلي من أحتاج إلى الناس(6) .
ويعزز سفيان قوله بإخبار العباد بأنه مكتوب في التوراة:إذا كان في البيت بر فتعبد, وإذا لم يكن فالتمس.
ولقد كان سفيان معنيا بالعباد ,يريد دائما ان يكونوا أعزة بالله , انه يخاطبهم كلما صادفهم قائلا: يا عباد ارفعوأ رؤوسكم : فقد وضح الطريق ,ولا تكونوا عالة على الناس .
والمال لابد منه للمؤمن لمجرد وصف الأيمان, وذلك إن الأيمان يتضمن إلا يهين الإنسان نفسه بالمسالة , لهذا نجده يقول: كان المال كان المال في ما مضى يكره , فأما اليوم فهو ترس المؤمن.
والإسلام يرفض بالنص والروح فكرة الانقطاع عن الكسب بل يحض على السعي طلبا للرزق(7) .
وهنا يظهر لنا الجانب الايجابي في التفاعل مع البيئة والحياة ونبذ الخمول والسلبية.
ويترتب على ذلك إن العالم إذا لم يكن له معيشة صار وكيلا للظلمة, والعابد إذا لم تكن له معيشة أكل بدينه, والجاهل إذا لم تكن له معيشة كان سفيرا للفساق(8).
والظاهر أن الصوفية أثاروا موضوع السعي لكسب الرزق,فكان من رأي ابن حنبل لزوم السوق , أي الاشتغال بالتجارة, (9) تصل به الرحم وتعود به على عيالك.
وقال لرجل أخر اعمل وتصدق بالفضل على قرابتك(10).
والجو الإسلامي كله انما هو توجيه نحو تحقيق الصورة التي تتمثل في قوله تعالى(لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)(11) .
ويمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم التاجر الصدوق فيقول: التاجر الصدوق الأمين يحشر يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وليس في الإسلام حث أو توجيه إلى الفقر, بل على العكس من ذلك فيه حث وتوجيه إلى الثراء الذي لا يلهي عن ذكر الله (12) .
ولقد عرف عن الشاذلي حبه للعمل, فقد كان يعمل بيده في الزراعة ليصون نفسه من الاحتياج إلى الناس , ضاربا لأتباعه المثل في وجوب الاعتماد على النفس (13) .
لقد كان له مزارع بالجمع لا مزرعة بالأفراد, وكان يقتني الخيل ويتخيرها ويركبها.(14) كما كان خلفته أبو العباس المرسي يأمر أصحابه قائلا : عليكم بالسبب, وليجعل أحدكم مكوكه سبحته, أو تحريك أصابعه في الخياطة سبحته والصفر.
وعلى هذا النحو فقد كان الشاذلية أشد الناس حثا على العمل مع الاشتغال بالطريق.
وفي هذا الصدد يقول أبو العباس نحن إذا صحبنا تاجرا ما نقول له اترك تجارتك وتعال , أو صاحب صنعة ما نقول له أترك صنعتك وتعال , أو طالب علم ما نقول له أترك طلبك وتعال ,ولكن نقر كل واحد فيما أقامه الله تعالى فيه, وما قسم له على أيدينا وهو واصل إليه.
ومن ناحية أخرى لا يتعارض حب العمل عند الشاذلية مع نظريتهم في إسقاط التدبير , إذ إن إسقاط التدبير عندهم يهدف إلى غاية نفسية خلقية, ولا يتعدها إلى العمل والسعي من أجل الرزق وعمارة الكون وهو ما فرضه الله سبحانه وتعالى على الإنسان, بل أن المسقط للتدبير مع الله يؤدي عمله وهو مطمئن هادئ النفس بعيدا عن القلق النفسي الذي يتعرض غيره من الناس.(14)
ويبن ابن عطاء انه من الضروري للإنسان أن يتخذ له عملا للأسباب الآتية:
(1) ان وجود السبب لا ينافي التوكل على أمر الله في أمر الرزق , بل هو من باب الإجمال في الطلب .
(2) صيانة الوجوه عن الابتذال بالسؤال,وحفظ بهجة الأيمان أن تزول بالطلب من الخلق, فما يعطيك الله من الأسباب لا منة فيه لمخلوق عليك.
(3) إن الاشتغال بالأسباب يشغل الإنسان عن ارتكاب المعاصي.
(4) إن في القيام بالأسباب تآلف للمؤمنين وتعارفهم وتوادهم.
(5) إن المجتمع لن يستقيم بدون من يقومون بالأسباب لتلبية حاجته.
(6) وعلى هذا النحو فان لابد للإنسان من أن يتخذ له سببا ليعمل به ويرتزق بواسطته.ولهذا يرد ابن عطاء الله على منكري الأسباب بقوله: ولا ينكر الأسباب إلا جاهل , أو عبد عن الله غافل(15) .
ولعله يتبين من ذلك الرد مدى أيمان ابن عطاء الله بوجوب اتخاذ الأسباب.
وهنا ينبغي أن نوضح المقصود بترك الدنيا عند الصوفية, فالمقصود بالترك عندهم ليس معناه الانقطاع عن أعمالهم, ويتركون أسبابهم, ويهيمون في الكهوف والمغارات, ولكن يعرف الإنسان ربه, ويوجه قلبه إليه, ويشهد الفعل منه خلقا وإيجادا, ثم يسعى في حوائجه ولا يقصر فيها, فتكون الأسباب عنده كأبواب الله يقف عليها يلتمس العطاء(16) .
ولا بد أن ننبه هنا إن الخمول من مضامن الإخلاص حسبما يرى ابن عجيبة.
والخمول كما يعرفه: هو إسقاط المنزلة عند الناس وذلك بهدف قتل شهوة الظهور والتمسك بالحياة,بل ويرى إن الإخلاص لا يتحقق إلا به, لأنه لا حظ للنفس فيه.
ومن هنا كانت دعوة ابن عجيبة إلى العمل , وعدم فهم الخمول على انه الانعزال عن المجتمع, ومع ذلك يقول : إن الخمول ليس كما يفهمه العوام من لزوم البيوت, والفرار إلى الجبال, فذلك هو عين الظهور عند المحققين, وإنما الخمول هو تحقيق النفس بوصفها الأدنى وشعورها به أبدا, ووصفها الأدنى من الذل, وكل ما يثقل عليها فمرجعه التحقيق بوصف التواضع, وفائدته تحصيل العمل وكمال الحقيقة(17) .
وهنا يجب ملاحظة أن تلك الدعوة للعمل, وأحالته لمفهوم الخمول على انه مفهوم نفسي وليس مفهوما اجتماعيا. وهو في ذلك يتفق مع ما ذكره الرندي في شرحه من انه بقدر تحقق السالك بوصف الخمول يكون تحققه بمقام الإخلاص, بل انه عن طريق الخمول يتخلص السالك من رؤية إخلاصه بمعنى انه يتخلص من رؤية ما قد يعظمه الناس(18) .
وهكذا تتضح دعوة ابن عجيبة إلى العمل وعدم التخلف عن مسايرة المجتمع والسعي من اجل إصلاح الحياة ونشر العلم.كما انه قدم للسالك بعض الإرشادات كي تساعده على الاندماج في المجتمع ومعاملة الناس مع صيانة نفسه من الأزمات التي يمكن أن تصيبه من جراء ذلك , نذكر منها:
(1) اختيار الصاحب:ينبه مريده قائلا له فالصاحب الذي يدوم لك وهو الذي يصحبك وهو عالم بعيبك.
(2) الحث على الاعتماد على النفس وعدم الركون إلى الغير .
(3) الحث على الاجتهاد من اجل نوال الشيء.
(4) ولعله مما سبق يتبين مدى التفاعل الاجتماعي الكبير الذي يوضحه لنا ابن عجيبه من خلال شرح الحكم العطائية, فالشارح بذلك يقوم بتقوية النفوس والعزائم من حيث لا يشعر المُريد, وبطرقة سليمة تماما وفعالة في غرس قيمة العمل والتعاون والاعتماد على النفس , وغير ذلك من خلال والصفات الحميدة في نفوس المريدين كاحد الاسس التي يقوم عليها الطريق الصوفي(19).
والحق سبحانه وتعالى جعل العمل بمثابة الواسطة أو العلامة التي ينبغي أن يتحلى بها العبد لينال عنايته, فلقد اسند الله تعالى الرحمة إليه وعلقها بالعمل لئلا يتكل العباد على سابق تقديره لهم فيتركوا العمل الذي هو مقتضى العبودية الواجبة لله تعالى عليهم.
وعلى هذا فلا بد ان يحسن الإنسان العمل ليكون قريبا من العناية الإلهية.لذلك كان من الواجبعلى الإنسان ان يعمل تحققا بعبوديته لا لطلب حظ لنفسه أو مثوبة, بل تادية لما خلقه الله له, مصداقا لقوله تعالى :وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون(20), فالعمل من اجل التحقق بالعبودية إذن هو ما ينبغي ان يتبعه الإنسان, ممتثلا أمره به الحق تعالى .
_________
الهوامش :
(1) جميل صلبيا : تاريخ الفلسفة العربية(بيروت,دار الكتاب اللبناني ,ء ت) ص: 617
(2) سورة النبأ , الآية 11.
(3) أبن قدامة المقدسي : مختصر منهاج القاصدين. تقديم محمد أحمد دهمان, تعليق شعيب الارنؤوط (القاهرة: دار التراث العربي, ط4, 1398 هـ ) ص:82
– وانظر : أبو العزائم , محمد ماضي: النور المبين(القاهرة: دار المدينة المنورة,ط2,1403هـ)ص:20.
– ويراجع أيضاً: الشعراني: منح المنة في التمسك بالشريعة والسنة(القاهرة: مطبعة صبيح,ءت)ص:78-82.
(4) عبد الحليم محمود: الفضيل بن عياض 0القهرة: مطابع الشعب, 1971) ص: 45.5) أبو العزائم, محمد ماضي : الإسلام وطن(القهرة: دار الكتب الصوفي, ط3 , 1414) ص:78.
(5) عبد الحليم محمود : سفيان الثوري(القاهرة دار المعارف, 1976)ص:16-18.
(6) محمد أبو ريان: الحركة الصوفية في الإسلام(الاسكندرية: دار المعرفغة اتلجامعية, 1995م) ص:53.
– وأنظر : أبن حبان البستي : روضة العقلاء ونزهة الفضلاء , تحقيق محمد حامد الفقي (القهرة: مكتبة السنة المحمدية ء.ت)ص:153.
(7) مصطفى حلمي: الزهاد الأوائل(الإسكندرية: دار الدعوة, ط1, 1979م)ص: 101.(8) المرجع السابق.
(9) أبن الجوزي : تلبيس إبليس ( القاهرة : دار الطباعة المنيرية, ط2 , 1368 هـ) ص:285.
(10) سورة الحديد, الآية:23.
(11) عبد الحليم محمود: عبدالله بن المبارك( القاهرة : مطابع الشعب, 1402هـ)ص:37.
وأنظر عبد الحليم محمود: أبو مدين الغوث( القاهرة: الدار المصرية, 1976م)ص: 13.
(12) أبن عياد الشافي: المفاخر العلية, ص:43.
(13) عبد الحليم محمود: بشر بن الحارث الحافي( القاهرة : مطابع الشعب, ء.ت)ص:17.
(14) أبن عطاء السكندري: لطائف المنن(القاهرة: مكتبة القاهرة,ط الاخيرة,1399هـ) ص:189.
(15) ابن عطاء السكندري : التنوير في أسقاط التدبير( القاهرة:مطبعة صبيح,ء.ت)ص:60.
(16) سلامة الراضي: الإنسانية( القاهرة :مكتبة الفجالة,ط2,1970م)ص:49-50.
– وانظر: عبد الحليم محمود: المدرسة الشاذلية وأمامها, قضية التصوف(2) القاهرة: دار النصر للطباعة,ء.ت) ص:72_73.
(17) أبن عجيبة: أيقاظ الهمم في شرح الحكم( القاهرة: دار أحياء الكتب العربية, مطبعة الحبي,ط3 ,1402)ص:97.
(18) الرندي, أبن العباد النضري: غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية, تحقيق عبد الحليم محمود, ومحمود شريف (القاهرة: دار الكتب الحديثة,1790)ج1 , ص:78.
(19) محمد محمدي سليمان: دراسة شرح أبن عجيبة على الحكم العطائية, رسالة ماجستير غير منشورة بأشراف الدكتور محمد علي أبو ريان, كلية الآداب, جامعة الإسكندرية, 1978م,ص:348.
(20) سورة الذاريات, الآية:56.
المصدر: كتاب( المنهج التربوي والعلمي عند الصوفية)
المؤلف: الدكتور عبد الباري محمد داود – كلية الآداب- جامعة بنها