لقد دأب اهل الطريقة منذ بداية نشأة الطريقة على دراسة النفوس دراسة دقيقة فقد كانوا سيكلوجيين كبار معتمدين على التأمل الباطني والمراقبة الذاتية التي اصبحت فيما بعد علوما نفسانية ، فالشيخ العارف يؤدي دورا كبيرا في معرفة افات نفوس مريدي وعيوبها ويصف لها ما يناسبها من مجاهدات ورياضات واوراد حتى يطهرها ويزكيها.
لقد علم اهل الطريقة ان النفوس تميل الى الاشياء الكاملة المرغوبة وتنفر من الاشياء الناقصة المكروهة فحاولوا ان يبصروها حقيقة الدنيا لانها متى علمت نقصها نفرت منها ومتى علمت كمال الاخرة اقبلت عليها .
ويصف سيدنا الكيلاني قدس الله سره النفس فتراه فارس الميدان والطبيب الحاذق والمهندس البارع يضع كل شيء في مكانه المناسب فيقول قدس الله سره عن النفس : (صدقها كذب ودعواها باطلة وكل شيء منها غرور وليس لها فعل محمود ولا دعوى حق ، ان حللت عنها قيودها شردت وان اطلقت وثاقها جمحت وان اعطيتها سؤلها هلكت وان غفلت عن محاسبتها ادبرت وان عجزت عن مخالفتها غرقت …)(1) .
وعلى هذا النحو راح اهل الطريقة يصبرون اغوار النفس معتبرينها العدو الاكبر باذلين الجهود المضنية في البحث عن علاج لامراضها عملا بالحديث النبوي الشريف الذي يقول : (اعدى اعدائك نفسك التي بين جنبيك) . وسنتناول افة من افات النفس الا وهي الحسد .
الحسد
يرى المحاسبي ان الحسد من وجهة نظر الكتاب والسنة نوعان :
الاول : محرم كله وقد ذمه الله سبحانه وتعالى في القران الكريم بقوله : (ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم)(2) ، وقال تعالى : (ام يحسدون الناس على ما اتاهم الله من فضله)(3) ، وقال تعالى : (ان تمسسكم حسنة تسؤهم وان تصبكم سيئة يفرحوا بها)(4) .
الثاني : الحســد الغــير المــحرم وهـو المنافسة المــشروعة لـقوله تعــالى : (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)(5) ، وقوله تعالى : (سابقوا الى مغفرا من ربكم)(6) ، ثم يعود المحاسبي ليفصل لنا انواع الحسد بطريقة المحلل النفسي الدقيق فيقول : ( واهم الحسد : حسد الحقد ، وحسد حب الدنيا ، وحسد الزهو والعجب ) .
ويرى ان حسد الحقد يظهر في المنافقين الذين قال عنهم الله سبحانه وتعالى : ( واذا لقوكم قالوا امنا واذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ )(7) ، فتبين ان هؤلاء المنافقين ينفصل ظاهرهم عن باطنهم وهذا في راي المحاسبي حسد ناتج عن الحقد . واما حسد حب الدنيا: فيظهر في تمني زوال النعمة عن العبد التي انعمها الله عليه وفضله بها على غيره ومثال ذلك في اخوة يوسف عليه السلام ويظهر في قوله تعالى على لسان اخوة يوسـف : (ليوسف واخـــــوه احــب الى ابيــنا منا ونحـن عصـبة ان ابانا لـفي ضلال مبين)(8) .
واما حسد الزهو والعجب : فيظهر عند المنكرين والمعاندين والكفار المعجبين بانفسهم واولادهم كما قال تعالى على السنتهم : (ما انتم الا بشر مثلنا)(9).
فقد تكبروا على الانبياء والمرسلين ويرى المحاسبي ان الحسد في النفس وليس في الجوارح وانما تم ذلك استعمالا للجوارح من قبل النفس .
واما الحسد عند الغزالي : فهو يحوي في طياته نوعا من الخوف الكظيم الذي يؤدي الى الحسرة الدائمية وهو من نتائج الحقد والحقد من نتائج الغضب يقول الغزالي : ( واعلم ان الغضب اذا لزم كظمه لعجز عن التشفي رجع الى الباطن واحتقن فيه فصار حقدا )(10).
والحقد يؤدي الى تمني زوال كل خير عن المحقود عليه وهو معنى الحسد ، وبذلك يظهر الغزالي محللا نفسيا دقيقا وسيكلوجيا بارعا في التحليل يدعو الى التامل الباطني كنوع من التجربة في سبيل معرفة الحقيقة ويظهر ذلك في قوله :(ثم انني افتكرت في نيتي للتدريس فاذا هي خالصة لغير وجه الله تعالى بل باعثها ومحركها طلب الجاه )(11) . كما يدعو الغزالي الى ممارسة التجربة ذاتيا عند ضرورتها ويتضح هذا في قوله : (قالوا حسن المزاج بقمع الشهوة والغضب وقد جربنا ذلك بطور المجاهدة )(12).
فلو تتبعنا كل ما كتبه علماء الصوفية ومشايخ الطريقة في الصراع مع النفس وتحليلها وسبر اغوارها وبيان افاتها وعلاجها الناتج عن التجربة الدقيقة والممارسة العميقة لوجدنا ان هذا العمل الفكري هو علم قائم بحد ذاته يمكن ان يطلق عليه اسم علم نفس الطريقة .
الهوامش:
(1) الشيخ الكيلاني – الغنية لطالبي الحق – ج3 .
(2) البقرة : 109 .
(3) النساء : 54 .
(4) ال عمران : 120 .
(5) المطففين : 26 .
(6) الحديد : 21 .
(7) ال عمران : 119 .
(8) يوسف : 8.
(9) يس: 15.
(10) الغزالي – احياء علوم الدين –ج2 .
(11) الغزالي – المنقذ من الضلال – ص153 .
(12) المصدر نفسه – ص75 .
المصدر :
السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية – ص104-106 .