نماذج من هجرة الصحابة
عن أَبي عثمان النهدي أَنه قال : بلغني أَن صُهَيباً حين أَراد الهجرة ، قال له كفار قريش : أَتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا ، وبلغْت الذي بلغْت ، ثُمّ تريد أَن تخرج بمالك ونفسك ، والله لا يكون لك ذلك فقال لهم صُهَيْب : أَرأَيتُمْ إنْ جعَلْت لكم مالي أَتُخْلُونَ سبيلي ؟ قالوا : نعم . قال : فإنّي جعلت لكم مالي . قال : فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، فقال : { رَبِحَ صُهَيْبٌ رَبِحَ صُهَيْبٌ } .
لما قدم أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم مكة من الهجرة الأولى , اشتد عليهم قومهم ، وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديداً ، فأذن لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية ، فكانت هجرتهم الثانية أعظمها مشقة ، ولقوا من قريش تعنيفاً شديداً ونالوهم بالأذى ، واشتد عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم ، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : يا رسول الله فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة ولست معنا ؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم: أنتم مهاجرون إلى الله تعالى وإليَّ ، لكم هاتان الهجرتان جميعاً قال عثمان : فحسبنا يا رسول الله . وهاجر معهم كثيرون غيرهم أكثر منهم وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان عمار بن ياسر فيهم واثنان وثمانون رجلاً إن لم يكن فيهم .
وهكذا ترى أن أغلب المشايخ وبخاصة مشايخ طريقتنا الكسنزانية قدس الله اسرارهم قد هاجروا وتركوا الديار والأوطان في سبيل الدين العظيم ولم ينحنوا – معاذ الله – لظالم ، وهاجر من هاجر معهم من الدراويش والأتباع ونخص بالذكر منهم حضرة الغوث السيد عبد القادر الكسنزان والغوث السيد عبد الكريم الكسنزان وغوثنا الحاضر السيد الشيخ محمد الكسنزان قدست أسرارهم أجمعين .
بناء المسجد النبوي الشريف
« بدأ بتأسيسه وبنائه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم أول ما بدأ من عمل في مستقره ودار هجرته في مطلع مقدمه ليكون نموذجاً يحتذى به في بساطة المظهر ، وعمق وعموم المخبر ، ليحقق به أعظم الأهداف وأعمها ، بأقل النفقات وأيسر المشقات » ، فالنبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم شارك أصحابه العمل والبناء ، وكان يحمل الحجارة وينقل اللبن على صدره وكتفيه ، ويحفر الأرض بيديه كأي واحد منهم ، فكان مثال الحاكم العادل الذي لا يفرق بين رئيس ومرؤوس ، أو بين قائد ومقود ، أو بين سيد ومسود ، أو بين غني وفقير ، فالكل سواسية أمام الله ، لا فرق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى ، ذلك هو الإسلام عدالة ومساواة في كل شيء ، والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة العامة ، وبهذا الفضل ثواب من الله ، والرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم كغيره من المسلمين لا يطلب إلا ثواب الله ، فقد كانت مشاركة النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في عملية البناء ككل العمال الذين شاركوا فيه ، فقد دهش المسلمون من النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وقد علته غبرة ، فتقدم أسيد بن حضير رضي الله عنه ليحمل عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم فقال : يا رسول الله أعطنيه ؟ فقال : « اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني » فقد سمع المسلمون ما يقول النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم لصاحبه ، فازدادوا نشاطاً واندفاعاً في العمل . وقد تفاعل الصحابة الكرام تفاعلاً عظيماً في البناء وأنشدوا هذا البيت :
لَئنْ قَعدْنا والنبيُّ يعملُ
لَذاكَ مِنّا العَملُ المُضلّلُ
إن هذه التربية العملية لا تتم من خلال الموعظة ، ولا من خلال الكلام المنمق ، إنما تتم من خلال العمل الحي الدؤوب ، والقدوة المصطفاة من رب العالمين ، والتي ما كان يمكن أن تتم في أجواء مكة ، والملاحقة والاضطهاد والمطاردة فيها إنما تتم في هذا المجتمع الجديد والدولة التي تبني وكأنما غدا هذا الجميع من الصحابة الكرام كله صوتاً واحداً ، وقلباً واحداً ، فمضى يهتف :
اللهُمَّ إنَّ العيشَ عَيشُ الآخرة
فانْصُرِ الأنْصارَ والمُهاجِرة
فقراء الصحابة من أهل الصفة
إن المهاجرين الأوائل الذين هاجروا قبل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو معه أو بعده حتى نهاية الفترة الأولى قبل غزوة بدر ، استطاع الأنصار أن يستضيفوهم في بيوتهم وأن يشاركوهم النفقة ولكن فيما بعد كبر حجم المهاجرين مما لم يعد هناك قدرة للأنصار على استيعابهم ، فقد صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء ، فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه .. ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء ، والآهلين والعُزَّاب ، فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه ، يأوي إلى تلك الصُّفة في المسجد . وإن المهاجر الذي يقدم إلى المدينة كان يلتقي بالرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، ثم يوجهه بعد ذلك إلى من يكفله فإن لم يجد فإنه يستقر في الصفة مؤقتاً ريثما يجد السبيل ، فقد جاء في المسند عن عبادة بن الصامت ، قال : « كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يُشغل ، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن ، فدفع إلي رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم رجلاً ، وكان معي في البيت أُعشيه عشاء أهل البيت ، فكنت أقرئه القرآن » وقد كان أول من نزل الصفّة المهاجرون لذلك نسبت إليهم فقيل صفّة المهاجرين وكذلك كان ينزل بها الغرباء من الوفود التي كانت تقدم على النبي معلنة إسلامها وطاعتها وكان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وكان له عريف نزل عليه وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفّة وكان أبو هريرة عريف من سكن الصفة من القاطنين ، ومن نزلها من الطارقين ، فكان النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم إذا أراد دعوتهم عهد إلى أبي هريرة فدعاهم لمعرفته بهم ، وبمنازلهم ومراتبهم في العبادة والمجاهدة ونزل بعض الأنصار في الصفّة حباًّ لحياة الزهد والمجاهدة والفقر ، رغم استغنائهم عن ذلك ووجود دار لهم في المدينة ككعب بن مالك الأنصاري ، وحنظلة بن أبي عامر الأنصاري ( غسيل الملائكة ) وغيرهم .
كان النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يتعهد أهل الصفة بنفسه ، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعود مرضاهم ، كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكرهم ويعلمهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته ، وذكر الله والتطلع إلى الآخرة . وكان صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يقول لهم : ( الحمد لله الذي جعل لي في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم ) وذلك لقوله تعالى : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وكان يؤمن نفقتهم بوسائل متعددة ومتنوعة فمنها :
كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً ، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها ، وأشركهم فيها . وكثيراً ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أمهات المؤمنين رضي الله عنهم ، ولم يكن يغفل عنهم مطلقاً ، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه ، فعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ، قال إن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء ، وإن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم قال مرة : « من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس » أو كما قال ، وإن أبا بكر جاء بثلاثة ، وانطلق النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم بعشرة .
وكما كان صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يقدم حاجتهم على غيرها مما يطلب منه ، فيقول : « والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوي بطونُهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم ، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم » .
كان أهل الصفة يعتكفون في المسجد للعبادة ، ويألفون الفقر والزهد فكانوا في زاوية المسجد النبوي يصلون ويقرؤون القرآن ويتدارسون آياته ويذكرون الله تعالى ، ويتعلم بعضهم الكتابة حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت ؛ لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة ، واشتهر بعضهم بالعلم وحفظ الحديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم مثل أبي هريرة عرف بكثرة روايته للحديث ، وحذيفة بن اليمان الذي اهتم بأحاديث الفتن . ومن زاوية المسجد النبوي عرفت الزوايا والتكايا والربط فهي تمثل تلك الزاوية التي كان يتعبد فيها أهل الصفّة من الصحابة .
وكان أهل الصفة يشاركون في الجهاد ، بل كان منهم الشهداء ببدر مثل : خبيب بن يساف ، وسالم بن عمير ، وحارثة بن النعمان الأنصاري ، ومنهم من استشهد بأحد مثل حنظلة الغسيل ، ومنهم من شهد الحديبية مثل جرهد بن خويلد وأبو سريحة الغفاري ومنهم من استشهد بخيبر مثل تقف بن عمرو ومنهم من استشهد بتبوك مثل عبد الله ذو البجادين ، ومنهم من استشهد باليمامة مثل سالم مولى أبي حذيفة وزيد بن الخطاب ، فكانوا رهباناً بالليل فرساناً في النهار ، وكان بعض الصحابة قد اختاروا المكوث في الصفة رغبة منهم لا اضطراراً ليعوض ما فاته من العلم والخير .
تعليم الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم صحابته علم القلب ومعرفة النفس
كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم أثناء تبليغه لرسالة السماء وبما أوتي من معرفة ربانية لا يألوا جهداً في توجيه أنظار مجتمع الصحابة ومن ورائه المجتمع الإنساني إلى حقيقة القلب ، وما ينطوي عليه من إمكانات خاصة لمعرفة كل ما يسمى بما وراء العالم المادي .. جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم قال : ( أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ ) وأَن المعرفة فعل القلب لقول اللَّه تعالى : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } .
كان وابصة بن معبد رضي الله عنه من الصحابة الذين اختلطت عليهم الأمور ولم يعد يفرق بين البر والإثم ، فما كانوا يعرفوه حقاً قبل الإسلام تبين بطلان كثير منه في شريعة الإسلام ، ولم يعد وابصة يستطيع أن يميز بين البر والإثم ، كما وأن نفسه تواقة للمعرفة لم تمهله ليتعلم الأمور شيئاً فشيئاً ، فجاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم في نيته أن يُفصِّل له رسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم كل ما يتعلق بالبر والإثم ولا يترك شيئاً ليتبين طريقه في الإيمان والحياة ..
قال وابصة : أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألته عنه ، فجعلت أتخطى الناس ، فقالوا : إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، أي لا تقترب من رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم . فقلت : دعوني أدنو منه . فقال صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم: ادن يا وابصة فدنوت منه حتى مسّت ركبتي ركبته . فقال صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم: يا وابصة أخبرك ما جئت تسألني عنه أو تسألني ؟ ، فقلت : أخبرني يا رسول الله . قال : جئت تسألني عن البر والإثم .
قلت : نعم ، فجمع أصابعه فجعل ينكت بها في صدري ويقول : يا وابصة استفت قلبك استفت نفسك ، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك .
إن نكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم بأصابعه الشريفة على قلب وابصة ليؤكد أن المراد بالقلب هو العضو الموجود في صدر الإنسان وليس إشارة ضمنية إلى العقل الذي يقع مركزه في الرأس ، وهذه الحركة من أصابع رسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم لها خصوصيتها بالنسبة لوابصة لأن اللمسة الروحية من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لها أثرها الروحي في تطهير النفس وفتح مغاليق الأقفال في القلوب ، فهي حركة مقصودة بدلالاتها الظاهرية وفوائدها الروحية ، ويؤكد هذا الأمر العديد من الحوادث التي تشير إلى أن لمس رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم للصدر أو ضربه إياه ومع قوله : اذهب أو افعل أو قل أو ما شابه ذلك تنطوي على سر عظيم في تفجير القدرات الروحية الكامنة في القلب ، ومن ذلك ما روي عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال : بعثني رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم إلى اليمن فقلت : تبعثني وأنا رجل حديث السِّن وليس لي علم بكثير من القضاء . قال : فضرب صدري رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم وقال : {اذْهَبْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ وَيَهْدِي قَلْبَكَ} قال الإمام : فما أَعياني قضاء بين اثنين ومعنى هذا أن كل ضربة أو لمسة تفعل فعلها الخاص في القلب . وكذلك ما بينه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه من الفرق بين الغنى والفقر المادي والغنى والفقر القلبي :
يقول أبو ذر الغفاري رضي الله عنه : قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم: يَا أَبَا ذَرًّ تَقُولُ كَثْرَةُ الْمَالِ الْغِنَى ؟ قلت : نعم ، قال : تَقُولُ قِلَّةُ الْمَالِ الْفَقْرُ ؟ قلت : نعم ، قال ذلك ثلاثاً ، ثم قال رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم : الْغِنَى فِي الْقَلْبِ ، وَالْفَقْرُ فِي الْقَلْبِ ، مَنْ كَانَ الْغِنَى فِي قَلْبِهِ لا يَضُرُّهُ ، مَا لَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا ، وَمَنْ كَانَ الْفَقْرُ فِي قَلْبِهِ ، فَلا يُغْنِيهِ مَا أَكْثَرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ نَفْسَهُ شُحُّها . بهذا يؤدي دوره التربوي في الارتقاء بالصحابة من النظرة المادية للأمور إلى ما وراء هذه النظرة أو إلى المصدر الحقيقي لهذه النظرة ، فليس الإحساس بالفقر ناتج من قلة المادة بقدر ما هو ناتج من خلل في معرفة الإنسان بنفسه وما ينطوي عليه قلبه ، فحتى لو ملك الإنسان الدنيا كلها وكان قلبه فقيراً من رزق الرضا وهو حال معنوي فهو فقير لأنه لا يرى فائدة ما يملك ولا يشعر به ، ولهذا فهو يلهث وراء المزيد ..
وأما مراقبة النفس ومحاولة معرفة دخائلها والانتباه إلى متغيرات الخواطر فيها ، هو من صميم التربية الروحية التي كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يتبعها في تعامله مع الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عنهم ، حيث كان صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم يوجه أنظارهم إلى مراقبة أنفسهم وما يجول فيها إزاء كل صغيرة وكبيرة تواجههم وفي أي موقع كانوا فيه ( آمرين أو مأمورين ) . ومن ذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ولى المقداد بن عمرو على إحدى الولايات يوماً ، فلما رجع سأله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم : كيف وجدت الإمارة..؟؟ ، فأجاب في صدق عظيم : « لقد جعلتني أنظر إلى نفسي كما لو كنت فوق الناس ، وهم جميعاً دوني .. والذي بعثك بالحق ، لا أتأمرن على اثنين بعد اليوم ، أبداً » . كان سؤال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم عن أثر الإمارة وما فيها على نفس المقداد ، وقد أجاب بصدق لم تخالطه شائبة ، صدق الرجل الذي لا يريد أن يخدع نفسه ، وصدق الرجل الذي كان يراقب نفسه ويطلع على خلجاتها أثناء أداءه للواجب الذي كلف به . رأى المقداد رضي الله عنه أن نفسه أصابها شيء من الزهو بالمنصب ، ولشجاعته وأدبه مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، حدّث بما شعر به ، ولم يكتف بذلك بل عرض على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم العقوبة التي رآها مناسبة لنفسه على هذا الضعف ، فأقدم على القسم بأن لا يتولى منصباً بعد يومه ذاك ، وقد أبر بقسمه رضي الله عنه .
إن ما يمكن أن يستفاد من هذه المحاورة الرائعة هو اهتمام رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم بالجانب النفسي للصحابة الكرام وسؤال صحابته عنه ، لما لهذا الجانب من أثر على الإيمان وعلى سلوكهم وتقربهم إلى الله تعالى ، كما وتشير إلى التواصل الفكري والقلبي بين رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم والصحابي مقداد رضي الله عنه ، فقد فَهِمَ ما عناه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم من سؤاله ، فلم يجب مثلا عن حال الجند أو طريقة إدارته لهم أو أي جانب آخر ، بل فهم بشكل مباشر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم كان يسأله عن نفسه وما حصل فيها من تغيير ، وهو ما يشر إلى أن الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم كان يتابع أحوال الصحابة الباطنية ، وكانوا متفهمين لهذه المتابعة .
ومن جهة أخرى فإن جواب المقداد رضي الله عنه كان فيه إجراء اجتهادي تمثل في قسمه بأن لا يتأمر على اثنين ، وهو رد لم يعترض عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ولم ينكره ، الأمر الذي يوضح أن سُبل مجاهدة النفس ومنعها عن المواطن التي تضعف فيها كان أمراً متاحاً عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وهذا يدل على جواز اتخاذ مثل هذه الإجراءات أو غيرها من باب مجاهدة النفس وتربيتها وما يؤكد ذلك العديد من الشواهد ومنها : روي أنه كان لزيد بن سهل الأنصاري بستان من نخيل وأعناب لم تعرف ( يثرب ) بستاناً أعظم منه شجراً ، و لا أطيب ثمراً ، و لا أعذب ماء ، و فيما كان أبو طلحة يصلي تحت أفيائه الظليلة ، أثار انتباهه طائر يغرد ، أخضر اللون أحمر المنقار.. وقد جعل يتواثب على أفنان الأشجار طرباً متراقصاً… فأعجبه منظره ، و سبح بفكره معه… ثم ما لبث أن رجع إلى نفسه ، فإذا هو لا يذكر كم صلى ؟!…ركعتين… ثلاثاً… لا يدري… فما أن فرغ من صلاته حتى ذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم و شكا له نفسه التي صرفها البستان ، و شجره الوارف ، و طيره المغرد عن الصلاة… ثم قال له : « اشهد يا رسول الله أني جعلت هذا البستان صدقة لله تعالى ، فضعه حيث يحب الله و رسوله » .
بهذه الصور الرائعة كان الصحابة يتابعون أنفسهم ، ويحاسبوها على كل شاردة وواردة ، وبهذا الشكل كانت ردود أفعالهم ، فلكي يطهر نفسه من تعلقها بالبستان وكل ما فيه ، أنفقه في سبيل الله ، لكي ينتقل في تفكّره وإحساسه من حب البستان إلى حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم ، وبالصورة نفسها يعمل الشيخ على تهذيب نفوس المريدين وقتل هواها لدى المريد ، وأن يرى الآخرين خيراً منه من خلال التربية والعمل بأعمال لم يعتد عليها وتسمى كسر النفس من أجل تصفية المريد وتخلصه من الأهواء قال النبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر .