السائل : مي عبد النافع
البلد : مصر
السؤال :
لماذا السالكين المتصوفة يقدسون صورة الشيخ و يرابطون معها ؟ أليس هذا شرك في الله ؟ أليس في هذا تعظيم للبشر؟
الجواب :
يهتم الصوفية ايمّا اهتمام بتصفية الباطن وتنقيته السرائر وتطهير القلب من الشوائب والغفلات والحجب ، وبسبب اهتمامهم هذا عدّو بحق أصحاب علم متخصص بالقضايا القلبية والنفسية .
ان ضرورة حضور القلب مع الله تعالى وضرورة الخشوع وضرورة ان يعقل المصلي والذاكر ما يقول لقوله : ( ليس لأبن آدم من صلاته الا ما عقل منها ) (1) ..
والكل يعلم من قريب او بعيد ان العبد في حال صلاته وذكره تتكالب عليه الشواغل والمشاغل وصور الأحلام او المشاكل بسبب هوى النفس اذا كان مصغيا لخطرات الشيطان ، بينما يهجم النسيان والغفلة والشك في الأقوال والأفعال اذا كانت النفس مصغية للوسواس الخناس ، ورأوا ان مدافعة تلك الخطران ومحاولة طردها بدون أسلوب معين او طريقة محددة يزيد العابد انشغالا بها في أحايين كثيرة ، ولأن تغلب عليها مرة فهي تتغلبت عليه مرات .
كان للصوفية مناهج عدة وأساليب متعددة في محاولة التخلص من هذه الأهواء النفسية وطرد الوساوس الشيطانية ومنها تركيزهم على الأوراد والأذكار لأنها تؤدي الى اطمئنان القلب بالإيمان ، ومنها أسلوب الرابطة القلبية مع الشيخ المرشد والمربي .
والغاية من رعاية المريد لصورة شيخه هو ان يتأدب في حال استحضارها وكأنه مع شيخه حاضرا معه حسا ، وهذا التأدب الروحي يحمل المريد على الاعراض عن سفاسف الامور ويستغني به في الغيبة كالحضور ، وبدل ان يعمل المريد بعبادته وفي خواطره صور الدنيا من اموال واولاد أو يذهب به الفكر إلى متع الدنيا وشهواتها ، فان تصوره لشيخه يحمله على التفكر بعظمة الله تعالى والخوف من عقابه والرغبة في ثوابه والشوق إلى محبته ولقاءه .
الرابطة القلبية عند الصوفية هي ادب ووسيلة غايتها ان يحفظ قلب المريد وحاله مع الله تعالى ، فمن خلال التجربة الدينية بشكل عام والتجربة الصوفية بشكل خاص ، يستطيع المرء ان يلاحظ بكل سهولة ان عبادته مع المراقبة ليست كعبادته لوحده ، ولأن كان تحسين العبادة امام الآخرين يورث الرياء فان استشعار الرقيب في حال غيبته لا تشوبه شائبة الرياء لأنه لا يرى غير الله في طاعته وحسن عبادته .
هذه الوسيلة لمن لا يستطيعوا ان يعبدوا الله تعالى كأنهم يروه او كأنه يراهم بل هي لمن تتغلب عليهم الخواطر والأفكار وتخرجهم باستمرار من حضور القلب مع الملك الجبار إلى شواغل الأفكار ، لتساعدهم على الوصول إلى هذه المرتبة . أي ان الرابطة مع صورة الشيخ لغرض تنمية حس الرقيب على النفس والتأدب في حضرة ذلك الرقيب .
ان لهذه الوسيلة التي يقول بها الصوفية أسسها في العقيدة الإسلامية ، ومن ذلك ما جاء في تفسير روح البيان لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) (2)والكينونة هنا تأتي بمعنيين : صورية : وهي بملازمة أهل الصدق ومجالستهم ، ومعنوية : وهي باتخاذ الأسرار ، وتحصيل المناسبة المعنوية . فلا بد من الارتباط بواحد من الصادقين (3) وهذه هي الرابطة عند أهل الطريقة .
ومنها ما ذكره الشيخ عبد القادر الجزائري في معنى قوله:( أن تعبد الله كأنك تراه ) (4) : « أي تتخيله كأنه في قبلتك مثلا ، وأنت بين يديه حتى تتأدب في عيادته ، ويحضر قلبك فيها . فالأمر ورد بهذا التخيل ربطاً للقلوب في الباطن ، عن الخوض والتشتيت ، كما ربط الأجسام باستقبال القبلة في الظاهر ، ربطاً للأجسام عن الالتفات والحركات »(5) .
لقد احب الصحابة الكرام رسول الله وتصوروا صورته في كل احوالهم وسكناتهم ، ولم لا يفعلوا ذلك وقد اخبرهم رسول الله ان الشيطان لا يتمثل به وان من رآه حسا او معنى فقد رآى الحق(6)، وصورته تذكر عباد الله تعالى بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله ، وتجذبهم إلى محبته ، وهي محبة أمر بها المسلمون ، وخير مثال على ذلك حالة ثوبان مولى النبي الذي أتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه ، فلما سأله عن حاله ، اخبره بأنه ليس فيه وجع ، وانما هو شوقه إلى رؤياه واستيحاشه من غياب صورته عنه وقال : « ثم ذكرت الآخرة فخفت الا أراك هناك لأني عرفت انك ترفع مع النبيين »(7) فقال ﷺ : ( والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب اليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين ) (8).
وقد قال بالرابطة القلبية مع الصورة المحمدية في الصلاة وخارجها من أئمة الشافعية الامام الغزالي إذ قال في الاحياء : « واحضر في قلبك النبي ، وشخصه الكريم ، وقل : السلام عليك ايها النبي ، وليصدق املك في انه يبلغه ويرد عليك ما هو اوفى منه »(9).
ومنهم العلامة الشهاب بن حجر المكي في شرح العباد في بيان معان الكلمات : « ويكون تذكر حضوره سببا لمزيد الخشوع والحضور مع الله تعالى »(10).
ومنهم الحافظ جلال الدين السيوطي الذي حكى في كتابه تنوير الحلك في رؤية النبي والملك عن ابن عباس رضي الله عنه انه دخل على بعض أمهات المؤمنين فأخرجت له مرآة رسول الله فنظر فيها فرآى صورته ولم ير صورة نفسه (11) . أي ان صورته كانت قد مكنت من عقل وقلب الرائي حتى انه ينظر اليها في المرآة وكأنه غائب عن نفسه فيها ، وهذه الحالة يسميها الصوفية الفناء في الرابطة او الفناء في الصورة المحمدية .
في حديث صريح يقول رسول الله ﷺ : ( النظر إلى وجه علي عبادة ) (12) وهو حث على التركيز على الصورة لما لها من اثر في عبادة المسلم ، وانما حث رسول الله على ذلك لأن هذه الرؤية تذكر العبد بالله تعالى ، فعن أنس رضي الله عنه انه قال : قالوا : يا رسول الله ، أينا أفضل كي نتخذه جليسا معلما ؟
قال : ( الذين إذا رؤوا ذكر الله لرؤيتهم ) (13).
هذه هي الحكمة من الرابطة ومن حفظ الصورة إذ ان رؤيتها تذكر بالله تعالى ، وتزيد من رابطة العبد مع الله تعالى ، وتحثه على الاقتداء بصلاح الصالحين .
اذن فالرابطة مع صورة الشيخ مقصودة لغيرها ، أي لله تعالى وليس لذات الشيخ ، واما مسألة الشرك ، فهذا يقال لمن يعتقد بالتأليه لغير الله تعالى وهو ما يقول به الصوفية بأي شكل من الاشكال ، او يقال لمن يصرف العبادة لغير الله تعالى وهذا ايضا خارج جملة وتفصيلا عن مقاصد الصوفية .
وللزيادة :
واما فيما يتعلق في مسألة الشرك ومتى يتحقق في الاعتقادات والعبادات يرجى التلطف بالانتقال إلى الرابط ادناه :
الهوامش :
[1] – فيض القدير – عبد الرؤوف المناوي – المكتبة التجارية الكبرى – مصر – ط1 – 1356 هـ- ج2 ص 334 .
[2] – التوبة : 119 .
[3] – الشيخ إسماعيل حقي البروسوي – تفسير روح البيان – ج 5 ص 38 .
[4] – صحيح مسلم – دار احياء التراث العربي – بيروت – ج: 1 ص: 37 .
[5] – الشيخ عبد القادر الجزائري – المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد – ج 1 ص 41 .
[6] – صحيح مسلم – دار احياء التراث العربي – بيروت – ج: 4 ص: 1776 ، قال أبو قتادة قال رسول الله ﷺ ( من رآني فقد رأى الحق )
[7] – تفسير القرطبي – ج: 5 ص: 271
[8] – جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي – دار المعرفة – بيروت – ج: 1 ص: 389
[9] – الغزالي – احياء علوم الدين – دار القلم – بيروت – ط3– ج1 ص 154.
[10] – الشيخ محمد الكسنزان – الانوار الرحمانية – ص 47
[11] – جلال الدين السيوطي – الحاوي للفتاوي – ج 2 / رسالة تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك
[12] – المستدرك على الصحيحين للحاكم – ج 10 / ص 486
[13] – جامع الأصول في أحاديث الرسول للترمذي – دار الجيل -بيروت -ط1 – 1992- ج 2 ص 41